الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما ) قال الزمخشري : وإذا جواب لسؤال مقدر كأنه قيل ، وماذا يكون لهم أيضا بعد التثبيت ؟ فقيل ، وإذا لو ثبتوا لأتيناهم ; لأن ( إذا ) جواب ، وجزاء ، انتهى . وظاهر قول الزمخشري : ; لأن ( إذا ) جواب ، وجزاء يفهم منه أنها تكون للمعنيين في حال واحد على كل حال ، وهذه مسألة خلاف . ذهب الفارسي إلى أنها قد تكون جوابا فقط في موضع ، وجوابا ، وجزاء في موضع نفي ، مثل : إذا أظنك صادقا لمن قال : أزورك ، هي جواب خاصة . وفي مثل : إذا أكرمك لمن قال : أزورك ، هي جواب ، وجزاء . وذهب الأستاذ أبو علي إلى أنها تتقدر بالجواب والجزاء في كل موضع وقوفا مع ظاهر كلام سيبويه . والصحيح قول الفارسي ، وهي مسألة يبحث عنها في علم النحو .

والأجر كناية عن الثواب على الطاعة ، ووصفه بالعظم باعتبار الكثرة ، أو باعتبار الشرف . والصراط المستقيم هو الإيمان المؤدي إلى الجنة ؛ قاله ابن عطية . وقيل هو الطريق إلى الجنة . وقيل الأعمال الصالحة . ولما فسر ابن عطية الصراط المستقيم بالإيمان قال : وجاء ترتيب هذه الآية كذا . ومعلوم أن الهداية قبل إعطاء الأجر ; لأن المقصد إنما هو تعديد ما كان الله ينعم به عليهم دون ترتيب ؛ فالمعنى : وكهديناهم قبل حتى يكونوا ممن يؤتى الأجر ، انتهى . وأما إذا فسرت الهداية إلى الصراط هنا بأنه طريق الجنة ، أو الأعمال الصالحة ، فإنه يظهر الترتيب .

( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ) قال الكلبي : نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتى ذات يوم ، وقد تغير لونه ، ونحل جسمه فقال : يا ثوبان ما غير لونك ؟ فقال : يا رسول الله ما بي مرض ، ولا وجع ، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك ، واستوحشت ، وحشة شديدة حتى ألقاك ثم ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك هناك لأني أعرف أنك ترفع مع النبيين ، وإني وإن كنت أدخل الجنة كنت في منزل أدنى من منزلك ، وإن لم أدخل الجنة فذلك حين لا أراك أبدا . انتهى قول الكلبي . وحكي مثل قول ثوبان عن جماعة من الصحابة منهم : عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري ، وهو الذي أري الأذان قال : يا رسول الله ، إذا مت ومتنا ، كنت في عليين فلا نراك ولا نجتمع بك ، وذكر حزنه على ذلك ؛ فنزلت . وحكى مكي عن عبد الله هذا أنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قال : اللهم أعمني حتى لا أرى شيئا بعده ، فعمي . والمعنى في مع النبيين : إنه معهم في دار واحدة ، وكل من فيها رزق الرضا بحاله ، وهم بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر ، وإن بعد مكانه .

وقيل المعية هنا كونهم يرفعون إلى منازل الأنبياء متى شاءوا تكرمة لهم ، ثم يعودون إلى منازلهم . وقيل : إن الأنبياء والصديقين والشهداء ينحدرون إلى من أسفل منهم ليتذاكروا نعمة الله ؛ ذكره المهدوي في تفسيره الكبير . قال أبو عبد الله الرازي : هذه الآية تنبيه على أمرين من أحوال المعاد : الأول : إشراق الأرواح بأنوار المعرفة . والثاني : كونهم مع النبيين . وليس المراد بهذه المعية في الدرجة ، فإن ذلك ممتنع ، بل معناه : إن الأرواح الناقصة إذا استكملت علائقها مع الأرواح الكاملة في الدنيا بقيت بعد المفارقة تلك العلائق ؛ فينعكس الشعاع من بعضها على بعض ، فتصير أنوارها في غاية القوة ، فهذا ما خطر لي . انتهى كلامه . وهو شبيه بما قالته الفلاسفة في الأرواح إذا فارقت الأجساد . وأهل الإسلام يأبون هذه الألفاظ ومدلولاتها ؛ ولكن من غلب عليه شيء [ ص: 287 ] وحبه جرى في كلامه .

وقوله : " مع الذين أنعم الله عليهم " تفسير لقوله : ( صراط الذين أنعمت عليهم ) ، وهم من ذكر في هذه الآية . والظاهر أن قوله : من النبيين تفسير للذين أنعم الله عليهم . فكأنه قيل من يطع الله ورسوله منكم ألحقه الله بالذين تقدمهم ممن أنعم عليهم . قال الراغب : ممن أنعم عليهم من الفرق الأربع في المنزلة والثواب : النبي بالنبي والصديق بالصديق والشهيد بالشهيد والصالح بالصالح . وأجاز الراغب أن يتعلق ( من النبيين ) بقوله : ومن يطع الله والرسول ; أي من النبيين ، ومن بعدهم ، ويكون قوله : فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم إشارة إلى الملأ الأعلى . ثم قال : ( وحسن أولئك رفيقا ) ، ويبين ذلك قول النبي حين الموت ( اللهم ألحقني بالرفيق الأعلى ) ، وهذا ظاهر ، انتهى . وهذا الوجه الذي هو عنده ظاهر فاسد من جهة المعنى ، ومن جهة النحو أما من جهة المعنى فإن الرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم ؛ أخبر الله تعالى أن من يطيعه ، ويطيع رسوله فهو مع من ذكر ، ولو كان من النبيين معلقا بقوله : ومن يطع الله والرسول ؛ لكان قوله : من النبيين تفسيرا لمن في قوله : ومن يطع . فيلزم أن يكون في زمان الرسول أو بعده أنبياء يطيعونه ، وهذا غير ممكن ; لأنه قد أخبر تعالى أن محمدا هو خاتم النبيين . وقال هو : لا نبي بعدي . وأما من جهة النحو فما قبل فاء الجزاء لا يعمل فيما بعدها ، لو قلت : إن تقم هند فعمرو ذاهب ضاحكة ، لم يجز .

واختلفوا في الأوصاف الثلاثة التي بعد النبيين ; فقال بعضهم : كلها أوصاف لموصوف واحد ، وهي صفات متداخلة ، فإنه لا يمتنع في الشخص الواحد أن يكون صديقا وشهيدا وصالحا . وقيل المراد بكل وصف صنف من الناس . فأما الصديق فهو فعيل للمبالغة كشريب ؛ فقيل هو الكثير الصدق ، وقيل هو الكثير الصدقة . وللمفسرين في تفسيره وجوه : الأول : أن كل من صدق بكل الذي لا يتخالجه فيه شك فهو صديق لقوله تعالى : ( والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون ) . الثاني : أفاضل أصحاب الرسول . الثالث : السابق إلى تصديق الرسول . فصار في ذلك قدوة لسائر الناس . وأما الشهيد : فهو المقتول في سبيل الله ؛ المخصوص بفضل الميتة . وفرق الشرع حكمهم في ترك الغسل والصلاة ; لأنهم أكرم من أن يشفع فيهم . وقد تقدم الكلام في كونهم سموا شهداء ، ولكن لفظ الشهداء في الآية يعم أنواع الشهداء الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال أبو عبد الله الرازي : لا يجوز أن تكون الشهادة مفسرة بكون الإنسان مقتول الكافر ؛ بل نقول : الشهيد فعيل بمعنى فاعل ، وهو الذي يشهد لدين الله تارة بالحجة بالبيان ، وتارة بالسيف والسنان . فالشهداء هم القائمون بالقسط وهم الذين ذكرهم الله في قوله : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو ) . والصالح : هو الذي يكون صالحا في اعتقاده ، وعمله . وجاء هذا التركيب على هذا القول على حسب التنزل من الأعلى إلى الأدنى ، إلى أدنى منه . وفي هذا الترغيب للمؤمنين في طاعة الله ، وطاعة رسوله حيث وعدوا بمرافقة أقرب عباد الله إلى الله ، وأرفعهم درجات عنده .

وقال الراغب : قسم الله المؤمنين في هذه الآية أربعة أقسام ، وجعل لهم أربعة منازل بعضها دون بعض ، وحث كافة الناس أن يتأخروا عن منزل واحد منهم ؛ الأول : الأنبياء الذين تمدهم قوة الإلهية ، ومثلهم كمن يرى الشيء عيانا من قريب . ولذلك قال تعالى : ( أفتمارونه على ما يرى ) . الثاني : الصديقون ؛ وهم الذين يزاحمون الأنبياء في المعرفة ، ومثلهم كمن يرى الشيء عيانا من بعيد ، وإياه عنى أمير المؤمنين حين قيل له : هل رأيت الله ؟ فقال : ما كنت عبد شيء لم أره . ثم قال : " لم تره العيون بشواهد الأبصار ؛ ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان . الثالث : الشهداء ، وهم الذين يعرفون الشيء [ ص: 288 ] بالبراهين . ومثلهم كمن يرى الشيء في المرآة من مكان قريب كحال حارثة ، حيث قال : كأني أنظر إلى عرش ربي ، وإياه قصد النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : اعبد الله كأنك تراه . الرابع : الصالحون ، وهم الذين يعرفون الشيء باتباعات وتقليدات الراسخين في العلم ، ومثلهم كمن يرى الشيء من بعيد في مرآة . وإياه قصد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، انتهى كلامه . وهو شبيه بكلام المتصوفة .

وقال عكرمة : النبيون محمد والصديقون أبو بكر والشهداء عمر ، وعثمان ، وعلي والصالحون صالحو أمة محمد ، انتهى . وينبغي أن يكون ذلك على طريق التمثيل ، وأما على طريق الحصر فلا ، ولا يفهم من قوله : ومن يطع الله والرسول ظاهر اللفظ من الاكتفاء بالطاعة الواحدة إذ اللفظ الدال على الصفة يكفي في العمل في جانب الثبوت حصول ذلك المسمى مرة واحدة لدخول المنافقين فيه ; لأنهم قد يأتون بالطاعة الواحدة ، بل يحمل على غير الظاهر بأن تحمل الطاعة على فعل جميع المأمورات ، وترك جميع المنهيات .

( وحسن أولئك رفيقا ) أولئك : إشارة إلى النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . لم يكتف بالمعية حتى جعلهم رفقاء لهم ، فالمطيع لله ولرسوله يوافقونه ، ويصحبونه والرفيق الصاحب ، سمي بذلك للارتفاق به . وعلى هذا يجوز أن ينتصب رفيقا على الحال من أولئك ، أو على التمييز . وإذا انتصب على التمييز فيحتمل أن لا يكون منقولا ؛ فيجوز دخول من عليه ، ويكون هو المميز . وجاء مفردا إما لأن الرفيق مثل الخليط والصديق يكون للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد . وإما لإطلاق المفرد في باب التمييز اكتفاء ، ويراد به الجمع ، ويحسن ذلك هنا كونه فاصلة . ويحتمل أن يكون منقولا من الفاعل ، فلا يكون هو المميز ، والتقدير : وحسن رفيق أولئك ، فلا تدخل عليه ( من ) ، ويجوز أن يكون أولئك إشارة إلى من [ ص: 289 ] يطع الله والرسول ، وجمع على معنى من ، ويجوز في انتصاب رفيقا الأوجه السابقة .

وقرأ الجمهور : وحسن بضم السين ، وهي الأصل ، ولغة الحجاز . وقرأ أبو السمال : وحسن بسكون السين ، وهي لغة تميم . ويجوز : وحسن بسكون السين ، وضم الحاء على تقدير نقل حركة السين إليها ؛ وهي لغة بعض بني قيس . قال الزمخشري : وحسن أولئك رفيقا فيه معنى التعجب ؛ كأنه قيل : وما أحسن أولئك رفيقا . ولاستقلاله بمعنى التعجب : وحسن بسكون السين . يقول المتعجب . وحسن الوجه وجهك بالفتح والضم مع التسكين ، انتهى كلامه . وهو تخليط وتركيب مذهب على مذهب . فنقول : اختلفوا في فعل المراد به المدح والذم ؛ فذهب الفارسي وأكثر النحويين إلى جواز إلحاقه بباب نعم وبئس فقط ، فلا يكون فاعلا إلا بما يكون فاعلا لهما . وذهب الأخفش والمبرد إلى جواز إلحاقه بباب نعم وبئس ؛ فيجعل فاعلها كفاعلهما ؛ وذلك إذا لم يدخله معنى التعجب . وإلى جواز إلحاقه بفعل التعجب فلا يجري مجرى نعم وبئس في الفاعل ، ولا في بقية أحكامهما ؛ بل يكون فاعله ما يكون مفعولا لفعل التعجب ؛ فيقول : لضربت يدك ، ولضربت اليد . والكلام على هذين المذهبين - تصحيحا وإبطالا - مذكور في علم النحو . والزمخشري لم يتبع واحدا من هذين المذهبين ، بل خلط وركب ، فأخذ التعجب من مذهب الأخفش ، وأخذ التمثيل بقوله : وحسن الوجه وجهك ، وحسن الوجه وجهك من مذهب الفارسي . وأما قوله : ولاستقلاله بمعنى التعجب ، قرئ : وحسن بسكون السين ، وذكر أن المتعجب يقول : وحسن وحسن ، فهذا ليس بشيء ; لأن الفراء ذكر أن تلك لغات للعرب ؛ فلا يكون التسكين ، ولا هو والنقل جل التعجب .

( ذلك الفضل من الله ) الظاهر أن الإشارة إلى كينونة المطيع من النبيين ، ومن عطف عليهم ; لأنه هو المحكوم به في قوله : ( فأولئك مع الذين ) ، وكأنه على تقدير سؤال ; أي وما الموجب لهم استواؤهم مع النبيين في الآخرة ، مع أن الفرق بينهم في الدنيا بين ؟ فذكر أن ذلك بفضله ، لا بوجوب عليه . ومع استوائهم معهم في الجنة فهم متباينون في المنازل .

وقيل : الإشارة إلى الثواب في قوله أجرا عظيما . وقيل : إلى الطاعة . وقيل : إلى المرافقة . وقال الزمخشري : إن ما أعطي المطيعون من الأجر العظيم ومرافقة المنعم عليهم من الله ؛ لأنه تفضل به عليهم تبعا لثوابهم ، و ( ذلك ) مبتدأ و ( الفضل ) خبره ، و ( من الله ) حال ، ويجوز أن يكون ( الفضل ) صفة ، والخبر من الله . ويجوز أن يكونا خبرين على مذهب من يجيز ذلك .

( وكفى بالله عليما ) لما ذكر الطاعة وذكر جزاء من يطيع أتى بصفة العلم التي تتضمن [ ص: 290 ] الجزاء أي : وكفى به مجازيا لمن أطاع . قال ابن عطية : فيه معنى أن تقول : فشملوا فعل الله وتفضله من الاعتراض عليه ، واكتفوا بعلمه في ذلك وغيره ؛ ولذلك دخلت الباء على اسم الله تعالى لتدل على الأمر الذي في قوله : وكفى ، انتهى . وقد بينا فساد قول من يدعي أن قولك : كفى بزيد معناه اكتف بزيد عند الكلام على قوله : ( وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ) . وقال الزمخشري : وكفى بالله عليما بجزاء من أطاعه . أو أراد فصل المنعم عليهم ، ومزيتهم من الله ؛ لأنهم اكتسبوه بتمكينه وتوفيقه ، وكفى بالله عليما بعباده ؛ فهو يوفقهم على حسب أحوالهم ، انتهى . وهي ألفاظ المعتزلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية