الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات )

قال أبو جعفر : يعني بذلك : ومن لم يستطع منكم ، أيها الناس ، طولا يعني من الأحرار " أن ينكح المحصنات " وهن الحرائر " المؤمنات " اللواتي قد [ ص: 186 ] صدقن بتوحيد الله وبما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحق .

وبنحو ما قلنا في " المحصنات " قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

9062 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : أن ينكح المحصنات ، يقول : أن ينكح الحرائر ، فلينكح من إماء المؤمنين .

9063 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم قال : " المحصنات " الحرائر ، فلينكح الأمة المؤمنة .

9064 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

9065 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما " فتياتكم " فإماؤكم .

9066 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : أخبرنا هشيم قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير : أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ، قال : أما من لم يجد ما ينكح الحرة ، تزوج الأمة .

9067 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ، قال : لا يجد ما ينكح به حرة ، فينكح هذه الأمة ، فيتعفف بها ، ويكفيه أهلها [ ص: 187 ] مئونتها . ولم يحل الله ذلك لأحد ، إلا أن لا يجد ما ينكح به حرة فينفق عليها ، ولم يحل له حتى يخشى العنت .

9068 - حدثنا المثنى قال : حدثنا حبان بن موسى قال : أخبرنا ابن المبارك قال : أخبرنا سفيان ، عن هشام الدستوائي ، عن عامر الأحول ، عن الحسن : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تنكح الأمة على الحرة ، وتنكح الحرة على الأمة ، ومن وجد طولا لحرة فلا ينكح أمة .

قال أبو جعفر : واختلفت القرأة في قراءة ذلك . فقرأته جماعة من قرأة الكوفيين والمكيين : " أن ينكح المحصنات " بكسر " الصاد " مع سائر ما في القرآن من نظائر ذلك ، سوى قوله : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم [ سورة النساء : 24 ] ، فإنهم فتحوا " الصاد " منها ، ووجهوا تأويله إلى أنهن محصنات بأزواجهن ، وأن أزواجهن هم أحصنوهن . وأما سائر ما في القرآن ، فإنهم تأولوا في كسرهم " الصاد " منه ، إلى أن النساء هن أحصن أنفسهن بالعفة .

وقرأت عامة قرأة المدينة والعراق ذلك كله بالفتح ، بمعنى أن بعضهن أحصنهن أزواجهن ، وبعضهن أحصنهن حريتهن أو إسلامهن .

وقرأ بعض المتقدمين كل ذلك بالكسر ، بمعنى أنهن عففن وأحصن أنفسهن . وذكرت هذه القراءة - أعني بكسر الجميع - عن علقمة ، على الاختلاف في الرواية عنه .

[ ص: 188 ] قال أبو جعفر : والصواب عندنا من القول في ذلك - أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار ، مع اتفاق ذلك في المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب ، إلا في الحرف الأول [ من سورة النساء : 24 ] وهو قوله : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ، فإني لا أستجيز الكسر في صاده ، لاتفاق قراءة الأمصار على فتحها . ولو كانت القراءة بكسرها مستفيضة استفاضتها بفتحها ، كان صوابا القراءة بها كذلك ، لما ذكرنا من تصرف " الإحصان " في المعاني التي بيناها ، فيكون معنى ذلك لو كسر : والعفائف من النساء حرام عليكم ، إلا ما ملكت أيمانكم ، بمعنى أنهن أحصن أنفسهن بالعفة .

وأما " الفتيات " فإنهن جمع " فتاة " وهن الشواب من النساء . ثم يقال لكل مملوكة ذات سن أو شابة : " فتاة " والعبد : " فتى " .

ثم اختلف أهل العلم في نكاح الفتيات غير المؤمنات ، وهل عنى الله بقوله : من فتياتكم المؤمنات - تحريم ما عدا المؤمنات منهن ، أم ذلك من الله تأديب للمؤمنين ؟

فقال بعضهم : ذلك من الله تعالى ذكره دلالة على تحريم نكاح إماء المشركين .

ذكر من قال ذلك :

9069 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : أخبرنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : من فتياتكم المؤمنات ، قال : لا ينبغي أن يتزوج مملوكة نصرانية .

9070 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : من فتياتكم المؤمنات ، قال : لا ينبغي للحر المسلم أن ينكح المملوكة من أهل الكتاب .

[ ص: 189 ] 9071 - حدثنا علي بن سهل قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : سمعت أبا عمرو ، وسعيد بن عبد العزيز ، ومالك بن أنس ، وأبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم ، يقولون : لا يحل لحر مسلم ولا لعبد مسلم - الأمة النصرانية ؛ لأن الله يقول : من فتياتكم المؤمنات ، يعني : بالنكاح .

وقال آخرون : ذلك من الله على الإرشاد والندب ، لا على التحريم . وممن قال ذلك :

جماعة من أهل العراق .

ذكر من قال ذلك :

9072 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مغيرة قال : قال أبو ميسرة : أما أهل الكتاب بمنزلة الحرائر .

ومنهم أبو حنيفة وأصحابه ، واعتلوا لقولهم بقول الله : ( أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن ) [ سورة المائدة : 5 ] . [ ص: 190 ] قالوا : فقد أحل الله محصنات أهل الكتاب عاما ، فليس لأحد أن يخص منهن أمة ولا حرة . قالوا : ومعنى قوله : فتياتكم المؤمنات - غير المشركات من عبدة الأوثان .

قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب - قول من قال : هو دلالة على تحريم نكاح إماء أهل الكتاب ، فإنهن لا يحللن إلا بملك اليمين . وذلك أن الله - جل ثناؤه - أحل نكاح الإماء بشروط ، فما لم تجتمع الشروط التي سماهن فيهن ، فغير جائز لمسلم نكاحهن .

فإن قال قائل : فإن الآية التي في " المائدة " تدل على إباحتهن بالنكاح ؟

قيل : إن التي في " المائدة " قد أبان أن حكمها في خاص من محصناتهم ، وأنها معني بها حرائرهم دون إمائهم ، قوله : من فتياتكم المؤمنات . وليست إحدى الآيتين دافعا حكمها حكم الأخرى ، بل إحداهما مبينة حكم الأخرى ، وإنما تكون إحداهما دافعة حكم الأخرى ، لو لم يكن جائزا اجتماع حكميهما على صحة . فغير جائز أن يحكم لإحداهما بأنها دافعة حكم الأخرى ، إلا بحجة التسليم لها من خبر أو قياس . ولا خبر بذلك ولا قياس . والآية محتملة ما قلنا : والمحصنات من حرائر الذين أوتوا الكتاب من قبلكم دون إمائهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية