الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ( 13 ) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ( 14 ) )

يعني تعالى ذكره بقوله : ( ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ) ثم جعلنا الإنسان الذي جعلناه من سلالة من طين نطفة في قرار مكين ، وهو حيث استقرت فيه نطفة الرجل من رحم المرأة ، ووصفه بأنه مكين; لأنه مكن لذلك ، وهيأ له ليستقر فيه إلى بلوغ أمره الذي جعله له قرارا . وقوله : ( ثم خلقنا النطفة علقة ) يقول : ثم صيرنا النطفة التي جعلناها في قرار مكين علقة ، وهي القطعة من الدم ، ( فخلقنا العلقة مضغة ) يقول : فجعلنا ذلك الدم مضغة ، وهي القطعة من اللحم .

وقوله : ( فخلقنا المضغة عظاما ) يقول : فجعلنا تلك المضغة اللحم عظاما . وقد اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق سوى عاصم : ( فخلقنا المضغة عظاما ) على الجمع ، وكان عاصم وعبد الله يقرءان ذلك : ( عظما ) في الحرفين على التوحيد جميعا .

[ ص: 17 ] والقراءة التي نختار في ذلك الجمع ; لإجماع الحجة من القراء عليه .

وقوله : ( فكسونا العظام لحما ) يقول : فألبسنا العظام لحما . وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : ( ثم خلقنا المضغة عظما ) وعصبا ، فكسوناه لحما . وقوله : ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) يقول : ثم أنشأنا هذا الإنسان خلقا آخر . وهذه الهاء التي في : ( أنشأناه ) عائدة على الإنسان في قوله : ( ولقد خلقنا الإنسان ) قد يجوز أن تكون من ذكر العظم والنطفة والمضغة ، جعل ذلك كله كالشيء الواحد . فقيل : ثم أنشأنا ذلك خلقا آخر .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) فقال بعضهم : إنشاؤه إياه خلقا آخر : نفخه الروح فيه ; فيصير حينئذ إنسانا ، وكان قبل ذلك صورة .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله : ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال : نفخ فيه الروح .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا هشيم عن الحجاج بن أرطأة ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، بمثله .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال : الروح .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني ، عن عكرمة ، في قوله : ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال : نفخ فيه الروح .

حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سلمة ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي : ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال : نفخ فيه الروح .

قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، بمثله .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، في قوله : ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال : نفخ فيه الروح ، فهو الخلق الآخر الذي ذكر .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : ( ثم أنشأناه خلقا ) يعني الروح تنفخ فيه بعد الخلق .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : [ ص: 18 ] ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال : الروح الذي جعله فيه . وقال آخرون : إنشاؤه خلقا آخر ، تصريفه إياه في الأحوال بعد الولادة في الطفولة والكهولة ، والاغتذاء ، ونبات الشعر والسن ، ‌‌ ونحو ذلك من أحوال الأحياء في الدنيا .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنا أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ) يقول : خرج من بطن أمه بعدما خلق ، فكان من بدء خلقه الآخر أن استهل ، ثم كان من خلقه أن دل على ثدي أمه ، ثم كان من خلقه أن علم كيف يبسط رجليه إلى أن قعد ، إلى أن حبا ، إلى أن قام على رجليه ، إلى أن مشى ، إلى أن فطم ، فعلم كيف يشرب ويأكل من الطعام ، إلى أن بلغ الحلم ، إلى أن بلغ أن يتقلب في البلاد .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال : يقول بعضهم : هو نبات الشعر ، وبعضهم يقول : هو نفخ الروح .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك : ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال : يقال الخلق الآخر بعد خروجه من بطن أمه بسنه وشعره .

وقال آخرون : بل عنى بإنشائه خلقا آخر : سوى شبابه .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال : حين استوى شبابه .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد : حين استوى به الشباب .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عنى بذلك نفخ الروح فيه ، وذلك أنه بنفخ الروح فيه يتحول خلقا آخر إنسانا ، وكان قبل ذلك بالأحوال التي وصفه الله أنه كان بها ، من نطفة وعلقة ومضغة وعظم وبنفخ الروح فيه ، يتحول عن تلك المعاني كلها إلى معنى الإنسانية ، كما تحول أبوه آدم بنفخ الروح في الطينة التي خلق منها إنسانا ، وخلقا آخر غير الطين الذي خلق منه .

وقوله : ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال [ ص: 19 ] بعضهم : معناه فتبارك الله أحسن الصانعين .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد : ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) قال : يصنعون ويصنع الله ، والله خير الصانعين .

وقال آخرون : إنما قيل : ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) لأن عيسى ابن مريم كان يخلق ، فأخبر جل ثناؤه عن نفسه أنه يخلق أحسن مما كان يخلق .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، في قوله : ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) قال : عيسى ابن مريم يخلق .

وأولى القولين في ذلك بالصواب قول مجاهد ; لأن العرب تسمي كل صانع خالقا ، ومنه قول زهير :


ولأنت تفري ما خلقت وبع ض القوم يخلق ثم لا يفري



ويروى :


ولأنت تخلق ما فريت وبع     ض ‌‌القوم يخلق ثم لا يفري

التالي السابق


الخدمات العلمية