الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب ما جاء إن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام وقال الله تعالى قل كل يعمل على شاكلته على نيته نفقة الرجل على أهله يحتسبها صدقة وقال النبي صلى الله عليه وسلم ولكن جهاد ونية

                                                                                                                                                                                                        54 حدثنا عبد الله بن مسلمة قال أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الأعمال بالنية ولكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه [ ص: 164 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 164 ] قوله : ( باب ما جاء ) أي : باب بيان ما ورد دالا على أن الأعمال الشرعية معتبرة بالنية والحسبة ، والمراد بالحسبة طلب الثواب ، ولم يأت بحديث لفظه الأعمال بالنية والحسبة ، وإنما استدل بحديث عمر على أن الأعمال بالنية ، وبحديث أبي مسعود على أن الأعمال بالحسبة ، وقوله " ولكل امرئ ما نوى " هو بعض حديث الأعمال بالنية . وإنما أدخل قوله والحسبة بين الجملتين للإشارة إلى أن الثانية تفيد ما لا تفيد الأولى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فدخل فيه ) هو من مقول المصنف ، وليس بقية مما ورد . وقد أفصح ابن عساكر في روايته بذلك فقال : قال أبو عبد الله - يعني المصنف - والضمير في فيه يعود على الكلام المتقدم . وتوجيه دخول النية في الإيمان على طريقة المصنف أن الإيمان عمل كما تقدم شرحه . وأما الإيمان بمعنى التصديق فلا يحتاج إلى نية كسائر أعمال القلوب - من خشية الله وعظمته ومحبته والتقرب إليه - لأنها متميزة لله تعالى فلا تحتاج لنية تميزها ; لأن النية إنما تميز العمل لله عن العمل لغيره رياء ، وتميز مراتب الأعمال كالفرض عن الندب ، وتميز العبادة عن العادة كالصوم عن الحمية .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( والوضوء ) أشار به إلى خلاف من لم يشترط فيه النية كما نقل عن الأوزاعي وأبي حنيفة وغيرهما وحجتهم أنه ليس عبادة مستقلة بل وسيلة إلى عبادة كالصلاة ، ونوقضوا بالتيمم فإنه وسيلة وقد اشترط الحنفية فيه النية ، واستدل الجمهور على اشتراط النية في الوضوء بالأدلة الصحيحة المصرحة بوعد الثواب عليه ، فلا بد من قصد يميزه عن غيره ليحصل الثواب الموعود ، وأما الصلاة فلم يختلف في اشتراط النية فيها ، وأما الزكاة فإنما تسقط بأخذ السلطان ولو لم ينو صاحب المال لأن السلطان قائم مقامه ، وأما الحج فإنما ينصرف إلى فرض من حج عن غيره لدليل خاص وهو حديث ابن عباس في قصة شبرمة ، وأما الصوم فأشار به إلى خلاف من زعم أن صيام رمضان لا يحتاج إلى نية لأنه متميز بنفسه كما نقل عن زفر . وقدم المصنف الحج على الصوم تمسكا بما ورد عنده في حديث " بني الإسلام " وقد تقدم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( والأحكام ) أي : المعاملات التي يدخل فيها الاحتياج إلى المحاكمات فيشمل البيوع والأنكحة والأقارير وغيرها ، وكل صورة لم يشترط فيها النية فذاك لدليل خاص ، وقد ذكر ابن المنير ضابطا لما يشترط فيه النية مما لا يشترط فقال : كل عمل لا تظهر له فائدة عاجلة بل المقصود به طلب الثواب فالنية مشترطة فيه ، وكل عمل ظهرت فائدته ناجزة وتعاطته الطبيعة قبل الشريعة لملاءمة بينهما فلا تشترط النية فيه إلا لمن قصد بفعله معنى آخر يترتب عليه الثواب . قال : وإنما اختلف العلماء في بعض الصور من جهة تحقيق مناط التفرقة قال : وأما ما كان من المعاني المحضة كالخوف والرجاء فهذا لا يقال باشتراط النية فيه ; لأنه لا يمكن أن يقع إلا منويا . ومتى فرضت النية مفقودة فيه استحالت حقيقته ، فالنية فيه شرط عقلي ، ولذلك لا تشترط النية للنية فرارا [ ص: 165 ] من التسلسل . وأما الأقوال فتحتاج إلى النية في ثلاثة مواطن : أحدها التقرب إلى الله فرارا من الرياء ، والثاني التمييز بين الألفاظ المحتملة لغير المقصود ، والثالث قصد الإنشاء ليخرج سبق اللسان .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال الله ) قال الكرماني : الظاهر أنها جملة حالية لا عطف ، أي والحال أن الله قال . ويحتمل أن تكون للمصاحبة ، أي : مع أن الله قال .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( على نيته ) تفسير منه لقوله : ( على شاكلته ) بحذف أداة التفسير ، وتفسير الشاكلة بالنية صح عن الحسن البصري ومعاوية بن قرة المزني وقتادة أخرجه عبد بن حميد والطبري عنهم ، وعن مجاهد قال : الشاكلة الطريقة أو الناحية ، وهذا قول الأكثر ، وقيل الدين . وكلها متقاربة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ولكن جهاد ونية ) هو طرف من حديث لابن عباس أوله " لا هجرة بعد الفتح " وقد وصله المؤلف في الجهاد وغيره من طريق طاوس عنه ، وسيأتي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( الأعمال بالنية ) كذا أورده من رواية مالك بحذف " إنما " من أوله ، وقد رواه مسلم عن القعنبي وهو عبد الله بن مسلمة المذكور هنا بإثباتها ، وتقدم الكلام على نكت من هذا الحديث أول الكتاب .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية