الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ، هذا العبد المذكور في هذه الآية الكريمة هو الخضر عليه السلام بإجماع العلماء ، ودلالة النصوص الصحيحة على ذلك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه الرحمة والعلم اللدني اللذان ذكر الله امتنانه عليه بهما لم يبين هنا هل هما رحمة النبوة وعلمها ، أو رحمة الولاية وعلمها ، والعلماء مختلفون في الخضر : هل هو نبي ، أو رسول ، أو ولي ، كما قال الراجز :

                                                                                                                                                                                                                                      واختلفت في خضر أهل العقول قيل نبي أو ولي أو رسول



                                                                                                                                                                                                                                      وقيل ملك ، ولكنه يفهم من بعض الآيات أن هذه الرحمة المذكورة هنا رحمة نبوة ، وأن هذا العلم اللدني علم وحي ، مع العلم بأن في الاستدلال بها على ذلك مناقشات معروفة عند العلماء .

                                                                                                                                                                                                                                      اعلم أولا أن الرحمة تكرر إطلاقها على النبوة في القرآن ، وكذلك العلم المؤتى [ ص: 323 ] من الله تكرر إطلاقه فيه على علم الوحي ، فمن إطلاق الرحمة على النبوة قوله تعالى في " الزخرف " : وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك الآية [ 43 \ 31 ] ، أي : نبوته حتى يتحكموا في إنزال القرآن على رجل عظيم من القريتين ، وقولـه تعالى في سورة " الدخان " : فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين رحمة من ربك الآية [ 44 \ 4 - 5 ] ، وقولـه تعالى في آخر " القصص " : وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك الآية [ 28 \ 86 ] ، ومن إطلاق إيتاء العلم على النبوة قوله تعالى : وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما [ 4 \ 113 ] ، وقوله : وإنه لذو علم لما علمناه الآية [ 12 \ 68 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعلوم أن الرحمة وإيتاء العلم اللدني أعم من كون ذلك عن طريق النبوة وغيرها ، والاستدلال بالأعم على الأخص فيه أن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص كما هو معروف ، ومن أظهر الأدلة في أن الرحمة والعلم اللدني اللذين امتن الله بهما على عبده الخضر عن طريق النبوة والوحي قوله تعالى عنه : وما فعلته عن أمري [ 18 \ 82 ] ، أي : وإنما فعلته عن أمر الله جل وعلا ، وأمر الله إنما يتحقق عن طريق الوحي ، إذ لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه إلا الوحي من الله جل وعلا ، ولا سيما قتل الأنفس البريئة في ظاهر الأمر ، وتعييب سفن الناس بخرقها ; لأن العدوان على أنفس الناس وأموالهم لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله تعالى ، وقد حصر تعالى طرق الإنذار في الوحي في قوله تعالى : قل إنما أنذركم بالوحي [ 21 \ 45 ] ، و " إنما " صيغة حصر ، فإن قيل : قد يكون ذلك عن طريق الإلهام ؟ فالجواب أن المقرر في الأصول أن الإلهام من الأولياء لا يجوز الاستدلال به على شيء ، لعدم العصمة ، وعدم الدليل على الاستدلال به ، بل لوجود الدليل على عدم جواز الاستدلال به ، وما يزعمه بعض المتصوفة من جواز العمل بالإلهام في حق الملهم دون غيره ، وما يزعمه بعض الجبرية أيضا من الاحتجاج بالإلهام في حق الملهم وغيره جاعلين الإلهام كالوحي المسموع مستدلين بظاهر قوله تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام [ 6 \ 125 ] ، وبخبر " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " كله باطل لا يعول عليه ، لعدم اعتضاده بدليل ، وغير المعصوم لا ثقة بخواطره ; لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان ، وقد ضمنت الهداية في اتباع الشرع ، ولم تضمن في اتباع الخواطر والإلهامات ، والإلهام في الاصطلاح : إيقاع شيء [ ص: 324 ] في القلب يثلج له الصدر من غير استدلال بوحي ولا نظر في حجة عقلية ، يختص الله به من يشاء من خلقه ، أما ما يلهمه الأنبياء مما يلقيه الله في قلوبهم فليس كإلهام غيرهم ، لأنهم معصومون بخلاف غيرهم ، قال في مراقي السعود في كتاب الاستدلال :

                                                                                                                                                                                                                                      وينبذ الإلهام بالعراء أعني به إلهام الأولياء وقد رآه بعض من تصوفا وعصمة النبي توجب اقتفا وبالجملة ، فلا يخفى على من له إلمام بمعرفة دين الإسلام أنه لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه ، وما يتقرب إليه به من فعل وترك إلا عن طريق الوحي ، فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل ، وما جاءوا به ولو في مسألة واحدة فلا شك في زندقته ، والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تحصى ، قال تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] ، ولم يقل حتى نلقي في القلوب إلهاما ، وقال تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] ، وقال : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك الآية [ 20 \ 134 ] ، والآيات والأحاديث بمثل هذا كثيرة جدا ، وقد بينا طرفا من ذلك في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] ، وبذلك تعلم أن ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين التصوف من أن لهم ولأشياخهم طريقا باطنة توافق الحق عند الله ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع ، كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى ، زندقة ، وذريعة إلى الانحلال بالكلية من دين الإسلام ، بدعوى أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره .

                                                                                                                                                                                                                                      قال القرطبي رحمه الله في تفسيره ما نصه : قال شيخنا الإمام أبو العباس : ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق لا تلزم منه هذه الأحكام الشرعية فقالوا : هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأنبياء والعامة ، وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص ، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم ، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم ، وقالوا : وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار ، وخلوها عن الأغيار ، فتتجلى لهم العلوم الإلهية ، والحقائق الربانية ، فيقفون على أسرار الكائنات ، ويعلمون أحكام الجزئيات ، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات ، كما اتفق للخضر فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم عما كان عند موسى من تلك الفهوم ، وقد جاء فيما [ ص: 325 ] ينقلون " استفت قلبك وإن أفتاك المفتون " ، قال شيخنا رضي الله عنه : وهذا القول زندقة وكفر ، يقتل قائله ولا يستتاب ; لأنه إنكار ما علم من الشرائع ، فإن الله تعالى قد أجرى سنته ، وأنفذ حكمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه ، وهم المبلغون عنه رسالته وكلامه ، المبينون شرائعه وأحكامه ، اختارهم لذلك وخصهم بما هنالك ، كما قال تعالى : الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير [ 22 \ 75 ] ، وقال تعالى : الله أعلم حيث يجعل رسالته [ 6 \ 124 ] ، وقال تعالى : كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين [ 2 \ 213 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى الجملة ، فقد حصل العلم القطعي واليقين الضروري ، واجتماع السلف والخلف على أن لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه ، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل ، فمن قال إن هناك طريقا أخرى يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل حيث يستغني عن الرسل فهو كافر يقتل ولا يستتاب ، ولا يحتاج معه إلى سؤال وجواب ، ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا صلى الله عليه وسلم ، الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله ، فلا نبي بعده ولا رسول .

                                                                                                                                                                                                                                      وبيان ذلك أن من قال : يأخذ عن قلبه ، وأن ما يقع فيه حكم الله تعالى ، وأنه يعمل بمقتضاه ، وأنه ولا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة ، فإن هذا نحو ما قاله صلى الله عليه وسلم : " إن روح القدس نفث في روعي . " الحديث ، انتهى من تفسير القرطبي .

                                                                                                                                                                                                                                      وما ذكره في كلام شيخه المذكور من أن الزنديق لا يستتاب هو مذهب مالك ومن وافقه ، وقد بينا أقوال العلماء في ذلك وأدلتهم ، وما يرجحه الدليل في كتابنا ) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ( في سورة " آل عمران " ، وما يستدل به بعض الجهلة ممن يدعي التصوف على اعتبار الإلهام من ظواهر بعض النصوص كحديث " استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك " لا دليل فيه البتة على اعتبار الإلهام : لأنه لم يقل أحد ممن يعتد به أن المفتي الذي تتلقى الأحكام الشرعية من قبله القلب ، بل من الحديث : التحذير من الشبه ; لأن الحرام بين والحلال بين ، وبينهما أمور مشتبهة لا يعلمها كل الناس .

                                                                                                                                                                                                                                      فقد يفتيك المفتي بحلية شيء وأنت تعلم من طريق أخرى أنه يحتمل أن يكون حراما ، وذلك باستناد إلى الشرع ، فإن قلب المؤمن لا يطمئن لما فيه الشبهة ، والحديث ، كقوله " دع ما [ ص: 326 ] يريبك إلى ما لا يريبك " وقولـه صلى الله عليه وسلم : " البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس " رواه مسلم من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه ، وحديث وابصة بن معبد رضي الله عنه المشار إليه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " جئت تسأل عن البر " ؟ قلت نعم : قال : " استفت قلبك ، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك " قال النووي في ) رياض الصالحين ( : حديث حسن ، رواه أحمد والدارمي في مسنديهما ، ولا شك أن المراد بهذا الحديث ونحوه الحث على الورع وترك الشبهات ، فلو التبست مثلا ميتة بمذكاة ، أو امرأة محرم بأجنبية ، وأفتاك بعض المفتين بحلية إحداهما لاحتمال أن تكون هي المذكاة في الأول ، والأجنبية في الثاني ، فإنك إذا استفتيت قلبك علمت أنه يحتمل أن تكون هي الميتة أو الأخت ، وأن ترك الحرام والاستبراء للدين والعرض لا يتحقق إلا بتجنب الجميع ; لأن ما لا يتم ترك الحرام إلا بتركه فتركه واجب ، فهذا يحيك في النفس ولا تنشرح له ، لاحتمال الوقوع في الحرام فيه كما ترى ، وكل ذلك مستند لنصوص الشرع لا للإلهام .

                                                                                                                                                                                                                                      ومما يدل على ما ذكرنا من كلام أهل الصوفية المشهود لهم بالخير والدين والصلاح قول الشيخ أبي القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد الخزاز القواريري رحمه الله : ( مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة ) ، نقله عنه غير واحد ممن ترجمه رحمه الله ، كابن كثير وابن خلكان وغيرهما ، ولا شك أن كلامه المذكور هو الحق ، فلا أمر ولا نهي إلا على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وبهذا كله تعلم أن قتل الخضر للغلام ، وخرقه للسفينة ، وقوله : وما فعلته عن أمري ، دليل ظاهر على نبوته . وعزا الفخر الرازي في تفسيره القول بنبوته للأكثرين ، ومما يستأنس به للقول بنبوته تواضع موسى عليه الصلاة والسلام له في قوله : قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا [ 18 \ 66 ] ، وقولـه : قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا [ 18 \ 69 ] ، مع قول الخضر له وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ، [ 18 \ 68 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية