الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير .

تحذير من العود إلى مخالجة عقائد المشركين ، وبيان لسوء عاقبة تلك العقائد في الدنيا أيضا . والكلام استئناف . والإقبال على المؤمنين بالخطاب تلطف بهم جميعا بعد تقريع فريق منهم الذين تولوا يوم التقى الجمعان . واللام في قوله لإخوانهم ليست لام تعدية فعل القول بل هي لام العلة كقوله تعالى ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا لأن الإخوان ليسوا متكلما معهم بل هم الذين ماتوا وقتلوا ، والمراد بالإخوان الأقارب في النسب ، أي من الخزرج المؤمنين ، لأن الشهداء من المؤمنين .

و ( إذا ) هنا ظرف للماضي بدليل فعلي قالوا و ( ضربوا ) ، وقد حذف فعل دل عليه قوله ما ماتوا تقديره : فماتوا في سفرهم أو قتلوا في الغزو .

والضرب في الأرض هو السفر ، فالضرب مستعمل في السير لأن أصل الضرب [ ص: 142 ] هو إيقاع جسم على جسم وقرعه به ، فالسير ضرب في الأرض بالأرجل ، فأطلق على السفر للتجارة في قوله تعالى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ، وعلى مطلق السفر كما هنا ، وعلى السفر للغزو كما في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا وقوله وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة والظاهر أن المراد هنا السفر في مصالح المسلمين لأن ذلك هو الذي يلومهم عليه الكفار ، وقيل : أريد بالضرب في الأرض التجارة .

وعليه يكون قرنه مع القتل في الغزو لكونهما كذلك في عقيدة الكفار .

و ( غزى ) جمع غاز . وفعل قليل في جمع فاعل الناقص . وهو مع ذلك فصيح . ونظيره عفى في قول امرئ القيس :


لها قلب عفى الحياض أجون

وقوله ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم علة لـ ( قالوا ) باعتبار ما يتضمنه من اعتقاد ذلك مع الإعلان به توجيها للنهي عن التشبيه بهم أي فإنكم إن اعتقدتم اعتقادهم لحقكم أثره كما لحقهم ، فالإشارة بقوله ذلك إلى القول الدال على الاعتقاد ، وعلى هذا الوجه فالتعليل خارج عن التشبيه . وقيل : اللام لام العاقبة ، أي : لا تكونوا كالذين قالوا ، فترتب على قولهم أن كان ذلك حسرة في قلوبهم ، فيكون قوله ليجعل على هذا الوجه من صلة الذين ، ومن جملة الأحوال المشبهة بها ، فيعلم أن النهي عن التشبيه بهم فيها لما فيها من الضر .

والحسرة : شدة الأسف أي الحزن ، وكان هذا حسرة عليهم لأنهم توهموا أن مصابهم نشأ عن تضييعهم الحزم ، وأنهم لو كانوا سلكوا غير ما سلكوه لنجوا فلا يزالون متلهفين على ما فاتهم . والمؤمن يبذل جهده فإذا خاب سلم لحكم القدر .

[ ص: 143 ] وقوله والله بما تعملون بصير تحذير لهم من أن يضمروا العود إلى ما نهوا عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية