الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا .

                                                                                                                                                                                                                                      بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أنه وإن لم يعجل لهم العذاب في الحال فليس غافلا عنهم ولا تاركا [ ص: 317 ] عذابهم ، بل هو تعالى جاعل لهم موعدا يعذبهم فيه ، لا يتأخر العذاب عنه ولا يتقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      وبين هذا في مواضع أخر ، كقوله في " النحل " : ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون [ 16 \ 61 ] ، وقولـه في آخر سورة " فاطر " : ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا [ 35 \ 45 ] ، وكقوله : ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار [ 14 \ 42 ] ، وكقوله : ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب [ 29 \ 53 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد دلت آيات كثيرة على أن الله لا يؤخر شيئا عن وقته الذي عين له ولا يقدمه عليه ، كقوله : ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها [ 63 \ 11 ] ، وقولـه : فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون [ 7 \ 34 ] ، وقولـه تعالى : إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر الآية [ 71 \ 4 ] ، وقولـه : لكل أجل كتاب [ 13 \ 38 ] ، وقولـه : لكل نبإ مستقر [ 6 \ 67 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                      وقولـه في هذه الآية الكريمة : لن يجدوا من دونه موئلا [ 18 \ 57 ] ، أي : ملجأ يلجئون إليه فيعتصمون به من ذلك العذاب المجعول له الموعد المذكور ، وهو اسم مكان ، من وأل يئل وألا ووءولا بمعنى لجأ ، ومعلوم في فن الصرف أن واوي الفاء من الثلاثي ينقاس مصدره الميمي واسم مكانه وزمانه على المفعل بكسر العين كما هنا ، ما لم يكن معتل اللام فالقياس فيه الفتح كالمولى ، والعرب تقول : لا وألت نفسه ، أي : لا وجدت منجى تنجو به ، ومنه قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      لا وألت نفسك خليتها للعامريين ولم تكلم

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأعشى :


                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخالس رب البيت غفلته     وقد يحاذر مني ثم ما يئل

                                                                                                                                                                                                                                      أي ما ينجو .

                                                                                                                                                                                                                                      وأقوال المفسرين في " الموئل " راجعة إلى ما ذكرنا ، كقول بعضهم : موئلا محيصا ، وقول بعضهم منجى ، وقول بعضهم محرزا ، إلى غير ذلك ، فكله بمعنى ما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 318 ] وقولـه تعالى : وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا ، بين في هذه الآية الكريمة : أن القرى الماضية لما ظلمت بتكذيب الرسل والعناد واللجاج في الكفر والمعاصي أهلكهم الله بذنوبهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الإجمال في تعيين هذه القرى وأسباب هلاكها ، وأنواع الهلاك التي وقعت بها جاء مفصلا في آيات أخر كثيرة ، كما جاء في القرآن من قصة قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم شعيب ، وقوم موسى ، كما تقدم بعض تفاصيله ، والقرى : جمع قرية على غير قياس ; لأن جمع التكسير على " فعل " بضم ففتح لا ينقاس إلا في جمع " فعلة " بالضم اسما كغرفة وقربة ، أو " فعلى " إذا كانت أنثى الأفعل خاصة ، كالكبرى والكبر ، كما أشار لذلك في الخلاصة بقوله :

                                                                                                                                                                                                                                      وفعل جمعا لفعلة عرف ونحو كبرى . . . إلخ أي : وأما في غير ذلك فسماع يحفظ ولا يقاس عليه ، وزاد في التسهيل نوعا ثالثا ينقاس فيه " فعل " بضم ففتح ، وهو الفعلة بضمتين إن كان اسما كجمعة وجمع ، واسم الإشارة في قوله : وتلك القرى [ 18 \ 59 ] ، إنما أشير به لهم لأنهم يمرون عليها في أسفارهم ، كقوله : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون [ 37 \ 137 - 138 ] ، وقولـه : وإنها لبسبيل مقيم [ 15 \ 76 ] ، وقولـه : وإنهما لبإمام مبين [ 15 \ 79 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                      وقولـه " وتلك " مبتدأ و " القرى " صفة له ، أو عطف بيان ، وقولـه : " أهلكناهم " هو الخبر ، ويجوز أن يكون الخبر هو " القرى " وجملة " أهلكناهم " في محل حال ، كقوله : فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا [ 27 \ 52 ] ، ويجوز أن يكون قوله : " وتلك " في محل نصب بفعل محذوف يفسره العامل المشتغل بالضمير ، على حد قوله في الخلاصة :


                                                                                                                                                                                                                                      إن مضمر اسم سابق فعلا شغل     عنه بنصب لفظه أو المحل
                                                                                                                                                                                                                                      فالسابق انصبه بفعل أضمرا     حتما موافق لما قد أظهرا

                                                                                                                                                                                                                                      وقولـه في هذه الآية الكريمة : لمهلكهم موعدا [ 18 \ 59 ] ، قرأه عامة السبعة ما عدا عاصما بضم الميم وفتح اللام على صيغة اسم المفعول ، وهو محتمل على هذه القراءة أن يكون مصدرا ميميا ، أي : جعلنا لإهلاكهم موعدا ، وأن يكون اسم زمان ، أي : [ ص: 319 ] وجعلنا لوقت إهلاكهم موعدا ، وقد تقرر في فن الصرف أن كل فعل زاد ماضيه على ثلاثة أحرف مطلقا فالقياس في مصدره الميمي واسم مكانه واسم زمانه أن يكون الجميع بصيغة اسم المفعول ، والمهلك بضم الميم من أهلكه الرباعي ، وقرأه حفص عن عاصم " لمهلكهم " بفتح الميم وكسر اللام ، وقرأه شعبة عن عاصم " لمهلكهم " بفتح الميم واللام معا ، والظاهر أنه على قراءة حفص اسم زمان ، أي : وجعلنا لوقت هلاكهم موعدا ; لأنه من هلك يهلك بالكسر ، وما كان ماضيه على " فعل " بالفتح ومضارعه " يفعل " بالكسر كهلك يهلك ، وضرب يضرب ، ونزل ينزل فالقياس في اسم مكانه وزمانه " المفعل " بالكسر ، وفي مصدره الميمي المفعل بالفتح ، تقول هذا منزله بالكسر أي : مكان نزوله أو وقت نزوله ، وهذا " منزله " بفتح الزاي ، أي : نزوله ، وهكذا ، منه قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      أإن ذكرتك الدار منزلها جمل     بكيت فدمع العين منحدر سجل

                                                                                                                                                                                                                                      فقوله : " منزلها جمل " بالفتح ، أي : نزول جمل إياها وبه تعلم أنه على قراءة شعبة " لمهلكهم " بفتح الميم واللام أنه مصدر ميمي ، أي : وجعلنا لهلاكهم موعدا ، والموعد : الوقت المحدد لوقوع ذلك فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية