الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا .

                                                                                                                                                                                                                                      بين في هذه الآية الكريمة : أن الذين جعل الله على قلوبهم أكنة تمنعهم أن يفقهوا ما ينفعهم من آيات القرآن التي ذكروا بها لا يهتدون أبدا ، فلا ينفع فيهم دعاؤك إياهم إلى الهدى ، وهذا المعنى الذي أشار [ ص: 314 ] له هنا من أن من أشقاهم الله لا ينفع فيهم التذكير جاء مبينا في مواضع أخر ، كقوله : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [ 10 \ 96 ] ، وقولـه تعالى : كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم [ 26 \ 200 ] ، وقولـه تعالى : وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون [ 10 \ 101 ] ، وقولـه تعالى : وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون [ 10 \ 100 ] ، وقولـه تعالى : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين [ 16 \ 37 ] ، وهذه الآية وأمثالها في القرآن فيها وجهان معروفان عند العلماء .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنها في الذين سبق لهم في علم الله أنهم أشقياء ، عياذا بالله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أن المراد أنهم كذلك ما داموا متلبسين بالكفر ، فإن هداهم الله إلى الإيمان وأنابوا زال ذلك المانع ، والأول أظهر ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      والفاء في قوله : فلن يهتدوا [ 18 \ 57 ] ; لأن الفعل الذي بعد " لن " لا يصلح أن يكون شرطا لـ " إن " ونحوها ، والجزاء إذا لم يكن صالحا لأن يكون شرطا لـ " إن " ونحوها لزم اقترانه بالفاء ، كما عقده في الخلاصة بقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      واقرن بفا حتما جوابا لو جعل شرطا لإن أو غيرها لم ينجعل

                                                                                                                                                                                                                                      وقولـه في هذه الآية الكريمة " إذا " جزاء وجواب ، فدل على انتفاء اهتدائهم لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سببا للاهتداء سببا لانتفائه ; لأن المعنى : فلن يهتدوا إذا دعوتهم ، ذكر هذا المعنى الزمخشري ، وتبعه أبو حيان في البحر ، وهذا المعنى قد غلطا فيه ، وغلط فيه خلق لا يحصى كثرة من البلاغيين وغيرهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وإيضاح ذلك أن الزمخشري هنا وأبا حيان ظنا أن قوله : وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا شرط وجزاء ، وأن الجزاء مرتب على الشرط كترتيب الجزاء على ما هو شرط فيه ; ولذا ظنا أن الجزاء الذي هو عدم الاهتداء المعبر عنه في الآية بقوله : فلن يهتدوا مرتب على الشرط الذي هو دعاؤه إياهم المعبر عنه في الآية بقوله : وإن تدعهم إلى الهدى ، المشار إليه أيضا بقوله " إذا " فصار دعاؤه إياهم سبب انتفاء اهتدائهم وهذا غلط ; لأن هذه القضية الشرطية في هذه الآية الكريمة ليست شرطية لزومية ، حتى يكون بين شرطها وجزائها ارتباط ، بل هي شرطية اتفاقية ، والشرطية الاتفاقية [ ص: 315 ] لا ارتباط أصلا بين طرفيها ، فليس أحدهما سببا في الآخر ، ولا ملزوما له ، كما لو قلت : إن كان الإنسان ناطقا فالفرس صاهل فلا ربط بين الطرفين ; لأن الجزاء في الاتفاقية له سبب آخر غير مذكور ، كقولك : لو لم يخف الله لم يعصه ; لأن سبب انتفاء العصيان ليس هو عدم الخوف الذي هو الشرط ، بل هو شيء آخر غير مذكور ، وهو تعظيم الله جل وعلا ، ومحبته المانعة من معصيته ، وكذلك قوله هنا : فلن يهتدوا إذا أبدا ، سببه الحقيقي غير مذكور معه فليس هو قوله " وإن تدعهم " كما ظنه الزمخشري وأبو حيان وغيرهما ، بل سببه هو إرادة الله جل وعلا انتفاء اهتدائهم على وفق ما سبق في علمه أزلا .

                                                                                                                                                                                                                                      ونظير هذه الآية الكريمة في عدم الارتباط بين طرفي الشرطية قوله تعالى : قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم [ 3 \ 154 ] ; لأن سبب بروزهم إلى مضاجعهم شيء آخر غير مذكور في الآية ، وهو ما سبق في علم الله من أن بروزهم إليها لا محالة واقع ، وليس سببه كينونتهم في بيوتهم المذكورة في الآية ، وكذلك قوله تعالى : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر [ 18 \ 109 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وقد أوضحت الفرق بين الشرطية اللزومية والشرطية الاتفاقية في أرجوزتي في المنطق وشرحي لها في قولي :


                                                                                                                                                                                                                                      مقدم الشرطية المتصله مهما تكن     صحبة ذاك التال له لموجب قد اقتضاها
                                                                                                                                                                                                                                      كسبب فهي اللزومية     ثم إن ذهب موجب الاصطحاب
                                                                                                                                                                                                                                      ذا بينهما فالاتفاقية عند العلما     ومثال الشرطية المتصلة اللزومية قولك
                                                                                                                                                                                                                                      : كلما كانت الشمس طالعة     كان النهار موجودا

                                                                                                                                                                                                                                      ، لظهور التلازم بين الطرفين ، ويكفي في ذلك حصول مطلق اللازمية دون التلازم من الطرفين ، كقولك : كلما كان الشيء إنسانا كان حيوانا ، إذ لا يصدق عكسه .

                                                                                                                                                                                                                                      فلو قلت : كلما كان الشيء حيوانا كان إنسانا لم يصدق ; لأن اللزوم في أحد الطرفين لا يقتضي الملازمة في كليهما ، ومطلق اللزوم تكون به الشرطية لزومية ، أما إذا عدم اللزوم من أصله بين طرفيها فهي اتفاقية ، ومثالها : كلمة كان الإنسان ناطقا كان الحمار ناهقا ، وبسبب عدم التنبه للفرق بين الشرطية اللزومية ، والشرطية الاتفاقية ارتبك خلق كثير من النحويين والبلاغيين في الكلام على معنى " لو " لأنهم أرادوا أن يجمعوا في [ ص: 316 ] المعنى بين قولك : لو كانت الشمس طالعة لكان النهار موجودا ، وبين قولك : لو لم يخف الله لم يعصه ، مع أن الشرط سبب في الجزاء في الأول ; لأنها شرطية لزومية ، ولا ربط بينهما في الثاني لأنها شرطية اتفاقية ، ولا شك أن من أراد أن يجمع بين المفترقين ارتبك ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية