الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما ما يجري مجرى الطيب من إزالة الشعث وقضاء التفث : فحلق الشعر ، وقلم الظفر .

                                                                                                                                أما الحلق فنقول : " لا يجوز للمحرم أن يحلق رأسه قبل يوم النحر لقوله تعالى { ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله } وقول النبي صلى الله عليه وسلم { المحرم الأشعث الأغبر } { وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحاج ؟ فقال : الشعث التفث } وحلق الرأس يزيل الشعث والتفث ; ولأنه من باب الارتفاق بمرافق المقيمين ، والمحرم ممنوع عن ذلك ; ولأنه نوع نبات استفاد الأمن بسبب الإحرام فيحرم التعرض له ، كالنبات الذي استفاد الأمن بسبب الحرم وهو الشجر والخلى .

                                                                                                                                وكذا لا يطلي رأسه بنورة ; لأنه في معنى الحلق ; وكذا لا يزيل شعرة من شعر رأسه ولا يطليها بالنورة لما قلنا .

                                                                                                                                فإن حلق رأسه ، فإن حلقه من غير عذر فعليه دم لا يجزيه غيره ; لأنه ارتفاق كامل من غير ضرورة ، وإن حلقه لعذر فعليه أحد الأشياء الثلاثة لقوله عز وجل : { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ، } ولما روينا من حديث كعب بن عجرة ; ولأن الضرورة لها أثر في التخفيف فخير بين الأشياء الثلاثة تخفيفا وتيسيرا ، وإن حلق ثلثه أو ربعه فعليه دم ، وإن حلق دون الربع ، فعليه صدقة كذا ذكر في ظاهر الرواية ولم يذكر الاختلاف ، وحكى الطحاوي في مختصره الاختلاف فقال : " إذا حلق ربع رأسه يجب عليه الدم " في قول أبي حنيفة .

                                                                                                                                وفي قول أبي يوسف ومحمد : لا يجب ما لم يحلق أكثر رأسه .

                                                                                                                                وذكر القدوري في شرحه مختصر الحاكم : إذا حلق ربع رأسه يجب عليه دم في قول أبي حنيفة .

                                                                                                                                وعند أبي يوسف : إذا حلق أكثره يجب .

                                                                                                                                وعند محمد : إذا حلق شعره يجب .

                                                                                                                                وقال الشافعي : " إذا حلق ثلاث شعرات يجب " وقال مالك : " لا يجب إلا بحلق الكل " وعلى هذا إذا حلق لحيته أو ثلثها أو ربعها ، احتج مالك بقوله تعالى { ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله } والرأس اسم لكل هذا المحدود .

                                                                                                                                وجه قول الشافعي : أن الثلاث جمع صحيح فيقوم مقام الكل ، ولهذا قام مقام الكل في مسح الرأس ; ولأن الشعر نبات استفاد الأمن بسبب الإحرام فيستوي فيه قليله وكثيره ، كالنبات الذي استفاد الأمن بسبب الحرم من الشجر والخلى .

                                                                                                                                وأما الكلام بين أصحابنا فمبني على أن حلق الكثير يوجب الدم ، والقليل يوجب الصدقة ، واختلفوا في الحد الفاصل بين القليل والكثير ، فجعل أبو حنيفة ما دون الربع قليلا ، والربع وما فوقه كثيرا ، وهما على ما ذكر الطحاوي جعلا ما دون النصف قليلا ، وما زاد على النصف كثيرا ، والوجه لهما : أن القليل والكثير من أسماء المقابلة ، وإنما يعرف ذلك بمقابله ، فإن كان مقابله قليلا فهو كثير ، وإن كان كثيرا فهو قليل ، فيلزم منه أن يكون الربع قليلا ; لأن ما يقابله كثير فكان هو قليلا ، والوجه لأبي حنيفة : أن الربع في حلق الرأس بمنزلة الكل ألا ترى أن من عادة كثير من الأجيال من العرب ، والترك ، والكرد الاقتصار على حلق ربع الرأس ، ولذا يقول القائل : رأيت فلانا يكون صادقا في مقالته ، وإن لم ير إلا أحد جوانبه الأربع ، ولهذا أقيم مقام الكل في المسح ، وفي الخروج من الإحرام بأن حلق ربع رأسه للتحلل [ ص: 193 ] والخروج من الإحرام ، أنه يتحلل ويخرج من الإحرام ، فكان حلق ربع الرأس ارتفاقا كاملا فكانت جناية كاملة ، فيوجب كفارة كاملة .

                                                                                                                                وكذا حلق ربع اللحية لأهل بعض البلاد معتاد كالعراق ونحوها ، فكان حلق الربع منها كحلق الكل ، ولا حجة لمالك في الآية ; لأن فيها نهيا عن حلق الكل ، وذا لا ينفي النهي عن حلق البعض ، فكان تمسكا بالمسكوت ، فلا يصح .

                                                                                                                                وما قاله الشافعي غير سديد ; لأن آخذ ثلاث شعرات لا يسمى حالقا في العرف ، فلا يتناوله نص الحلق ، كما لا يسمى ماسح ثلاث شعرات ماسحا في العرف ، حتى لم يتناوله نص المسح ، على أن وجوب الدم متعلق بارتفاق كامل ، وحلق ثلاث شعرات ليس بارتفاق كامل ، فلا يوجب كفارة كاملة ، وقوله : إنه نبات استفاد الأمن بسبب الإحرام مسلم ، لكن هذا يقتضي حرمة التعرض لقليله وكثيره ونحن به نقول ، ولا كلام فيه ، وإنما الكلام في وجوب الدم ، وذا يقف على ارتفاق كامل ولم يوجد ، وقد خرج الجواب عن قولهما : إن القليل والكثير يعرف بالمقابلة لما ذكرنا أن الربع كثير من غير مقابلة في بعض المواضع فيعمل عليه في موضع الاحتياط .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية