الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 832 ] 1053 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ، ثم آمر رجلا فيؤم الناس ، ثم أخالف إلى رجال وفي رواية : لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم ، والذي نفسي بيده ، لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا ، أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء " . رواه البخاري . ولمسلم نحوه .

التالي السابق


1053 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي ) أي : ذاتي أو روحي ، يعني إيجادها وإمدادها ( بيده ) أي : بقبضة قدرته وإرادته ( لقد هممت ) أي : قصدت وأردت ( أن آمر ) أي : بعض الخدم لما في رواية " فتيتي " ( بحطب ) أي : يجمع حطب عظيم ( فيحطب ) : بالرفع وينصب ، وفي المصابيح ، فيحتطب ، أي : فيجمع الحطب ، قال الطيبي : يقال : حطبت الحطب واحتطبته أي : جمعته ، قال المؤلف : فيحطب كذا وجدناه في صحيح البخاري ، والجمع للحميدي ، وجامع الأصول ، وشعب الإيمان ( ثم آمر ) : بالنصب ( بالصلاة ) أي العشاء لما يقتضيه آخر الحديث ، والتصريح به الآتي في خبر مسلم ، ويحتمل بقاؤه على عمومه إن تعددت القصة ، ( فيؤذن ) : بالرفع وينصب ( لها ، ثم آمر ) : بالنصب ( رجلا ) : فيه دليل لجواز استخلاف الإمام وانصرافه لعذر ( فيؤم ) : بالرفع والنصب ( الناس ) : ظاهره أنه في الجماعة لا في الجمعة ، وإن جاءت الرواية بهما وهما صحيحتان . ( ثم أخالف ) : بالنصب ، أي : أذهب ( إلى رجال ) أي آتيهم من خلفهم ، قال الطيبي ، أي : أخالف ما أظهرت من إقامة الصلاة واشتغال بعض الناس ، وأقصد إلى بيوت من أمرتهم بالخروج عنها للصلاة ، فلم يخرجوا عنها فأحرقها عليهم ، قال ابن حجر : من خالفت إلى كذا إذا قصدته وأنت مول عنه ، ومنه قوله تعالى : ( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ) . ( وفي رواية : " لا يشهدون ) أي : لا يحضرون ( الصلاة ) : من غير عذر ، قال المؤلف : وليس في الصحيح في هذه الرواية : " لا يشهدون الصلاة " بل في رواية أخرى ، نقله الطيبي ، وكأن صاحب المصابيح جعل الروايتين رواية واحدة ، وفي رواية : " يصلون في بيوتهم ليست بهم علة " ، فيكون الوعيد على ترك الجماعة بغير عذر لا على ترك الصلاة ( فأحرق ) : بالتشديد ( عليهم بيوتهم ) : بضم الباء وكسرها . قيل : هذا يحتمل أن يكون عاما في جميع الناس ، وقيل : المراد به المنافقون في زمانه ، نقله ابن الملك ، والظاهر الثاني إذ ما كان أحد يتخلف عن الجماعة في زمانه عليه السلام إلا منافق ظاهر النفاق ، أو الشاك في دينه ، قال الإمام النووي : فيه دليل على أن العقوبة كانت في بدء الإسلام بإحراق المال ، وقيل : أجمع العلماء على منع العقوبة بالتحريق في غير المتخلفة عن الصلاة والغال ، والجمهور على منع تحريق متاعهما ، وقال ابن حجر : لا دليل فيه لوجوب الجماعة عينا ، الذي قال به أحمد وداود ; لأنه وارد في قوم منافقين . اهـ .

وفيه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ويؤيد التعميم قوله : ( والذي نفسي بيده ) : تأكيد لقسم سابق ، أو ابتداء كلام لاحق ( لو يعلم أحدهم ) أي : الذين لا يشهدون الصلاة مع فضيلتها في الدنيا وثوابها في العقبى ( أنه يجد ) أي : في المسجد ( عرقا ) : بفتح العين وسكون الراء ، أي : عظما عليه لحم ( سمينا ) : قال الطيبي : العرق بالسكون العظم الذي أخذ منه اللحم ، أي : معظمه ، قال ابن الملك : مصدر عرقت العظم إذا أكلته ، أو أخذت أكثر ما عليه من اللحم ، ووصفه بالسمين ; لأنه يجوز أن ينزع عنه أكثر اللحم ، وهو يكون في نفسه سمينا ، وقال ابن حجر : قيد به لأن العظم السمين فيه دسومة قد يرغب في مضغه لأجلها . ( أو مرماتين ) : بكسر ميمه وتفتح : ظلف الشاة ، و " أو " بمعنى " بل " . وقيل : لحم ما بين ظلفيها لأنه مما يرمى ، وقيل : هي العظم الذي لا لحم عليه ، وقيل : بكسر الميم : السهم الصغير الذي يتعلم الرمي به ، أو يرمى به في السبق ، وهو أحقر السهام وأرذلها . ( حسنتين ) : بفتحتين أي جيدتين ، قال ابن الملك : إنما وصفهما بالحسنتين ليكون مشعرا ببقاء الرغبة فيهما . وفي شرح السنة : الحسن والحسن : العظم الذي في المرفق مما يلي البطن ، والقبح والقبيح : العظم الذي في [ ص: 833 ] المرفق مما يلي الكتف ، قال الطيبي : حسنتين بدل من : المرماتين إذا أريد بهما العظم الذي لا لحم عليه ، وإن أريد بهما السهمان الصغيران ، فالحسنتين بمعنى الجيدتين صفة لمرماتين . ( لشهد العشاء ) : بكسر العين ، والمراد التوبيخ ، أي : لو علم أحدهم أن لو حضر وقت العشاء أو صلاة العشاء على أن المراد بالعشاء الصلاة لحصل له حظ دنيوي لحضرها ، وإن كان خسيسا صغيرا ، وما يحضر الصلاة وما رتب عليها من الثواب .

قال القاضي : الحديث يدل على وجوب الجماعة ، وظاهر نصوص الشافعي يدل على أنها من فروض الكفاية . قلت : ظاهر الحديث يرد عليه ، فإنه لو كان كفاية لما استحق بعض التاركين التعذيب .

قال ابن الهمام : وكان القائل بالكفاية يقول : المقصود من الافتراض إظهار الشعار ، وهو يحصل بفعل البعض وهو ضعيف ; إذ لا شك في أنها كانت تقام على عهده في مسجده عليه السلام ، ومع ذلك قال في المتخلفين ما قال ، وهم بتحريقهم ، ولم يصدر مثله عنه فيمن تخلف عن الجنائز مع إقامتها بغيرهم .

قال القاضي : وعليه أكثر الصحابة . قلت : وفيه بحث ، قال : ولقوله عليه السلام : " ما من ثلاثة في قرية أو بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا وقد استحوذ عليهم الشيطان ، فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية " ، أي : الشاة البعيدة من الراعي . واستحواذ الشيطان وهو غلبته إنما يكون بما يكون معصية ، كترك الواجب دون السنة . قلت : الحديث الذي ذكره ظاهره يدل على أن الجماعة فرض عين ، أو واجب على مختار مذهبنا ، ولا يدل على أنها فرض كفاية ، وإنما قيد بالثلاثة لأنها أقل كمال الجماعة في غير الجمعة ، قال : وذهب الباقون منهم إلى أنه سنة ; وهو مذهب أبي حنيفة ومالك ، وتمسكوا بالحديث السابق ، أي : الحديث الأول من الباب .

قال ابن الهمام : فجوابه أنه لا يستلزم أكثر من ثبوت صحة ما في البيت والسوق في الجملة بلا جماعة ، ولا شك فيه إذا فاتته الجماعة ، فالمعنى : صلاة الجماعة أفضل من الصلاة في بيته فيما يصح فيه ، ولو كان مقتضاه الصحة مطلقا بلا جماعة لم يدل على سنيتها ، لجواز أن الجماعة ليست من أفعال الصلاة ، فيكون تركها مؤثما لا مفسدا ، قال : وأجابوا عن هذا الحديث بأن التحريق لاستهانتهم وعدم مبالاتهم بها إلا بمجرد الترك ، قلت : ظاهر الحديث أنه لمجرد الترك ، ولمشابهتهم بالمنافقين والشاكين في الإسلام ، قال : قال أحمد ، وداود : إنها فرض على الأعيان أخذا بظاهر الحديث ، وليست شرطا لصحة الصلاة ، وقال بعض الظاهرية : بوجوبها واشتراطها في الصحة اهـ .

قال ابن الهمام : وحاصل الخلاف في المسألة أنها فرض عين إلا من عذر ، وهو قول أحمد ، وداود ، وعطاء ، وأبي ثور ، وعن ابن مسعود ، وأبي موسى الأشعري ، وغيرهما : من سمع النداء ثم لم يجب فلا صلاة له ، وقيل : على الكفاية ، وفي الغاية قال عامة مشايخنا : إنها واجبة ، وفي المفيد : أنها واجبة ; وتسميتها سنة لوجوبها بالسنة ، وفي البدائع : تجب على العقلاء ، البالغين ، الأحرار ، القادرين على الجماعة من غير حرج ، وإذا فاتته لا يجب عليه الطلب في المساجد بلا خلاف بين أصحابنا ، بل إن أتى مسجدا آخر للجماعة فحسن ، وإن صلى في مسجد حيه منفردا فحسن ، وذكر القدوري يجمع بأهله أحيانا هل ينال ثواب الجماعة ؟ فقال : لا ، ويكون بدعة ومكروها بلا عذر ، فمن الأعذار : المرض الذي يبيح التيمم ، وكونه مقطوع اليد والرجل من خلاف ، أو مفلوجا ، أو مستخفيا من السلطان أو من غريم وهو معسر ، أو لا يستطيع المشي كالشيخ العاجز وغيره . وفي شرح الكنز : والأعمى عند أبي حنيفة ، والظاهر أنه اتفاق ، والخلاف في الجمعة لا الجماعة ، ففي الدراية قال : لا يجب على الأعمى ، وبالمطر ، والطين ، والبرد الشديد ، والظلمة الشديدة في الصبح . ( رواه البخاري ولمسلم نحوه ) .




الخدمات العلمية