الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
فصل

الحب لله وحده

فإذا عرف ذلك فكل حي له إرادة ومحبة وعمل بحسبه ، وكل متحرك فأصل حركته المحبة والإرادة ، ولا صلاح للموجودات إلا بأن تكون حركاتها ومحبتها لفاطرها وبارئها وحده ، كما لا وجود لها إلا بإبداعه وحده .

ولهذا قال تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ سورة الأنبياء : 22 ] .

ولم يقل سبحانه : لما وجدتا ولكانتا معدومتين ، ولا قال : لعدمتا ، إذ هو سبحانه قادر على أن يبقيهما على وجه الفساد ، لكن لا يمكن أن يكونا على وجه الصلاح والاستقامة إلا بأن يكون الله وحده هو معبودهما ، ومعبود ما حوتاه وسكن فيهما ، فلو كان في العالم إلهان لفسد نظامه غاية الفساد ، فإن كل إله كان يطلب مغالبة الآخر ، والعلو عليه ، وتفرده دونه بإلهيته ، إذ الشركة نقص في كمال الإلهية ، والإله لا يرضى لنفسه أن يكون إلها ناقصا ، فإن قهر أحدهما الآخر كان هو الإله وحده ، والمقهور ليس بإله ، وإن لم يقهر أحدهما الآخر لزم عجز كل منهما ، ولم يكن تام الإلهية ، فيجب أن يكون فوقهما إله قاهر لهما حاكم عليهما ، وإلا ذهب كل منهما بما خلق ، وطلب كل منهما العلو على الآخر ، وفي ذلك فساد أمر السماوات والأرض ومن فيها ، كما هو المعهود من فساد البلد إذا كان فيها ملكان متكافئان ، وفساد الزوجة إذا كان لها بعلان ، والشول : إذا كان فيه فحلان .

وأصل فساد العالم إنما هو من اختلاف الملوك والخلفاء ، ولهذا لم يطمع أعداء الإسلام [ ص: 203 ] فيه في زمن من الأزمنة إلا في زمن تعدد الملوك من المسلمين واختلافهم ، وانفراد كل منهم ببلاد ، وطلب بعضهم العلو على بعض .

فصلاح السماوات والأرض واستقامتها ، وانتظام أمر المخلوقات على أتم نظام من أظهر الأدلة على أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ، وأن كل معبود من لدن عرشه إلى قرار أرضه باطل إلا وجهه الأعلى ، قال الله تعالى : ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون [ سورة المؤمنون : 91 - 93 ] .

وقال تعالى : أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون لا يسأل عما يفعل وهم يسألون [ سورة الأنبياء : 21 - 23 ] .

وقال تعالى : قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا [ سورة الإسراء : 42 ] .

فقيل : لابتغوا السبيل إليه بالمغالبة والقهر كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض ، ويدل عليه قوله في الآية الأخرى : ولعلا بعضهم على بعض .

قال شيخنا - رضي الله عنه - : والصحيح أن المعنى : لابتغوا إليه سبيلا بالتقرب إليه وطاعته ، فكيف تعبدونهم من دونه ؟ وهم لو كانوا آلهة كما يقولون لكانوا عبيدا له ، قال : ويدل على هذا وجوه :

منها : قوله تعالى : أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه [ سورة الإسراء : 57 ] .

أي هؤلاء الذين تعبدونهم من دوني هم عبادي كما أنتم عبادي ، ويرجون رحمتي ويخافون عذابي ، فلماذا تعبدونهم من دوني ؟

الثاني : أنه سبحانه لم يقل لابتغوا عليه سبيلا ، بل قال : لابتغوا إليه سبيلا ، وهذا اللفظ إنما يستعمل في التقرب ، كقوله تعالى : اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة [ سورة المائدة : 35 ] .

[ ص: 204 ] وأما في المغالبة فإنما يستعمل بعلى كقوله : فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا [ سورة النساء : 34 ] .

والثالث : أنهم لم يقولوا إن آلهتهم تغالبه وتطلب العلو عليه ، وهو سبحانه قد قال : قل لو كان معه آلهة كما يقولون وهم إنما كانوا يقولون : إن آلهتهم تبتغي التقرب إليه وتقربهم زلفى إليه ، فقالوا : لو كان الأمر كما تقولون لكانت تلك الآلهة عبيدا له ، فلماذا تعبدون عبيده من دونه ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية