الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      المسألة الثالثة عشرة

                                                                                                                                                                                                                                      فيما يمتنع بسبب الإحرام على المحرم حتى يحل من إحرامه

                                                                                                                                                                                                                                      فمن ذلك ما صرح الله بالنهي عنه في كتابه في قوله : فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج [ 2 \ 197 ] والصيغة في قوله : فلا رفث ولا فسوق ولا جدال [ ص: 13 ] صيغة خبر أريد بها الإنشاء : أي فلا يرفث ولا يفسق ، ولا يجادل ، وقد تقرر في فن المعاني أن الصيغة قد تكون خبرية ، والمراد بها الإنشاء لأسباب منها التفاؤل كقولك : رحم الله زيدا ، فالصيغة خبرية ، والمراد بها إنشاء الدعاء له بالرحمة ، ومنها إظهار تأكيد الإتيان بالفعل ، وإلزام ذلك ; كقوله تعالى : هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله الآية [ 61 \ 10 - 11 ] : أي آمنوا بالله بدليل جزم الفعل في قوله يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم الآية [ 61 \ 12 ] فهو مجزوم بالطلب المراد بالخبر في قوله تؤمنون بالله أي : آمنوا بالله ، يغفر لكم ذنوبكم ; كقوله قاتلوهم يعذبهم الله الآية [ 9 \ 14 ] تعالوا أتل الآية [ 6 \ 151 ] ، ونحو ذلك . فالمسوغ لكون الصيغة في الآية خبرية ، هو إظهار التأكد ، واللزوم في الإتيان بالإيمان فعبر عنه بصيغة الخبر ، لإظهار أنه يتأكد ويلزم أن يكون كالواقع بالفعل المخبر عن وقوعه ، وكقوله تعالى : والوالدات يرضعن أولادهن الآية [ 2 \ 233 ] ، وقوله : والمطلقات يتربصن بأنفسهن الآية [ 2 \ 228 ] . فالمراد الأمر بالإرضاع ، والتربص وقد عبر عنه بصيغة خبرية لما ذكرنا ، كما هو معروف في فن المعاني .

                                                                                                                                                                                                                                      والأظهر في معنى الرفث في الآية أنه شامل لأمرين :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : مباشرة النساء بالجماع ومقدماته .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : الكلام بذلك كأن يقول المحرم لامرأته : إن أحللنا من إحرامنا فعلنا كذا وكذا ، ومن إطلاق الرفث على مباشرة المرأة كجماعها قوله تعالى : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم [ 2 \ 187 ] فالمراد بالرفث في الآية : المباشرة بالجماع ومقدماته ، ومن إطلاق الرفث على الكلام قول العجاج :


                                                                                                                                                                                                                                      ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قدمنا هذا البيت في سورة " المائدة " ، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه لما أنشد وهو محرم قال الراجز :


                                                                                                                                                                                                                                      وهن يمشين بنا هميسا     إن تصدق الطير ننك لميسا



                                                                                                                                                                                                                                      فقيل له : أترفث ، وأنت محرم ؟ قال : إنما الرفث : ما روجع به النساء ، وفي لفظ : ما قيل من ذلك عند النساء .

                                                                                                                                                                                                                                      والأظهر في معنى الفسوق في الآية أنه شامل لجميع أنواع الخروج عن طاعة الله تعالى ، [ ص: 14 ] والفسوق في اللغة : الخروج ، ومنه قول العجاج : يهوين في نجد وغورا غائرا فواسقا عن قصدها جوائرا

                                                                                                                                                                                                                                      يعني بقوله : فواسقا عن قصدها : خوارج عن جهتها التي كانت تقصدها .

                                                                                                                                                                                                                                      والأظهر في الجدال في معنى الآية : أنه المخاصمة والمراء : أي لا تخاصم صاحبك وتماره حتى تغضبه ، وقال بعض أهل العلم : معنى ولا جدال في الحج : أي لم يبق فيه مراء ولا خصومة ; لأن الله أوضح أحكامه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن ذلك ما صرح الله بالنهي عنه في كتابه ، من حلق شعر الرأس في قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله [ 2 \ 196 ] ، ومن ذلك تغطية المحرم الذكر رأسه لما ثبت في الصحيح ، من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المحرم الذي خر عن راحلته فوقصته فمات : " لا تخمروا رأسه فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيا " ، وفي رواية في صحيح مسلم : " ولا تخمروا رأسه ولا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا " وهذا الحديث في صحيح مسلم بألفاظ متعددة في بعضها الاقتصار على النهي عن تخمير الرأس ، وفيها النهي عن تخمير الرأس والوجه ، وفي بعضها : النهي عن مسه بطيب ، وفي بعضها : النهي عن أن يقربوه طيبا وأن يغطوا وجهه ، وكل ذلك ثابت ، وهو نص صريح في منع تغطية المحرم الذكر رأسه أو وجهه ، أما المرأة فإنها تغطي رأسها ، ولا تغطي وجهها ، إلا إذا خافت نظر الرجال الأجانب إليه ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى . ومن ذلك لبس كل شيء محيط بالبدن ، أو بعضه ، وكل شيء يغطي الرأس كما تقدم قريبا : فلا يجوز للمحرم لبس القميص ، ولا العمامة ، ولا السراويل ، ولا البرنس ، ولا القباء ، ولا الخف إلا إذا لم يجد نعلا فإنه يجوز له لبس الخفين ، ويلزمه أن يقطعهما أسفل من الكعبين ، وكذلك إذا لم يجد إزارا : فله أن يلبس السراويل على الأصح فيهما .

                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك لا يجوز له أن يلبس ثوبا مسه ورس أو زعفران . وهذه أدلة منع ما ذكر .

                                                                                                                                                                                                                                      قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - : أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما يلبس المحرم من الثياب ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يلبس القمص المحرم ، ولا العمائم ، ولا السراويلات ، ولا البرانس ، ولا الخفاف ، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ، ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران أو ورس " انتهى من صحيح البخاري .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 15 ] وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، قال : قرأت على مالك عن نافع ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - : أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما يلبس المحرم من الثياب ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا تلبسوا القمص ، ولا العمائم ، ولا السراويلات ، ولا البرانس ، ولا الخفاف ، إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ، ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس " . وأخرج مسلم - رحمه الله - هذا الحديث عن ابن عمر أيضا من طريق ابنه سالم . وأخرج بعضه أيضا من طريق عبد الله بن دينار . ثم قال مسلم : حدثنا يحيى بن يحيى ، وأبو الربيع الزهراني ، وقتيبة بن سعيد جميعا ، عن حماد ، قال يحيى : أخبرنا حماد بن زيد ، عن عمرو ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب يقول : " السراويل لمن لم يجد الإزار ، والخفان لمن لم يجد النعلين " يعني : المحرم . وقد ذكر مسلم هذا الحديث من طرق ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس ، وزاد شعبة في روايته ، عن عمرو : يخطب بعرفات .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البخاري نحوه عن ابن عباس أيضا ، قال مسلم - رحمه الله - : وحدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، حدثنا زهير ، حدثنا أبو الزبير ، عن جابر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من لم يجد نعلين ، فليلبس خفين ، ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل " انتهى من صحيح مسلم ، وهو يدل دلالة واضحة على جواز لبس السراويل للمحرم ، الذي لم يجد إزارا ، كجواز لبس الخفين لمن لم يجد نعلين ، وفي حديث ابن عباس ، وجابر المذكورين زيادة على حديث ابن عمر : وهي جواز السراويل لمن لم يجد إزارا ، وهذه الزيادة يجب قبولها ، خلافا لمن منع قبولها ، وإطلاق الخفين في حديث ابن عباس ، وجابر المذكورين يجب تقييده بما في حديث ابن عمر من قطعهما أسفل من الكعبين ; لوجوب حمل المطلق على المقيد ، ولا سيما إذا اتحد حكمهما وسببهما كما هنا ، كما هو مقرر في الأصول .

                                                                                                                                                                                                                                      فأظهر الأقوال دليلا : أنه لا يجوز لبس الخفين ، إلا في حالة عدم وجود النعلين ، وأن قطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين لا بد منه ، وأن لبس السراويل جائز للمحرم الذي لم يجد إزارا ، خلافا لمن ذهب إلى غير ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال النووي في " شرح المهذب " : وأما حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يلبس المحرم القميص ، ولا السراويلات ، ولا البرنس ، ولا العمامة ، ولا الخف ، إلا [ ص: 16 ] ألا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران " فرواه البخاري ومسلم هكذا ، وزاد البيهقي وغيره فيه : " ولا يلبس القباء " وقال البيهقي : هذه الزيادة صحيحة محفوظة ، انتهى منه وهو دليل على منع لبس القباء للمحرم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن حجر في " فتح الباري " في شرحه لحديث ابن عمر المذكور : زاد الثوري في روايته ، عن أيوب ، عن نافع في هذا الحديث : " ولا القباء " ، أخرجه عبد الرزاق ، ورواه الطبراني من وجه آخر عن الثوري ، وأخرجه الدارقطني ، والبيهقي من طريق حفص بن غياث ، عن عبد الله بن عمر ، عن نافع أيضا . انتهى محل الغرض منه . وهذا الذي ذكرنا من تحريم اللباس المذكور إنما هو في حق الرجال ، وأما النساء فلهن أن يلبسن ما شئن من أنواع الثياب ، إلا أنهن لا يجوز لهن أن ينتقبن ، ولا أن يلبسن القفازين ; لأن إحرام المرأة في وجهها وكفيها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا الليث ، حدثنا نافع ، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال : قام رجل فقال : يا رسول الله ، ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب . . . الحديث ، وفيه " ولا تنتقب المرأة المحرمة ، ولا تلبس القفازين " تابعه موسى بن عقبة ، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ، وجويرية ، وابن إسحاق في النقاب والقفازين ، وقال عبد الله : ولا ورس ، وكان يقول : لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين ، وقال مالك عن نافع عن ابن عمر : لا تنتقب المحرمة ، وتابعه ليث بن أبي سليم . انتهى من صحيح البخاري .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو داود - رحمه الله - في سننه بعد أن ساق حديث ابن عمر المتقدم : حدثنا قتيبة بن سعيد ، ثنا الليث ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه . وزاد : " ولا تنتقب المرأة الحرام ، ولا تلبس القفازين " . وفي لفظ عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين " وقال النووي في " شرح المهذب " في هذا الحديث : وأما حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى النساء في إحرامهن عن القفازين ، والنقاب ، وما مسه الورس ، والزعفران من الثياب وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من أنواع الثياب من معصفر أو خز أو حرير ، أو حليا ، أو سراويل ، أو قميصا ، أو خفا ، فرواه أبو داود بإسناد حسن ، وهو من رواية محمد بن إسحاق صاحب المغازي ، إلا أنه قال : حدثني نافع عن ابن عمر وأكثر ما أنكر على ابن إسحاق التدليس ، وإذا قال المدلس : حدثني ، [ ص: 17 ] احتج به على المذهب الصحيح المشهور . انتهى منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن حجر في " التلخيص " : حديث أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى النساء في إحرامهن عن النقاب ، وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من ألوان الثياب معصفرا ، أو خزا ، أو حليا ، أو سراويل ، أو قميصا ، أو خفا . رواه أبو داود والحاكم والبيهقي من حديث ابن عمر ، واللفظ لأبي داود زاد فيه بعد قوله : عن النقاب : " وما مس الزعفران والورس من الثياب وليلبسن بعد ذلك " . ورواه أحمد إلى قوله " من الثياب " ، ومن ذلك استعمال المحرم الطيب في بدنه ، أو ثيابه ، والطيب هو ما يتطيب به ، ويتخذ منه الطيب ، كالمسك ، والكافور ، والعنبر ، والصندل ، والورس ، والزعفران ، والورد ، والياسمين ونحو ذلك ، والأصل في منع استعمال الطيب للمحرم هو ما قدمنا في حديث ابن عمر المتفق عليه من نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن لبس ما مسه الزعفران ، والورس من الثياب في الإحرام ، وما قدمنا من حديث مسلم في الذي وقع عن راحلته فأوقصته فمات . ففي لفظ في صحيح مسلم : فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغسل بماء وسدر وأن يكفن في ثوبين ، ولا يمس طيبا ، الحديث . وفي لفظ في صحيح مسلم : فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اغسلوه ولا تقربوه طيبا ، ولا تغطوا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة يلبي " ، فقوله : " ولا يمس طيبا " في الرواية الأولى نكرة في سياق النفي وقوله : " ولا تقربوه طيبا " في الرواية الثانية نكرة في سياق النهي ، وكلتاهما من صيغ العموم ، كما هو مقرر في الأصول فهو يدل على منع جميع أنواع الطيب للمحرم ، وترتيبه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك بالفاء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : " فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا " دليل على أن علة منع ذلك الطيب كونه محرما ملبيا ، والدلالة على العلة المذكورة هي من دلالة مسلك الإيماء والتنبيه ، كما هو معروف في الأصول . ومن ذلك عقد النكاح ، فإنه لا يجوز للمحرم أن يتزوج ، ولا أن يزوج غيره بولاية أو وكالة ، وسيأتي الخلاف في تزويج المحرم غيره بالولاية العامة إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية