الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب .

جملة حال ، أي وهم لا قبل لهم بتأويله ; إذ ليس تأويله لأمثالهم ، كما قيل في المثل : ( ليس بعشك فادرجي ) .

ومن هنا أمسك السلف عن تأويل المتشابهات ، غير الراجعة إلى التشريع ، فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في كتاب الله [ ص: 164 ] بما لا أعلم وجاء في زمن عمر - رضي الله عنه - رجل إلى المدينة من البصرة ، يقال له صبيغ بن شريك أو ابن عسل التميمي فجعل يسأل الناس عن متشابه القرآن ، وعن أشياء . فأحضره عمر ، وضربه ضربا موجعا ، وكرر ذلك أياما ، فقال : حسبك يا أمير المؤمنين فقد ذهب ما كنت أجد في رأسي ، ثم أرجعه إلى البصرة وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن يمنع الناس من مخالطته . ومن السلف من تأول عند عروض الشبهة لبعض الناس ، كما فعل ابن عباس فيما ذكرناه آنفا .

قال ابن العربي - في ( العواصم من القواصم ) - من الكائدين للإسلام الباطنية والظاهرية . قلت : أما الباطنية فقد جعلوا معظم القرآن متشابها ، وتأولوه بحسب أهوائهم ، وأما الظاهريون فقد أكثروا في متشابهه ، واعتقدوا سبب التشابه واقعا ، فالأولون دخلوا في قوله : وابتغاء تأويله ، والأخيرون خرجوا من قوله : وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم أو وما يعلم تأويله إلا الله فخالفوا الخلف والسلف . قال ابن العربي - في العواصم - : وأصل الظاهريين الخوارج الذين قالوا : لا حكم إلا لله ، يعني أنهم أخذوا بظاهر قوله تعالى : إن الحكم إلا لله ، ولم يتأولوه بما هو المراد من الحكم .

والمراد بالراسخين في العلم : الذين تمكنوا في علم الكتاب ، ومعرفة محامله ، وقام عندهم من الأدلة ما أرشدهم إلى مراد الله تعالى ، بحيث لا تروج عليهم الشبه . والرسوخ في كلام العرب : الثبات والتمكن في المكان ، يقال : رسخت القدم ترسخ رسوخا إذا ثبتت عند المشي ولم تتزلزل ، واستعير الرسوخ لكمال العقل والعلم بحيث لا تضلله الشبه ، ولا تتطرقه الأخطاء غالبا ، وشاعت هذه الاستعارة حتى صارت كالحقيقة . فالراسخون في العلم : الثابتون فيه العارفون بدقائقه ، فهم يحسنون مواقع التأويل ويعلمونه .

ولذا فقوله والراسخون معطوف على اسم الجلالة ، وفي هذا العطف تشريف عظيم : كقوله شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم وإلى هذا التفسير مال ابن عباس ، ومجاهد ، والربيع بن سليمان ، والقاسم بن محمد ، والشافعية ، وابن فورك ، والشيخ أحمد القرطبي ، وابن عطية ، وعلى هذا فليس في القرآن آية استأثر [ ص: 165 ] الله بعلمها ، ويؤيد هذا أن الله أثبت للراسخين في العلم فضيلة ، ووصفهم بالرسوخ ، فآذن بأن لهم مزية في فهم المتشابه ; لأن المحكم يستوي في علمه جميع من يفهم الكلام ، ففي أي شيء رسوخهم ؟ وحكى إمام الحرمين ، عن ابن عباس : أنه قال في هاته الآية أنا ممن يعلم تأويله .

وقيل : الوقف على قوله إلا الله ، وإن جملة والراسخون في العلم مستأنفة ، وهذا مروي عن جمهور السلف ، وهو قول ابن عمر ، وعائشة ، وابن مسعود ، وأبي ، ورواه أشهب عن مالك في جامع العتبية ، وقاله عروة بن الزبير ، والكسائي ، والأخفش والفراء ، والحنفية ، وإليه مال فخر الدين .

ويؤيد الأول وصفهم بالرسوخ في العلم ; فإنه دليل بين على أن الحكم الذي أثبت لهذا الفريق ، هو حكم من معنى العلم والفهم في المعضلات ، وهو تأويل المتشابه ، على أن أصل العطف هو عطف المفردات دون عطف الجمل ، فيكون الراسخون معطوفا على اسم الجلالة فيدخلون في أنهم يعلمون تأويله . ولو كان الراسخون مبتدأ وجملة يقولون آمنا به خبرا ، لكان حاصل هذا الخبر مما يستوي فيه سائر المسلمين الذين لا زيغ في قلوبهم ، فلا يكون لتخصيص الراسخين فائدة . قال ابن عطية تسميتهم راسخين تقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه الجميع وما الرسوخ إلا المعرفة بتصاريف الكلام بقريحة معدة ، وما ذكرناه وذكره ابن عطية لا يعدو أن يكون ترجيحا لأحد التفسيرين ، وليس إبطالا لمقابله إذ قد يوصف بالرسوخ من يفرق بين ما يستقيم تأويله ، وما لا مطمع في تأويله .

وفي قوله : وما يذكر إلا أولو الألباب إشعار بأن الراسخين يعلمون تأويل المتشابه .

واحتج أصحاب الرأي الثاني ، وهو رأي الوقف على اسم الجلالة : بأن الظاهر أن يكون جملة والراسخون مستأنفة لتكون معادلا لجملة فأما الذين في قلوبهم زيغ ، والتقدير : وأما الراسخون في العلم . وأجاب التفتازاني بأن المعادل لا يلزم أن يكون مذكورا ، بل قد يحذف لدلالة الكلام عليه . واحتجوا أيضا بقوله تعالى [ ص: 166 ] يقولون آمنا به كل من عند ربنا قال الفخر : لو كانوا عالمين بتأويله لم يكن لهذا الكلام فائدة ; إذ الإيمان بما ظهر معناه أمر غير غريب . وسنجيب عن هذا عند الكلام على هذه الجملة ، وذكر الفخر حججا غير مستقيمة .

ولا يخفى أن أهل القول الأول لا يثبتون متشابها غير ما خفي المراد منه ، وأن خفاء المراد متفاوت ، وأن أهل القول الثاني يثبتون متشابها استأثر الله بعلمه ، وهو أيضا متفاوت ; لأن منه ما يقبل تأويلات قريبة ، وهو مما ينبغي ألا يعد من المتشابه في اصطلاحهم ، لكن صنيعهم في الإمساك عن تأويل آيات كثيرة سهل تأويلها مثل فإنك بأعيننا دل على أنهم يسدون باب التأويل في المتشابه ، قال الشيخ ابن عطية إن تأويل ما يمكن تأويله لا يعلم تأويله - على الاستيفاء - إلا الله تعالى ، فمن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه ، فإنما أراد هذا النوع ، وخافوا أن يظن أحد أن الله وصف الراسخين بعلم التأويل على الكمال .

وعلى الاختلاف في محمل العطف في قوله تعالى : والراسخون في العلم انبنى اختلاف بين علماء الأمة في تأويل ما كان متشابها من آيات القرآن ، ومن صحاح الأخبار ، عن النبيء ، صلى الله عليه وسلم .

فكان رأي فريق منهم الإيمان بها ، على إبهامها وإجمالها ، وتفويض العلم بكنه المراد منها إلى الله تعالى ، وهذه طريقة سلف علمائنا ، قبل ظهور شكوك الملحدين أو المتعلمين ، وذلك في عصر الصحابة والتابعين وبعض عصر تابعيهم ، ويعبر عنها بطريقة السلف ، ويقولون : طريقة السلف أسلم ، أي أشد سلامة لهم من أن يتأولوا تأويلات لا يدرى مدى ما تفضي إليه من أمور لا تليق بجلال الله تعالى ولا تتسق مع ما شرعه للناس من الشرائع ، مع ما رأوا من اقتناع أهل عصرهم بطريقتهم ، وانصرافهم عن التعمق في طلب التأويل .

وكان رأي جمهور من جاء بعد عصر السلف تأويلها بمعان من طرائق استعمال الكلام العربي البليغ من مجاز ، واستعارة ، وتمثيل ، مع وجود الداعي إلى التأويل ، وهو تعطش العلماء الذين اعتادوا التفكر والنظر وفهم الجمع بين أدلة القرآن والسنة ، ويعبر عن هذه الطريقة بطريقة الخلف ، ويقولون : طريقة الخلف أعلم ، أي أنسب بقواعد [ ص: 167 ] العلم وأقوى في تحصيل العلم لجدال الملحدين ، والمقنع لمن يتطلبون الحقائق من المتعلمين ، وقد يصفونها بأنها أحكم أي أشد إحكاما ; لأنها تقنع أصحاب الأغراض كلهم . وقد وقع هذان الوصفان في كلام المفسرين وعلماء الأصول ، ولم أقف على تعيين أول من صدر عنه ، وقد تعرض الشيخ ابن تيمية - في العقيدة الحموية - إلى رد هذين الوصفين ولم ينسبهما إلى قائل . والموصوف بأسلم وبأعلم الطريقة لا أهلها ; فإن أهل الطريقتين من أئمة العلم ، وممن سلموا في دينهم من الفتن .

وليس في وصف هذه الطريقة بأنها أعلم أو أحكم ، غضاضة من الطريقة الأولى ; لأن العصور الذين درجوا على الطريقة الأولى فيهم من لا تخفى عليهم محاملها بسبب ذوقهم العربي ، وهديهم النبوي ، وفيهم من لا يعير البحث عنها جانبا من همته ، مثل سائر العامة . فلا جرم كان طي البحث عن تفصيلها أسلم للعموم ، وكان تفصيلها بعد ذلك أعلم لمن جاء بعدهم ، بحيث لو لم يؤولوها به لأوسعوا للمتطلعين إلى بيانها مجالا للشك أو الإلحاد أو ضيق الصدر في الاعتقاد .

واعلم أن التأويل منه ما هو واضح بين ، فصرف اللفظ المتشابه عن ظاهره إلى ذلك التأويل يعادل حمل اللفظ على أحد معنييه المشهورين لأجل كثرة استعمال اللفظ في المعنى غير الظاهر منه . فهذا القسم من التأويل حقيق بألا يسمى تأويلا ، وليس أحد محمليه بأقوى من الآخر إلا أن أحدهما أسبق في الوضع من الآخر ، والمحملان متساويان في الاستعمال وليس سبق إطلاق اللفظ على أحد المعنيين بمقتض ترجيح ذلك المعنى ، فكم من إطلاق مجازي للفظ هو أسبق إلى الأفهام من إطلاقه الحقيقي . وليس قولهم في علم الأصول بأن الحقيقة أرجح من المجاز بمقبول على عمومه .

وتسمية هذا النوع بالمتشابه ليست مرادة في الآية . وعده من المتشابه جمود .

ومن التأويل ما ظاهر معنى اللفظ فيه أشهر من معنى تأويله ولكن القرائن أو الأدلة أوجبت صرف اللفظ عن ظاهر معناه . فهذا حقيق بأن يعد من المتشابه .

ثم إن تأويل اللفظ في مثله قد يتيسر بمعنى مستقيم يغلب على الظن أنه المراد إذا جرى حمل اللفظ على ما هو من مستعملاته في الكلام البليغ مثل الأيدي والأعين في [ ص: 168 ] قوله : بنيناها بأيد وقوله : فإنك بأعيننا فمن أخذوا من مثله أن لله أعينا لا يعرف كنهها ، أو له يدا ليست كأيدينا ، فقد زادوا في قوة الاشتباه .

ومنه ما يعتبر تأويله احتمالا وتجويزا بأن يكون الصرف عن الظاهر متعينا . وأما حمله على ما أولوه به فعلى وجه الاحتمال والمثال ، وهذا مثل قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى وقوله : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام فمثل ذلك مقطوع بوجوب تأويله ولا يدعي أحد أن ما أوله به هو المراد منه ولكنه وجه تابع لإمكان التأويل ، وهذا النوع أشد مواقع التشابه والتأويل .

وقد استبان لك من هذه التأويلات : أن نظم الآية جاء على أبلغ ما يعبر به في مقام يسع طائفتين من علماء الإسلام في مختلف العصور .

وقوله : يقولون آمنا به حال من الراسخون أي يعلمون تأويله في هذه الحالة والمعنى عليه يحتمل أن يكون المراد من القول الكناية عن الاعتقاد ; لأن شأن المعتقد أن يقول معتقده ، أي يعلمون تأويله ولا يهجس في نفوسهم شك من جهة وقوع المتشابه حتى يقولوا : لماذا لم يجئ الكلام كله واضحا ، ويتطرقهم من ذلك إلى الريبة في كونه من عند الله ، فلذلك يقولون : كل من عند ربنا . ويحتمل أن المراد : يقولون لغيرهم ، أي من لم يبلغ مرتبة الرسوخ من عامة المسلمين ، الذين لا قبل لهم بإدراك تأويله ، ليعلموهم الوقوف عند حدود الإيمان ، وعدم التطلع إلى ما ليس بالإمكان ، وهذا يقرب مما قاله أهل الأصول : إن المجتهد لا يلزمه بيان مدركه للعامي ، إذا سأله عن مأخذ الحكم ، إذا كان المدرك خفيا . وبهذا يحصل الجواب عن احتجاج الفخر بهذه الجملة لترجيح الوقف على اسم الجلالة .

وعلى قول المتقدمين يكون قوله : " يقولون " خبرا ، ومعنى قوله : آمنا به آمنا بكونه من عند الله ، وإن لم نفهم معناه .

وقوله : كل من عند ربنا أي كل من المحكم والمتشابه . وهو على الوجهين بيان لمعنى قولهم : آمنا به فلذلك قطعت الجملة . أي كل من المحكم والمتشابه ، منزل من الله .

[ ص: 169 ] وزيدت كلمة " عند " للدلالة على أن " من " هنا للابتداء الحقيقي دون المجازي ، أي هو منزل من وحي الله تعالى وكلامه ، وليس كقوله : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك .

وجملة وما يذكر إلا أولو الألباب تذييل ، ليس من كلام الراسخين ، مسوق مساق الثناء عليهم في اهتدائهم إلى صحيح الفهم .

والألباب : العقول ، وتقدم عند قوله تعالى : واتقون يا أولي الألباب في سورة البقرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية