الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذكر من توفي فيها من المشاهير والأعيان

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      سعيد بن جبير الأسدي الوالبي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      مولاهم ، أبو محمد ، ويقال : أبو عبد الله ، الكوفي المكي ، من أكابر أصحاب ابن عباس ، كان من أئمة الإسلام في التفسير والفقه وأنواع العلوم ، وكثرة العمل الصالح ، رحمه الله ، وقد رأى خلقا من الصحابة ، وروى عن جماعة منهم ، وعنه خلق من التابعين ، يقال : إنه كان يقرأ القرآن فيما بين المغرب والعشاء ختمة تامة ، وكان يقعد في الكعبة القعدة فيقرأ فيها الختمة ، وربما قرأها في ركعة [ ص: 469 ] في جوف الكعبة ، وقد قال ابن عباس ، وقد أتاه أهل الكوفة يسألونه : أليس فيكم سعيد بن جبير؟

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال سفيان الثوري ، عن عمرو بن ميمون ، عن أبيه قال : لقد مات سعيد بن جبير ، وما على وجه الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان في جملة من خرج مع ابن الأشعث على الحجاج ، فلما ظفر الحجاج هرب سعيد إلى أصبهان ، ثم كان يتردد في كل سنة إلى مكة مرتين; مرة للعمرة ومرة للحج ، وربما دخل الكوفة في بعض الأحيان فحدث بها ، وكان بخراسان يتحزن; لأنه كان لا يسأله أحد عن شيء من العلم هناك ، وكان يقول : إن مما يهمني ما عندي من العلم ، وددت أن الناس أخذوه . واستمر في هذا الحال مختفيا من الحجاج قريبا من ثنتي عشرة سنة ، ثم أرسله خالد القسري من مكة إلى الحجاج ، فكان من مخاطبته له ما ذكرناه قريبا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو نعيم في كتابه " حلية الأولياء " : ثنا أبو حامد بن جبلة ، ثنا محمد بن إسحاق ، ثنا محمد بن أحمد بن أبي خلف ، ثنا سفيان ، عن سالم بن أبي حفصة قال : لما أتي بسعيد بن جبير إلى الحجاج قال له : أنت شقي [ ص: 470 ] بن كسير؟ قال : لا ، إنما أنا سعيد بن جبير . قال : لأقتلنك . قال : أنا إذا كما سمتني أمي . ثم قال : دعوني أصل ركعتين . قال : وجهوه إلى قبلة النصارى . قال : فأينما تولوا فثم وجه الله . قال : إني أستعيذ منك بما استعاذت به مريم . قال : وما عاذت به؟ قال : قالت : إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال سفيان : لم يقتل بعده إلا رجلا واحدا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكرنا صفة مقتله إياه ، وقد رويت آثار غريبة في صفة مقتله ، أكثرها لا يصح ، وقد عوقب الحجاج بعده وعوجل بالعقوبة ، فلم يلبث بعده إلا قليلا ثم أخذه الله أخذ عزيز مقتدر كما سنذكر وفاته في السنة الآتية فقيل : إنه مكث بعده خمسة عشر يوما . وقيل : أربعين يوما . وقيل : ستة أشهر . فالله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      واختلفوا في عمر سعيد بن جبير ، رحمه الله ، حين قتل ، فقيل : كان عمره تسعا وأربعين سنة . وقيل : سبعا وخمسين . فالله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 471 ] قال أبو القاسم اللالكائي : كان مقتله في سنة خمس وتسعين . وذكر ابن جرير مقتله في هذه السنة; سنة أربع وتسعين . فالله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أبو محمد المدني المخزومي ، سيد التابعين على الإطلاق ، ولد لسنتين مضتا - وقيل : بقيتا - من خلافة عمر بن الخطاب . وقيل : لأربع مضين منها . وقول الحاكم أبي عبد الله : أنه أدرك العشرة . وهم منه . والله أعلم . ولكن أرسل عنهم كما أرسل كثيرا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وروى عن عمر كثيرا ، فقيل : سمع منه . وقيل : لم يسمع . وعن عثمان وعلي وسعد وأبي هريرة وكان زوج ابنته وأعلم الناس بحديثه وروى عن جماعة من الصحابة ، وحدث عن جماعة من التابعين ، وخلق ممن سواهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 472 ] قال ابن عمر : كان سعيد أحد المفتين . وقال الزهري : جالسته سبع حجج ، وأنا لا أظن عند أحد علما غيره . وقال محمد بن إسحاق ، عن مكحول قال : طفت الأرض كلها في طلب العلم ، فما لقيت أعلم من سعيد بن المسيب .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأوزاعي : سئل الزهري ومكحول : من أفقه من لقيتما؟ قالا : سعيد بن المسيب .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال قتادة : ما رأيت أعلم بالحلال والحرام منه . وكان الحسن إذا أشهل عليه شيء كتب إلى سعيد بن المسيب . وقال غيره كان يقال له : فقيه الفقهاء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب : كنت أرحل الأيام [ ص: 473 ] والليالي في طلب الحديث الواحد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال مالك : وبلغني أن ابن عمر كان يرسل إلى سعيد بن المسيب يسأله عن قضايا عمر وأحكامه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الربيع عن الشافعي ، أنه قال : إرسال سعيد بن المسيب عندنا حسن .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام أحمد بن حنبل : هي صحاح . قال : وسعيد بن المسيب أفضل التابعين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال علي بن المديني : لا أعلم في التابعين أوسع علما منه . وإذا قال سعيد : مضت السنة . فحسبك به ، وهو عندي أجل التابعين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أحمد بن عبد الله العجلي : كان سعيد رجلا صالحا فقيها ، كان لا يأخذ العطاء ، وكانت له بضاعة ، أربعمائة دينار ، وكان يتجر في الزيت ، وكان أعور .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو زرعة : مدني ثقة إمام .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 474 ] وقال أبو حاتم : ليس في التابعين أنبل منه ، وهو أثبتهم في أبي هريرة . قال الواقدي : توفي في سنة الفقهاء ، وهي سنة أربع وتسعين ، عن خمس وسبعين سنة . رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 475 ] طلق بن حبيب العنزي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      تابعي جليل ، روى عن أنس ، وجابر ، وابن الزبير ، وابن عباس ، وعبد الله بن عمرو ، وغيرهم ، وعنه حميد الطويل ، والأعمش وطاوس ، وهو من أقرانه ، وأثنى عليه في قراءته عمرو بن دينار ، وقد أثنى عليه غير واحد من الأئمة ، ولكن تكلموا فيه من جهة أنه كان يقول بالإرجاء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان فيمن خرج مع ابن الأشعث ، وكان يقول : اتقوها بالتقوى . فقيل له : صف لنا التقوى . فقال : التقوى العمل بطاعة الله على نور من الله ، رجاء رحمة الله ، والتقوى ترك معاصي الله ، على نور من الله; مخافة عذاب الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أيضا : إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد ، وإن نعمه أكثر من أن تحصى ، ولكن أصبحوا تائبين ، وأمسوا تائبين . قال مالك : قتله الحجاج وجماعة من القراء; منهم سعيد بن جبير .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 476 ] وقد ذكر ابن جرير فيما سبق أن خالد بن عبد الله القسري بعث من مكة ثلاثة إلى الحجاج ، وهم مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وطلق بن حبيب ، فمات طلق في الطريق ، وحبس مجاهد ، وكان من أمر سعيد ما كان ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عروة بن الزبير بن العوام ، القرشي الأسدي ، أبو عبد الله المدني

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      تابعي جليل ، روى عن أبيه ، وعن العبادلة ، ومعاوية ، والمغيرة ، وأبي هريرة ، وأمه أسماء ، وخالته عائشة ، وأم سلمة ، وعنه جماعة من التابعين ، وخلق ممن سواهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال محمد بن سعد : كان عروة ثقة ، كثير الحديث ، عالما مأمونا ثبتا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال العجلي : مدني ، تابعي ، رجل صالح ، لم يدخل في شيء من الفتن .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الواقدي : كان فقيها ، عالما ، حافظا ، ثبتا ، حجة ، عالما بالسير ، وهو أول من صنف المغازي ، وكان من فقهاء المدينة المعدودين ، ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه ، وكان أروى الناس للشعر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو بكر بن محمد بن الحارث بن هشام : العلم لواحد من ثلاثة : لذي حسب يزينه به ، أو ذي دين [ ص: 477 ] يسوس به دينه ، أو مختلط بسلطان يتحفه بعلمه . وقال : ولا أعلم أحدا أشرط لهذه الخصال الثلاث إلا عروة بن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان عروة يقرأ كل يوم ربع القرآن ، ويقوم به في الليل . وكان أيام الرطب يثلم حائطه ، ثم يأذن للناس ، فيدخلون فيأكلون ويحملون ، فإذا ذهب الرطب أعاده . وقال الزهري : كان عروة بحرا لا ينزف ، وقال مرة : كان بحرا لا تكدره الدلاء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال عمر بن عبد العزيز : ما أحد أعلم من عروة ، وما أعلمه يعلم شيئا أجهله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكره غير واحد في فقهاء المدينة السبعة الذين ينتهى إلى قولهم . وكان من جملة الفقهاء العشرة الذين كان عمر بن عبد العزيز يرجع إلى قولهم في زمن ولايته على المدينة . وقد ذكر غير واحد أنه وفد على الوليد بدمشق ، فلما رجع أصابته في رجله الأكلة ، فأرادوا قطعها ، فعرضوا عليه أن يشرب شيئا يغيب عقله ، حتى لا يحس بالألم ، ويتمكنوا من قطعها ، [ ص: 478 ] فقال : ما ظننت أن أحدا يؤمن بالله يشرب شيئا يغيب عقله حتى لا يعرف ربه عز وجل ، ولكن هلموا فاقطعوها . فقطعوها من ركبته وهو صامت لا يتكلم ، ولا يسمع له حس . وروي أنهم قطعوها وهو في الصلاة فلم يشعر لشغله بالصلاة . فالله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ووقع في هذه الليلة التي قطعت فيها رجله ولد له يسمى محمدا كان أحب أولاده من سطح فمات ، فدخلوا عليه فعزوه فيه ، فقال : اللهم لك الحمد ، كانوا سبعة فأخذت واحدا ، وأبقيت ستة ، وكن أطرافا أربعا ، فأخذت واحدة ، وأبقيت ثلاثا ، فلئن كنت قد أخذت فلقد أعطيت ، ولئن كنت قد ابتليت فلقد عافيت .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : إنه لما رأى المقطوعة في الطست ، قال : الله أعلم أني ما مشيت بها إلى معصية قط .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قيل : إنه ولد في حياة عمر . والصحيح أنه ولد بعد عمر في سنة ثلاث وعشرين ، وكانت وفاته في سنة أربع وتسعين على المشهور ، وقيل : سنة تسعين . وقيل : سنة مائة . وقيل : إحدى وتسعين . وقيل : إحدى ومائة . وقيل : سنة اثنتين أو ثلاث أو أربع ، أو خمس وتسعين . وقيل : سنة تسع وتسعين . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 479 ] علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، القرشي الهاشمي ، المشهور بزين العابدين

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأمه أم ولد اسمها سلامة ، وكان له أخ أكبر منه يقال له : علي أيضا ، قتل مع أبيه ، روى علي هذا الحديث عن أبيه ، وعمه الحسن بن علي ، وجابر ، وابن عباس ، والمسور بن مخرمة ، وأبي هريرة ، وصفية ، وعائشة ، وأم سلمة ، أمهات المؤمنين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وعنه جماعة ، منهم بنوه : زيد ، وعبد الله ، وعمر ، وأبو جعفر محمد بن علي الباقر ، وزيد بن أسلم ، وطاوس وهو من أقرانه ، والزهري ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وأبو سلمة ، وهو من أقرانه ، وخلق .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال القاضي ابن خلكان : كانت أمه سلامة بنت يزدجرد آخر ملوك الفرس .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر الزمخشري في " ربيع الأبرار " : أن يزدجرد كان له ثلاث بنات سبين في زمن عمر بن الخطاب ، فحصلت واحدة لعبد الله بن عمر فأولدها سالما ، والأخرى لمحمد بن أبي بكر الصديق فأولدها القاسم ، والأخرى للحسين بن علي فأولدها عليا زين العابدين هذا ، فكلهم بنو خالة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 480 ] قال ابن خلكان : ولما قتل قتيبة بن مسلم فيروز بن يزدجرد بعث بابنتيه إلى الحجاج فأخذ إحداهما ، وبعث بالأخرى إلى الوليد بن عبد الملك ، فأولدها الوليد يزيد الناقص .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر ابن قتيبة في كتاب " المعارف " ; أن زين العابدين هذا كانت أمه سندية ، يقال لها : سلامة . ويقال : غزالة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان مع أبيه بكربلاء ، فاستبقي لصغره ، وقيل : لمرضه . فإنه كان ابن ثلاث وعشرين سنة . وقيل أكثر من ذلك . وقد هم بقتله عبيد الله بن زياد ، ثم صرفه الله عنه . وأشار بعض الفجرة على يزيد بن معاوية بقتله أيضا ، فمنعه الله تعالى من ذلك ، فلله الحمد والمنة ، ثم كان يزيد بعد ذلك يكرمه ويعظمه ، ويجلسه معه ، ولا يأكل إلا وهو عنده ، ثم بعثهم إلى المدينة مكرمين ، وكان علي بالمدينة محترما معظما .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الحافظ ابن عساكر : ومسجده بدمشق المنسوب إليه معروف . قلت : وهو الذي يقال له : مشهد علي شرقي جامع دمشق ، وقد استقدمه عبد الملك بن مروان مرة أخرى إلى دمشق فاستشاره في جواب ملك الروم عن بعض ما كتب إليه فيه من أمر السكة وطراز القراطيس .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 481 ] قال الزهري : ما رأيت قرشيا أفضل منه ، وكان مع أبيه يوم قتل ابن ثلاث وعشرين سنة ، وهو مريض ، فقال عمر بن سعد : لا تعرضوا لهذا المريض .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الواقدي : كان من أورع الناس ، وأعبدهم ، وأتقاهم لله عز وجل ، وكان إذا مشى لا يخطر بيده ، وكان يعتم بعمامة بيضاء يرخيها من ورائه ، وكان كنيته أبو الحسن ، وقيل : أبو محمد . وقيل : أبو عبد الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال محمد بن سعد : كان ثقة مأمونا ، كثير الحديث ، عاليا ، رفيعا ورعا . وأمه غزالة خلف عليها بعد الحسين مولاه زبيد ، فولدت له عبد الله بن زبيد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وهو علي الأصغر ، فأما علي الأكبر فقتل مع أبيه ، وكذا قال غير واحد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال سعيد بن المسيب ، وزيد بن أسلم ، ومالك ، وأبو حازم : لم يكن في أهل البيت مثله . وقال يحيى بن سعيد الأنصاري : سمعت علي بن الحسين وهو أفضل هاشمي أدركته يقول : يا أيها الناس ، أحبونا حب الإسلام ، فما برح بنا حبكم حتى صار علينا عارا . وفي رواية : حتى بغضتمونا إلى الناس .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأصمعي : لم يكن للحسين عقب إلا من علي بن الحسين ، ولم [ ص: 482 ] يكن لعلي بن الحسين نسل إلا من ابنة عمه الحسن ، فقال له مروان بن الحكم : لو اتخذت السراري حتى يكثر أولادك . فقال : ليس لي ما أتسرى به . فأقرضه مائة ألف ، فاشترى له السراري ، فولدن له ، وكثر نسله ، ثم لما مرض مروان أوصى أن لا يؤخذ من علي بن الحسين ما كان أقرضه ، فجميع الحسينيين من نسله . رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو بكر بن أبي شيبة : أصح الأسانيد كلها الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده . وذكروا أنه احترق البيت الذي هو فيه وهو قائم يصلي ، فلما انصرف قالوا له : ما لك لم تنصرف؟ فقال : إني اشتغلت عن هذه النار بالنار الأخرى . وكان إذا توضأ يصفر لونه ، فإذا قام إلى الصلاة ارتعد من الفرق ، فقيل له في ذلك فقال : ألا تدرون بين يدي من أريد أن أقوم ولمن أناجي؟ ولما حج أراد أن يلبي ، فارتعد وقال : أخشى أن أقول لبيك اللهم لبيك . فيقول لي : لا لبيك . فشجعوه ، وقالوا : لا بد من التلبية؟ فلما لبى غشي عليه حتى سقط عن الراحلة ، وأنه كان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال طاوس : سمعته وهو ساجد عند الحجر يقول : عبيدك بفنائك ، [ ص: 483 ] مسكينك بفنائك ، سائلك بفنائك ، فقيرك بفنائك . قال طاوس : فوالله ما دعوت بها في كرب قط إلا كشف عني ، وذكروا أنه كان كثير الصدقة بالليل ، وكان يقول : صدقة الليل تطفئ غضب الرب . وأنه قاسم الله تعالى ماله مرتين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال محمد بن إسحاق : كان ناس بالمدينة يعيشون ، لا يدرون من أين يعيشون ومن يعطيهم ، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك ، فعرفوا أنه هو الذي كان يأتيهم في الليل بما يأتيهم به . ولما مات وجدوا في ظهره وأكتافه أثر حمل الجرب إلى بيوت الأرامل والمساكين في الليل . وقيل : إنه كان يعول مائة أهل بيت بالمدينة ، ولا يدرون بذلك حتى مات . ودخل علي بن الحسين على محمد بن أسامة بن زيد يعوده ، فبكى ابن أسامة ، فقال له : ما يبكيك؟ قال : علي دين . قال : وكم هو؟ قال : خمسة عشر ألف دينار . وفي رواية سبعة عشر ألف دينار فقال : هي علي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال علي بن الحسين : كان أبو بكر ، وعمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته بمنزلتهما منه بعد وفاته . ونال منه رجل يوما فجعل يتغافل عنه يريه أنه [ ص: 484 ] لم يسمعه فقال له الرجل : إياك أعني . فقال له علي : وعنك أغضي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وخرج يوما من المسجد ، فسبه رجل ، فابتدر الناس إليه فقال : دعوه . ثم أقبل عليه ، فقال : ما ستر عنك من أمرنا أكثر ، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحيا الرجل ، فألقى إليه خميصة كانت عليه ، وأمر له بألف درهم ، فكان الرجل بعد ذلك يقول : أشهد أنك من أولاد الأنبياء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : واختصم علي بن الحسين وحسن بن حسن وكان بينهما منافسة فنال منه حسن بن حسن ، وهو ساكت ، فلما كان الليل ذهب علي بن الحسين إلى منزله ، فقال : يا ابن عم ، إن كنت صادقا يغفر الله لي ، وإن كنت كاذبا يغفر الله لك ، والسلام عليك . ثم رجع ، فلحقه فصالحه . وقيل له : من أعظم الناس خطرا؟ فقال : من لم يرض الدنيا لنفسه خطرا . وقال أيضا : الفكرة مرآة تري المؤمن حسناته وسيئاته . [ ص: 485 ] وقال : فقد الأحبة غربة . وكان يقول : إن قوما عبدوا الله رهبة ، فتلك عبادة العبيد ، وآخرون عبدوه رغبة فتلك عبادة التجار ، وآخرون عبدوه محبة وشكرا ، فتلك عبادة الأحرار الأخيار .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال لابنه : يا بني ، لا تصحب فاسقا; فإنه يبيعك بأكلة وأقل منها ، يطمع فيها ثم لا ينالها ، ولا بخيلا; فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه ، ولا كذابا; فإنه كالسراب يقرب منك البعيد ويباعد عنك القريب ، ولا أحمق; فإنه يريد أن ينفعك فيضرك ، ولا قاطع رحم; فإنه ملعون في كتاب الله قال الله تعالى : فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ( محمد : 22 ) .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان علي بن الحسين إذا دخل المسجد تخطى الناس حتى يجلس في حلقة زيد بن أسلم ، فقال له نافع بن جبير بن مطعم : غفر الله لك ، أنت سيد الناس تأتي تخطى حتى تجلس مع هذا العبد الأسود؟ فقال له علي بن الحسين : إنما يجلس الرجل حيث ينتفع ، وإن العلم يبتغى ويؤتى ، ويطلب من حيث كان . وقال الأعمش ، عن مسعود بن مالك قال : قال لي علي بن الحسين : [ ص: 486 ] أتستطيع أن تجمع بيني وبين سعيد بن جبير؟ فقلت : ما تصنع به؟ قال : أريد أن أسأله عن أشياء ينفعنا الله بها ، إنه ليس عندنا ما يرمينا به هؤلاء . وأشار بيده إلى العراق .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن رزين بن عبيد قال : كنت عند ابن عباس ، فأتى علي بن الحسين فقال ابن عباس : مرحبا بالحبيب ابن الحبيب .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو بكر بن محمد بن يحيى الصولي ، ثنا العلائي ، ثنا إبراهيم بن بشار ، عن سفيان بن عيينة ، عن أبي الزبير قال : كنا عند جابر بن عبد الله ، فدخل عليه علي بن الحسين فقال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليه الحسين بن علي ، فضمه إليه وقبله وأقعده إلى جنبه ، ثم قال : يولد لابني هذا ابن يقال له علي ، إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش : ليقم سيد العابدين ، فيقوم هو . هذا حديث غريب جدا ، أورده ابن عساكر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزهري : كان أكثر مجالستي مع علي بن الحسين ، وما رأيت أفقه منه ، وكان قليل الحديث ، وكان من أفضل أهل بيته وأحسنهم طاعة ، وأحبهم [ ص: 487 ] إلى مروان ، وابنه عبد الملك ، وكان يسميه : زين العابدين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال جويرية بن أسماء : ما أكل علي بن الحسين بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم درهما قط ، رحمه الله ورضي عنه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال محمد بن سعد : أنبأ علي بن محمد ، عن سعيد بن خالد ، عن المقبري ، قال : بعث المختار إلى علي بن الحسين بمائة ألف ، فكره أن يقبلها ، وخاف أن يردها ، فاحتبسها عنده ، فلما قتل المختار كتب إلى عبد الملك بن مروان : إن المختار بعث إلي بمائة ألف ، فكرهت أن أقبلها ، وكرهت أن أردها ، فابعث من يقبضها . فكتب إليه عبد الملك : يا ابن عم ، خذها فقد طيبتها لك . فقبلها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال علي بن الحسين : سادة الناس في الدنيا الأسخياء الأتقياء ، وفي الآخرة أهل الدين وأهل الفضل والعلم ; لأن العلماء ورثة الأنبياء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أيضا : إني لأستحي من الله عز وجل أن أرى الأخ من إخواني ، فأسأل الله له الجنة ، وأبخل عليه بالدنيا ، فإذا كان يوم القيامة قيل لي : لو كانت الجنة بيدك لكنت بها أبخل وأبخل وأبخل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكروا أنه كان كثير البكاء ، فقيل له في ذلك فقال : إن يعقوب عليه [ ص: 488 ] السلام ، بكى حتى ابيضت عيناه على يوسف ، ولم يعلم أنه مات ، وإني رأيت بضعة عشر من أهل بيتي يذبحون في غداة واحدة ، أفترون حزنهم يذهب من قلبي أبدا؟!

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال عبد الرزاق : سكبت جارية لعلي بن الحسين عليه ماء ليتوضأ ، فسقط الإبريق من يدها على وجهه فشجه ، فرفع رأسه إليها ، فقالت الجارية : إن الله عز وجل يقول : والكاظمين الغيظ فقال : قد كظمت غيظي . قالت : والعافين عن الناس . فقال : قد عفا الله عنك . فقالت : والله يحب المحسنين ( آل عمران : 134 ) . قال : فاذهبي ، أنت حرة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزبير بن بكار : ثنا عبد الله بن إبراهيم ، أبو قدامة الجمحي ، عن أبيه ، عن جده ، عن محمد بن علي ، عن أبيه قال : جلس إلي قوم من أهل العراق فذكروا أبا بكر وعمر ، فنالوا منهما ، ثم ابتدءوا في عثمان ، فقلت لهم : أخبروني ، أنتم من المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وإلى قوله : أولئك هم الصادقون ( الحشر : 8 ) ؟ قالوا : لا ، لسنا منهم . قلت : فأنتم من الذين قال الله عز وجل : والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم [ ص: 489 ] إلى قوله : فأولئك هم المفلحون ( الحشر : 9 ) . قالوا : لا ، لسنا منهم . قال : فقلت لهم : أما أنتم فقد تبرأتم وأقررتم وشهدتم أن تكونوا منهم ، وأنا أشهد أنكم لستم من الفرقة الثالثة ، الذين قال الله تعالى فيهم : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ( الحشر : 10 ) قوموا عني ، لا بارك الله فيكم ، ولا قرب دوركم ، أنتم مستهزئون بالإسلام ، ولستم من أهله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وجاء رجل فسأله : متى يبعث علي؟ فقال : يبعث والله يوم القيامة ، وتهمه نفسه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن أبي الدنيا : حدثت عن سعيد بن سليمان ، عن علي بن هاشم ، عن أبي حمزة الثمالي ، أن علي بن الحسين كان إذا خرج من بيته قال : اللهم إني أتصدق اليوم أو أهب عرضي اليوم من استحله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى ابن أبي الدنيا أن غلاما سقط من يده سفود ، وهو يشوي شيئا في التنور على رأس صبي لعلي بن الحسين فقتله ، فنهض علي بن الحسين مسرعا ، فلما نظر إليه قال للغلام : يا بني ، إنك لم تتعمد أنت حر . ثم شرع في [ ص: 490 ] جهاز ابنه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال المدائني : سمعت سفيان يقول : كان علي بن الحسين يقول : ما يسرني أن لي بنصيبي من الذل حمر النعم . ورواه الزبير بن بكار من غير وجه عنه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومات لرجل ولد مسرف على نفسه ، فجزع عليه من أجل إسرافه ، فقال له علي بن الحسين إن من وراء ابنك خلالا ثلاثا : شهادة أن لا إله إلا الله ، وشفاعة رسول الله ، ورحمة الله عز وجل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال المدائني : قارف الزهري ذنبا ، فاستوحش منه ، وهام على وجهه ، وترك أهله وماله ، فلما اجتمع بعلي بن الحسين قال له : يا زهري ، قنوطك من رحمة الله التي وسعت كل شيء أعظم من ذنبك . فقال الزهري : الله أعلم حيث يجعل رسالته وفي رواية أنه كان أصاب دما خطأ ، فأمره علي بالتوبة والاستغفار ، وأن يبعث الدية إلى أهله . وكان الزهري يقول : علي بن الحسين أعظم الناس علي منة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال سفيان بن عيينة : كان علي بن الحسين يقول : لا يقول رجل في [ ص: 491 ] رجل من الخير ما لا يعلم إلا أوشك أن يقول فيه من الشر ما لا يعلم ، وما اصطحب اثنان على معصية إلا أوشك أن يفترقا على غير طاعة الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكروا أنه زوج ابنة من مولى له ، وأعتق أمة فتزوجها ، فأرسل إليه عبد الملك يلومه في ذلك ، فكتب إليه لقد كان لكم في رسول الله أسوة وقد أعتق صفية فتزوجها ، وزوج مولاه زيد بن حارثة من ابنة عمته زينب بنت جحش .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : وكان يلبس في الشتاء خميصة من خز بخمسين دينارا ، فإذا جاء الصيف تصدق بها ، ويلبس في الصيف الثياب المرقعة ودونها ، ويتلو قوله تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ( الأعراف : 32 ) .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد روي من طرق ذكرها الصولي والجريري وغير واحد ، أن هشام بن عبد الملك حج في خلافة أبيه أو أخيه الوليد فطاف بالبيت ، فلما أراد أن يستلم الحجر لم يتمكن حتى نصب له منبر ، فاستلم وجلس عليه ، وقام أهل الشام حوله ، فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن الحسين ، فلما دنا من الحجر; ليستلمه تنحى عنه الناس إجلالا له وهيبة واحتراما ، وهو في بزة حسنة ، وشكل مليح ، فقال أهل الشام لهشام : من هذا؟ فقال : لا أعرفه . لئلا يرغب فيه أهل الشام . فقال [ ص: 492 ] الفرزدق وكان حاضرا : أنا أعرفه . فقالوا : ومن هو؟ فأنشأ الفرزدق يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم     هذا ابن خير عباد الله كلهم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      هذا التقي النقي الطاهر العلم     إذا رأته قريش قال قائلها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إلى مكارم هذا ينتهي الكرم     ينمى إلى ذروة العز التي قصرت
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عن نيلها عرب الإسلام والعجم     يكاد يمسكه عرفان راحته
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم     يغضي حياء ويغضى من مهابته
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فما يكلم إلا حين يبتسم     بكفه خيزران ريحها عبق
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      من كف أروع في عرنينه شمم     مشتقة من رسول الله نبعته
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      طابت عناصرها والخيم والشيم     ينجاب نور الهدى من نور غرته
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كالشمس ينجاب عن إشراقها القتم     حمال أثقال أقوام إذا فدحوا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      حلو الشمائل تحلو عنده نعم     هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بجده أنبياء الله قد ختموا     الله فضله قدما وشرفه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      جرى بذاك له في لوحه القلم     من جده دان فضل الأنبياء له
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفضل أمته دانت لها الأمم     عم البرية بالإحسان فانقشعت
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عنها الغيابة والإملاق والظلم     كلتا يديه غياث عم نفعهما
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يستوكفان ولا يعروهما العدم     سهل الخليقة لا تخشى بوادره
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يزينه اثنان حسن الخلق والكرم     لا يخلف الوعد ميمون نقيبته
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      رحب الفناء أريب حين يعتزم     من معشر حبهم دين وبغضهم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كفر وقربهم منجى ومعتصم     يستدفع السوء والبلوى بحبهم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ويسترب به الإحسان والنعم     مقدم بعد ذكر الله ذكرهم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      في كل حكم ومختوم به الكلم     إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم     لا يستطيع جواد بعد غايتهم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولا يدانيهم قوم وإن كرموا     هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      والأسد أسد الشرى والبأس محتدم     يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      خيم كريم وأيد بالندى هضم     لا ينقص العسر بسطا من أكفهم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا     أي الخلائق ليست في رقابهم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لأولية هذا أو له نعم     فليس قولك " من هذا؟ " بضائره
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      العرب تعرف من أنكرت والعجم     من يعرف الله يعرف أولية ذا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فالدين من بيت هذا ناله الأمم

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 494 ] قال : فغضب هشام من ذلك ، وأمر بحبس الفرزدق بعسفان بين مكة والمدينة ، فلما بلغ ذلك علي بن الحسين بعث إلى الفرزدق باثني عشر ألف درهم ، وأرسل يعتذر إليه أن ليس عنده اليوم غيرها ، فردها الفرزدق ، وقال : إنما قلت ما قلت لله عز وجل ، ونصرة للحق ، وقياما بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذريته ، ولست أعتاض عن ذلك بشيء . فأرسل إليه علي بن الحسين يقول : قد علم الله صدق نيتك في ذلك ، وأقسمت لتقبلنها . فقبلها منه ثم جعل يهجو هشاما ، فكان مما قال فيه :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يحبسني بين المدينة والتي     إليها قلوب الناس يهوي منيبها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يقلب رأسا لم يكن رأس سيد     وعينين حولاوين باد عيوبها

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد روينا عن علي بن الحسين أنه كان إذا مرت به الجنازة يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      نراع إذا الجنائز قابلتنا     ونلهو حين تمضي ذاهبات
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كروعة ثلة لمغار سبع     فلما غاب عادت راتعات

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى الحافظ ابن عساكر من طريق محمد بن عبد الله المقرئ ، حدثني سفيان بن عيينة ، عن الزهري قال : سمعت علي بن الحسين سيد العابدين [ ص: 495 ] يحاسب نفسه ، ويناجي ربه يقول :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يا نفس حتام إلى الدنيا غرورك ، وإلى عمارتها ركونك ، أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك ، ومن وارته الأرض من ألافك؟ ومن فجعت به من إخوانك ، ونقل إلى البلى من أقرانك؟


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فهم في بطون الأرض بعد ظهورها     محاسنهم فيها بوال دواثر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم     وساقتهم نحو المنايا المقادر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها     وضمتهم تحت التراب الحفائر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كم تخرمت أيدي المنون من قرون بعد قرون ، وكم غيرت الأرض ببلائها ، وغيبت في ثراها ممن عاشرت من صنوف الناس ، وشيعتهم إلى الأرماس ،


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأنت على الدنيا مكب منافس     لخطابها فيها حريص مكاثر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      على خطر تمسي وتصبح لاهيا     أتدري بماذا لو عقلت تخاطر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وإن امرأ يسعى لدنياه دائبا     ويذهل عن أخراه لا شك خاسر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فحتام على الدنيا إقبالك؟ وبشهواتك اشتغالك؟ وقد وخطك القتير ، [ ص: 496 ] وأتاك النذير ، وأنت عما يراد بك ساه ، وبلذة يومك لاه .


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي ذكر هول الموت والقبر والبلى     عن اللهو واللذات للمرء زاجر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أبعد اقتراب الأربعين تربص     وشيب قذال منذر لك كاسر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كأنك معني بما هو صائر     لنفسك عمدا أو عن الرشد جائر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      انظر إلى الأمم الماضية ، والملوك الفانية كيف أفنتهم الأيام ووافاهم الحمام; فانمحت من الدنيا آثارهم ، وبقيت فيها أخبارهم .


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأضحوا رميما في التراب وعطلت     مجالس منهم أقفرت ومقاصر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحلوا بدار لا تزاور بينهم     وأنى لسكان القبور تزاور
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فما إن ترى إلا جثى قد ثووا بها     مسطحة تسفي عليها الأعاصر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كم من ذي منعة وسلطان ، وجنود وأعوان ، تمكن من دنياه ، ونال فيها ما [ ص: 497 ] تمناه ، وبنى فيها القصور والدساكر ، وجمع الأعلاق ، والذخائر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فما صرفت كف المنية إذ أتت     مبادرة تهوي إليه الذخائر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولا دفعت عنه الحصون التي بنى     وحف بها أنهاره والدساكر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولا قارعت عنه المنية حيلة     ولا طمعت في الذب عنه العساكر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أتاه من الله ما لا يرد ، ونزل به من قضائه ما لا يصد ، فتعالى الله الملك الجبار ، المتكبر ، القهار قاصم الجبارين ، ومبيد المتكبرين .


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      مليك عزيز لا يرد قضاؤه     حكيم عليم نافذ الأمر قاهر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عنا كل ذي عز لعزة وجهه     فكل عزيز للمهيمن صاغر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لقد خضعت واستسلمت وتضاءلت     لعزة ذي العرش الملوك الجبابر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فالبدار البدار ، والحذار الحذار من الدنيا ومكايدها ، وما نصبت لك من مصايدها ، وتحلت لك من زينتها ، وأظهرت لك من بهجتها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 498 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي دون ما عاينت من فجعاتها     إلى رفضها داع وبالزهد آمر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فجد ولا تغفل فعيشك زائل     وأنت إلى دار الإقامة صائر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولا تطلب الدنيا فإن طلابها     وإن نلت منها غبة لك ضائر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فهل يحرص عليها لبيب ، أو يسر بها أريب؟ وهو على ثقة من فنائها ، وغير طامع في بقائها ، أم كيف تنام عينا من يخشى البيات ، وتسكن نفس من يتوقع الممات .


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ألا لا ولكنا نغر نفوسنا     وتشغلنا اللذات عما نحاذر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكيف يلذ العيش من هو موقن     بموقف عدل يوم تبلى السرائر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كأنا نرى أن لا نشور وأننا     سدى ما لنا بعد الممات مصائر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وما عسى أن ينال صاحب الدنيا من لذتها ، ويتمتع به من بهجتها ، مع صنوف عجائبها وكثرة تعبه في طلبها ، وما يكابد من أسقامها وأوصابها وآلامها؟


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أما قد ترى في كل يوم وليلة     يروح علينا صرفها ويباكر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ؟ تعاورنا آفاتها وهمومها     وكم قد ترى يبقى لها المتعاور
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلا هو مغبوط بدنياه آمن     ولا هو عن تطلابها النفس قاصر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 499 ] كم قد غرت الدنيا من مخلد إليها ، وصرعت من مكب عليها ، فلم تنعشه من عثرته ، ولم تقمه من صرعته ، ولم تشفه من ألمه ، ولم تبره من سقمه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بلى أوردته بعد عز ومنعة     موارد سوء ما لهن مصادر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلما رأى أن لا نجاة وأنه     هو الموت لا ينجيه منه التحاذر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      تندم إذ لم تغن عنه ندامة     عليه وأبكته الذنوب الكبائر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بكى على ما سلف من خطاياه ، وتحسر على ما خلف من دنياه ، حين لا ينفعه الاستغفار ، ولا ينجيه الاعتذار ، عند هول المنية ونزول البلية .


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أحاطت به أحزانه وهمومه     وأبلس لما أعجزته المعاذر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فليس له من كربة الموت فارج     وليس له مما يحاذر ناصر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد جشأت خوف المنية نفسه     ترددها منه اللها والحناجر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      هنالك خف عواده ، وأسلمه أهله وأولاده ، وارتفعت الرنة بالعويل ، وقد أيسوا من العليل ، فغمضوا بأيديهم عينيه ، ومد عند خروج روحه رجليه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فكم موجع يبكي عليه ومفجع     ومستنجد صبرا وما هو صابر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومسترجع داع له الله مخلصا     يعدد منه خير ما هو ذاكر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكم شامت مستبشر بوفاته     وعما قليل كالذي صار صائر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 500 ] فشق جيوبها نساؤه ، ولطم خدودها إماؤه ، وأعول لفقده جيرانه ، وتوجع لرزئه إخوانه ، ثم أقبلوا على جهازه ، وشمروا لإبرازه .


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وظل أحب القوم كان لقربه     يحث على تجهيزه ويبادر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وشمر من قد أحضروه لغسله     ووجه لما قام للقبر حافر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكفن في ثوبين واجتمعت له     مشيعة إخوانه والعشائر



                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلو رأيت الأصغر من أولاده ، وقد غلب الحزن على فؤاده ، وغشي من الجزع عليه ، وخضبت الدموع خديه ، وهو يندب أباه ويقول : يا ويلاه .


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لعاينت من قبح المنية منظرا     يهال لمرآه ويرتاع ناظر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أكابر أولاد يهيج اكتئابهم     إذا ما تناساه البنون الأصاغر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ورنة نسوان عليه جوازع     مدامعهم فوق الخدود غوازر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم أخرج من سعة قصره إلى ضيق قبره ، فلما استقر في اللحد وهى عليه [ ص: 501 ] اللبن ، وحثوا بأيديهم عليه التراب ، وأكثروا التلدد عليه والانتحاب ، ثم وقفوا ساعة عليه ، وأيسوا من النظر إليه .


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فولوا عليه معولين وكلهم     لمثل الذي لاقى أخوه محاذر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كشاء رتاع آمنين بدا لها     بمديته بادي الذراعين حاسر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فريعت ولم ترتع قليلا وأجفلت     فلما نأى عنها الذي هو جازر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عادت إلى مرعاها ، ونسيت ما في أختها دهاها ، أفبأفعال البهائم اقتدينا؟ أم على عادتها جرينا؟ عد إلى ذكر المنقول إلى دار البلى والثرى ، واعتبر بموضعه تحت الثرى ، المدفوع إلى هول ما ترى .


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثوى مفردا في لحده وتوزعت     مواريثه أرحامه والأواصر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأحنوا على أمواله يقسمونها     فلا حامد منهم عليها وشاكر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيا عامر الدنيا ويا ساعيا لها     ويا آمنا من أن تدور الدوائر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كيف أمنت هذه الحالة وأنت صائر إليها لا محالة؟! أم كيف تتهنأ لحياتك ، وهي مطيتك إلى مماتك؟! أم كيف تسيغ طعامك وأنت منتظر حمامك؟! .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 502 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولم تتزود للرحيل وقد دنا     وأنت على حال وشيكا مسافر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيا لهف نفسي كم أسوف توبتي     وعمري فان والردى لي ناظر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكل الذي أسلفت في الصحف مثبت     يجازي عليه عادل الحكم قادر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فكم ترقع بآخرتك دنياك؟ وتركب في ذلك هواك؟ أراك ضعيف اليقين ، يا مؤثر الدنيا على الدين ، أبهذا أمرك الرحمن؟ أم على هذا نزل القرآن؟


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      تخرب ما يبقى وتعمر فانيا     فلا ذاك موفور ولا ذاك عامر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وهل لك إن وافاك حتفك بغتة     ولم تكتسب خيرا لدى الله عاذر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أترضى بأن تفنى الحياة وتنقضي     ودينك منقوص ومالك وافر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد اختلف أهل التاريخ في السنة التي توفي فيها علي بن الحسين زين العابدين; فالمشهور عن الجمهور أنه توفي في هذه السنة أعني سنة أربع وتسعين في أولها عن ثمان وخمسين سنة ، وصلي عليه بالبقيع ، ودفن به .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الفلاس : مات سعيد بن المسيب ، وعلي بن الحسين ، وعروة ، وأبو بكر بن عبد الرحمن سنة أربع وتسعين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم : توفي ثنتين - أو ثلاث - وتسعين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 503 ] وأغرب المدائني في قوله : إنه توفي سنة تسع وتسعين . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وممن توفي فيها من الأعيان :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المدني ،
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أحد الفقهاء السبعة ، قيل : اسمه محمد . وقيل : اسمه أبو بكر ، وكنيته أبو عبد الرحمن . والصحيح أن اسمه وكنيته واحد ، وله من الأولاد والإخوة كثير ، وهو تابعي جليل ، روى عن عمار ، وأبي هريرة ، وأسماء بنت أبي بكر ، وعائشة ، وأم سلمة ، وغيرهم ، وعنه جماعة : منهم بنوه سلمة ، وعبد الله ، وعبد الملك ، وعمر ، ومولاه سمي ، وعامر الشعبي ، وعمر بن عبد العزيز ، وعمرو بن دينار ، ومجاهد ، والزهري .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولد في خلافة عمر ، وكان يقال له : راهب قريش . لكثرة صلاته ، وكان مكفوفا ، وكان يصوم الدهر ، وكان من الثقة والأمانة والفقه وصحة الرواية على جانب عظيم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان عبد الملك بن مروان يكرمه ويعرف فضله ، ويقول : إني أهم [ ص: 504 ] بالشيء أفعله بأهل المدينة; لسوء أثرهم عندنا ، فأذكر أبا بكر بن عبد الرحمن فأستحي منه ، وأترك ذلك الأمر من أجله . وله مناقب كثيرة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو داود : وكان قد كف ، وكان إذا سجد يضع يده في طست; لعلة كان يجدها . والصحيح أنه مات في هذه السنة . وقيل : في التي قبلها . وقيل : في التي بعدها . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية