الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ثم أتبع سببا ( 92 ) حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا ( 93 ) قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ( 94 ) )

يقول تعالى ذكره : ثم سار طرقا ومنازل ، وسلك سبلا ( حتى إذا بلغ بين السدين ) .

واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة وبعض الكوفيين ( حتى إذا بلغ بين السدين ) بضم السين وكذلك جميع ما في القرآن من ذلك بضم السين . وكان بعض قراء المكيين يقرءونه بفتح ذلك كله . وكان أبو عمرو بن العلاء يفتح السين في هذه السورة ، ويضم السين في يس ، ويقول : السد بالفتح : هو الحاجز بينك وبين الشيء ; والسد بالضم : ما كان من غشاوة في العين . وأما الكوفيون فإن قراءة عامتهم في جميع القرآن بفتح السين غير قوله : [ ص: 102 ] ( حتى إذا بلغ بين السدين ) فإنهم ضموا السين في ذلك خاصة .

وروي عن عكرمة في ذلك ، ما حدثنا به أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا حجاج ، عن هارون ، عن أيوب ، عن عكرمة قال : ما كان من صنعة بني آدم فهو السد ، يعني بالفتح ، وما كان من صنع الله فهو السد .

وكان الكسائي يقول : هما لغتان بمعنى واحد .

والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار ، ولغتان متفقتا المعنى غير مختلفة ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، ولا معنى للفرق الذي ذكر عن أبي عمرو بن العلاء ، وعكرمة بين السد والسد ، لأنا لم نجد لذلك شاهدا يبين عن فرق ما بين ذلك على ما حكي عنهما . وما يبين ذلك أن جميع أهل التأويل الذي روي لنا عنهم في ذلك قول - لم يحك لنا عن أحد منهم تفصيل بين فتح ذلك وضمه ، ولو كانا مختلفي المعنى لنقل الفصل مع التأويل إن شاء الله . ولكن معنى ذلك كان عندهم غير مفترق ، فيفسر الحرف بغير تفصيل منهم بين ذلك . وأما ما ذكر عن عكرمة في ذلك ، فإن الذي نقل ذلك عن أيوب وهارون ، وفي نقله نظر ، ولا نعرف ذلك عن أيوب من رواية ثقات أصحابه . والسد والسد جميعا : الحاجز بين الشيئين ، وهما هاهنا فيما ذكر جبلان سد ما بينهما ، فردم ذو القرنين حاجزا بين يأجوج ومأجوج ومن وراءهم ، ليقطع ماد غوائلهم وعبثهم عنهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ( حتى إذا بلغ بين السدين ) قال : الجبلين الردم الذي بين يأجوج ومأجوج ، أمتين من وراء ردم ذي القرنين : قال : الجبلان : أرمينية وأذربيجان .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( حتى إذا بلغ بين السدين ) وهما جبلان .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله ( بين السدين ) يعني بين جبلين . [ ص: 103 ]

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله ( بين السدين ) قال : هما جبلان .

وقوله ( وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا ) يقول عز ذكره : وجد من دون السدين قوما لا يكادون يفقهون قول قائل سوى كلامهم .

وقد اختلفت القراء في قراءة قوله ( يفقهون ) فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة ( يفقهون قولا ) بفتح القاف والياء ، من فقه الرجل يفقه فقها : وقرأ ذلك عامة قراء أهل الكوفة ( يفقهون قولا ) بضم الياء وكسر القاف : من أفقهت فلانا كذا أفقهه إفقاها : إذا فهمته ذلك .

والصواب عندي من القول في ذلك ، أنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار ، غير دافعة إحداهما الأخرى ، وذلك أن القوم الذين أخبر الله عنهم هذا الخبر جائز أن يكونوا لا يكادون يفقهون قولا لغيرهم عنهم ، فيكون صوابا القراءة بذلك . وجائز أن يكونوا مع كونهم كذلك كانوا لا يكادون أن يفقهوا غيرهم لعلل : إما بألسنتهم ، وإما بمنطقهم ، فتكون القراءة بذلك أيضا صوابا .

وقوله ( إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ) اختلفت القراء في قراءة قوله ( إن يأجوج ومأجوج ) فقرأت القراء من أهل الحجاز والعراق وغيرهم "إن ياجوج وماجوج " بغير همز على فاعول من يججت ومججت ، وجعلوا الألفين فيهما زائدتين ، غير عاصم بن أبي النجود والأعرج ، فإنه ذكر أنهما قرآ ذلك بالهمز فيهما جميعا ، وجعلا الهمز فيهما من أصل الكلام ، وكأنهما جعلا يأجوج : يفعول من أججت ، ومأجوج : مفعول .

والقراءة التي هي القراءة الصحيحة عندنا ، "إن ياجوج وماجوج" بألف بغير همز لإجماع الحجة من القراء عليه ، وأنه الكلام المعروف على ألسن العرب ; ومنه قول رؤبة بن العجاج .


لو أن ياجوج وماجوج معا وعاد عادوا واستجاشوا تبعا



وهم أمتان من وراء السد . [ ص: 104 ]

وقوله : ( مفسدون في الأرض ) اختلف أهل التأويل في معنى الإفساد الذي وصف الله به هاتين الأمتين ، فقال بعضهم : كانوا يأكلون الناس .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا أحمد بن الوليد الرملي ، قال : ثنا إبراهيم بن أيوب الخوزاني ، قال : ثنا الوليد بن مسلم ، قال : سمعت سعيد بن عبد العزيز يقول في قوله ( إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ) قال : كانوا يأكلون الناس .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : إن يأجوج ومأجوج سيفسدون في الأرض ، لا أنهم كانوا يومئذ يفسدون .

ذكر من قال ذلك ، وذكر صفة اتباع ذي القرنين الأسباب التي ذكرها الله في هذه الآية ، وذكر سبب بنائه للردم : حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني بعض من يسوق أحاديث الأعاجم من أهل الكتاب ، ممن قد أسلم ، مما توارثوا من علم ذي القرنين ، أن ذا القرنين كان رجلا من أهل مصر اسمه مرزبا بن مردبة اليوناني ، من ولد يونان بن يافث بن نوح .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان الكلاعي ، وكان خالد رجلا قد أدرك الناس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذى القرنين فقال ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب " قال خالد : وسمع عمر بن الخطاب رجلا يقول : [ ص: 105 ] يا ذا القرنين ، فقال : اللهم غفرا ، أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء ، حتى تسموا بأسماء الملائكة؟ فإن كان رسول الله قال ذلك ، فالحق ما قال ، والباطل ما خالفه .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، قال : فحدثني من لا أتهم عن وهب بن منبه اليماني ، وكان له علم بالأحاديث الأول ، أنه كان يقول : ذو القرنين رجل من الروم ، ابن عجوز من عجائزهم ، ليس لها ولد غيره ، وكان اسمه الإسكندر . وإنما سمي ذا القرنين أن صفحتي رأسه كانتا من نحاس ; فلما بلغ وكان عبدا صالحا ، قال الله عز وجل له : يا ذا القرنين إني باعثك إلى أمم الأرض ، وهي أمم مختلفة ألسنتهم ، وهم جميع أهل الأرض ، ومنهم أمتان بينهما طول الأرض كله ; ومنهم أمتان بينهما عرض الأرض كله ، وأمة في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج . فأما الأمتان اللتان بينهما طول الأرض : فأمة عند مغرب الشمس ، يقال لها : ناسك . وأما الأخرى : فعند مطلعها يقال لها : منسك . وأما اللتان بينهما عرض الأرض ، فأمة في قطر الأرض الأيمن ، يقال لها : هاويل . وأما الأخرى التي في قطر الأرض الأيسر ، فأمة يقال لها : تاويل ; فلما قال الله له ذلك ، قال له ذو القرنين : إلهي إنك قد ندبتني لأمر عظيم لا يقدر قدره إلا أنت ، فأخبرني عن هذه الأمم التي بعثتني إليها ، بأي قوة أكابدهم ، وبأي جمع أكاثرهم ، وبأي حيلة أكايدهم ، وبأي صبر أقاسيهم ، وبأي لسان أناطقهم ، وكيف لي بأن أفقه لغاتهم ، وبأى سمع أعي قولهم ، وبأي بصر أنفذهم ، وبأي حجة أخاصمهم ، وبأي قلب أعقل عنهم ، وبأي حكمة أدبر أمرهم ، وبأي قسط أعدل بينهم ، وبأي حلم أصابرهم ، وبأي معرفة أفصل بينهم ، وبأي علم أتقن أمورهم ، وبأي يد أسطو عليهم ، وبأي رجل أطؤهم ، وبأي طاقة أخصمهم ، وبأي جند أقاتلهم ، وبأي رفق أستألفهم ، فإنه ليس عندي يا إلهي شيء مما ذكرت يقوم لهم ، ولا يقوى عليهم ولا يطيقهم . وأنت الرب الرحيم . الذي لا يكلف نفسا إلا وسعها ، ولا يحملها إلا طاقتها ، ولا يعنتها ولا يفدحها ، بل أنت ترأفها وترحمها .

قال الله عز [ ص: 106 ] وجل : إني سأطوقك ما حملتك ، أشرح لك صدرك ، فيسع كل شيء وأشرح لك فهمك فتفقه كل شيء ، وأبسط لك لسانك ، فتنطق بكل شيء ، وأفتح لك سمعك فتعي كل شيء ، وأمد لك بصرك ، فتنفذ كل شيء ، وأدبر أمرك فتتقن كل شيء ، وأحصي لك فلا يفوتك شيء ، وأحفظ عليك فلا يعزب عنك شيء ، وأشد لك ظهرك ، فلا يهدك شيء ، وأشد لك ركنك فلا يغلبك شيء ، وأشد لك قلبك فلا يروعك شيء ، وأسخر لك النور والظلمة ، فأجعلهما جندا من جنودك ، يهديك النور أمامك ، وتحوطك الظلمة من ورائك ، وأشد لك عقلك فلا يهولك شيء ، وأبسط لك من بين يديك ، فتسطو فوق كل شيء ، وأشد لك وطأتك ، فتهد كل شيء ، وألبسك الهيبة فلا يرومك شيء .

ولما قيل له ذلك ، انطلق يؤم الأمة التي عند مغرب الشمس ، فلما بلغهم ، وجد جمعا وعددا لا يحصيه إلا الله ، وقوة وبأسا لا يطيقه إلا الله ، وألسنة مختلفة وأهواء متشتتة ، وقلوبا متفرقة ، فلما رأى ذلك كاثرهم بالظلمة ، فضرب حولهم ثلاثة عساكر منها ، فأحاطتهم من كل مكان ، وحاشتهم حتى جمعتهم في مكان واحد ، ثم أخذ عليهم بالنور ، فدعاهم إلى الله وإلى عبادته ، فمنهم من آمن له ، ومنهم من صد ، فعمد إلى الذين تولوا عنه . فأدخل عليهم الظلمة . فدخلت في أفواههم وأنوفهم وآذانهم وأجوافهم ، ودخلت في بيوتهم ودورهم ، وغشيتهم من فوقهم ، ومن تحتهم ومن كل جانب منهم ، فماجوا فيها وتحيروا ، فلما أشفقوا أن يهلكوا فيها عجوا إليه بصوت واحد ، فكشفها عنهم وأخذهم عنوة ، فدخلوا في دعوته ، فجند من أهل المغرب أمما عظيمة ، فجعلهم جندا واحدا ، ثم انطلق بهم يقودهم ، والظلمة تسوقهم من خلفهم وتحرسهم من حولهم ، والنور أمامهم يقودهم ويدلهم ، وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى ، وهو يريد الأمة التي في قطر الأرض الأيمن التي يقال لها هاويل . وسخر الله له يده وقلبه ورأيه وعقله ونظره وائتماره ، فلا يخطئ إذا ائتمر ، وإذا عمل عملا أتقنه . فانطلق يقود تلك الأمم وهي تتبعه ، فإذا انتهى إلى بحر أو مخاضة بنى سفنا من ألواح صغار أمثال النعال ، فنظمها في ساعة ، ثم جعل فيها جميع من معه من تلك الأمم وتلك الجنود ، فإذا قطع الأنهار والبحار فتقها ، ثم دفع إلى كل إنسان لوحا فلا يكرثه حمله ، [ ص: 107 ] فلم يزل كذلك دأبه حتى انتهى إلى هاويل ، فعمل فيها كعمله في ناسك . فلما فرغ منها مضى على وجهه في ناحية الأرض اليمنى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس ، فعمل فيها وجند منها جنودا ، كفعله في الأمتين اللتين قبلها ، ثم كر مقبلا في ناحية الأرض اليسرى ، وهو يريد تاويل وهي الأمة التي بحيال هاويل ، وهما متقابلتان بينهما عرض الأرض كله ; فلما بلغها عمل فيها ، وجند منها كفعله فيما قبلها ، فلما فرغ منها عطف منها إلى الأمم التي وسط الأرض من الجن وسائر الناس ، ويأجوج ومأجوج ، فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع الترك نحو المشرق ، قالت له أمة من الإنس صالحة : يا ذا القرنين ، إن بين هذين الجبلين خلقا من خلق الله ، وكثير منهم مشابه للإنس ، وهم أشباه البهائم ، يأكلون العشب ، ويفترسون الدواب والوحوش كما تفترسها السباع ، ويأكلون خشاش الأرض كلها من الحيات والعقارب ، وكل ذي روح مما خلق الله في الأرض ، وليس لله خلق ينمو نماءهم في العام الواحد ، ولا يزداد كزيادتهم ، ولا يكثر ككثرتهم ، فإن كانت لهم مدة على ما نرى من نمائهم وزيادتهم ، فلا شك أنهم سيملئون الأرض ، ويجلون أهلها عنها ويظهرون عليها فيفسدون فيها ، وليست تمر بنا سنة منذ جاورناهم إلا ونحن نتوقعهم ، وننتظر أن يطلع علينا أوائلهم من بين هذين الجبلين ( فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما ) أعدوا إلي الصخور والحديد والنحاس حتى أرتاد بلادهم ، وأعلم علمهم ، وأقيس ما بين جبليهم .

ثم انطلق يؤمهم حتى دفع إليهم وتوسط بلادهم ، فوجدهم على مقدار واحد ، ذكرهم وأنثاهم ، مبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا ، لهم مخالب في موضع الأظفار من أيدينا ، وأضراس وأنياب كأضراس السباع وأنيابها . وأحناك كأحناك الإبل ، قوة تسمع لها حركة إذا أكلوا كحركة الجرة من الإبل ، أو كقضم الفحل المسن ، أو الفرس القوي ، وهم هلب ، عليهم من الشعر في أجسادهم ما يواريهم ، وما يتقون به الحر والبرد [ ص: 108 ] إذا أصابهم ، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان : إحداهما وبرة ظهرها وبطنها ، والأخرى زغبة ظهرها وبطنها ، تسعانه إذا لبسهما ، يلتحف إحداهما ، ويفترش الأخرى ، ويصيف في إحداهما ، ويشتي في الأخرى ، وليس منهم ذكر ولا أنثى إلا وقد عرف أجله الذى يموت فيه ، ومنقطع عمره ، وذلك أنه لا يموت ميت من ذكورهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ، ولا تموت الأنثى حتى يخرج من رحمها ألف ولد ، فإذا كان ذلك أيقن بالموت ، وهم يرزقون التنين أيام الربيع ، ويستمطرونه إذا تحينوه كما نستمطر الغيث لحينه ، فيقذفون منه كل سنة بواحد ، فيأكلونه عامهم كله إلى مثله من العام القابل ، فيغنيهم على كثرتهم ونمائهم ، فإذا أمطروا وأخصبوا وعاشوا وسمنوا ، ورؤي أثره عليهم ، فدرت عليهم الإناث ، وشبقت منهم الرجال الذكور ، وإذا أخطأهم هزلوا وأجدبوا ، وجفرت الذكور ، وحالت الإناث ، وتبين أثر ذلك عليهم ، وهم يتداعون تداعي الحمام ، ويعوون عواء الكلاب ، ويتسافدون حيث التقوا تسافد البهائم .

فلما عاين ذلك منهم ذو القرنين انصرف إلى ما بين الصدفين ، فقاس ما بينهما وهو في منقطع أرض الترك مما يلي مشرق الشمس ، فوجد بعد ما بينهما مائة فرسخ ; فلما أنشأ في عمله ، حفر له أساسا حتى بلغ الماء ، ثم جعل عرضه خمسين فرسخا ، وجعل حشوه الصخور ، وطينه النحاس ، يذاب ثم يصب عليه ، فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض ، ثم علاه وشرفه بزبر الحديد والنحاس المذاب ، وجعل خلاله عرقا من نحاس أصفر ، فصار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد ، فلما فرغ منه وأحكمه ، انطلق عامدا إلى جماعة الإنس والجن ، فبينا هو يسير ، دفع إلى أمة صالحة يهدون بالحق وبه يعدلون ، فوجد أمة مقسطة مقتصدة ، يقسمون بالسوية ، ويحكمون بالعدل ، ويتآسون ويتراحمون ، حالهم واحدة ، وكلمتهم واحدة ، وأخلاقهم مشتبهة ، وطريقتهم مستقيمة ، وقلوبهم متألفة ، وسيرتهم حسنة ، وقبورهم بأبواب بيوتهم ، وليس على بيوتهم أبواب ، وليس عليهم أمراء ، وليس بينهم قضاة ، وليس بينهم أغنياء ، ولا ملوك ، ولا أشراف ، ولا يتفاوتون ، ولا يتفاضلون ، ولا يختلفون ، ولا يتنازعون ، ولا يستبون ، ولا يقتتلون ، ولا يقحطون ، ولا يحردون ، ولا تصيبهم الآفات التي تصيب الناس ، وهم أطول الناس أعمارا ، [ ص: 109 ] وليس فيهم مسكين ، ولا فقير ، ولا فظ ، ولا غليظ ، فلما رأى ذلك ذو القرنين من أمرهم ، عجب منه! وقال : أخبروني ، أيها القوم خبركم ، فإني قد أحصيت الأرض كلها برها وبحرها ، وشرقها وغربها ، ونورها وظلمتها ، فلم أجد مثلكم ، فأخبروني خبركم ; قالوا : نعم ، فسلنا عما تريد ، قال : أخبروني ، ما بال قبور موتاكم على أبواب بيوتكم؟ قالوا : عمدا فعلنا ذلك لئلا ننسى الموت ، ولا يخرج ذكره من قلوبنا ، قال : فما بال بيوتكم ليس عليها أبواب؟ قالوا : ليس فينا متهم ، وليس منا إلا أمين مؤتمن ; قال : فما لكم ليس عليكم أمراء؟ قالوا : لا نتظالم ، قال : فما بالكم ليس فيكم حكام؟ قالوا : لا نختصم ، قال : فما بالكم ليس فيكم أغنياء؟ قالوا : لا نتكاثر ; قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك؟ قالوا : لا نتكابر ، قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟ قالوا : من قبل ألفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا ; قال : فما بالكم لا تستبون ولا تقتتلون؟ قالوا : من قبل أنا غلبنا طبائعنا بالعزم ، وسسنا أنفسنا بالأحلام ، قال : فما بالكم كلمتكم واحدة ، وطريقتكم مستقيمة مستوية؟ قالوا : من قبل أنا لا نتكاذب ، ولا نتخادع ، ولا يغتاب بعضنا بعضا ; قال : فأخبروني من أين تشابهت قلوبكم ، واعتدلت سيرتكم؟ قالوا : صحت صدورنا ، فنزع بذلك الغل والحسد من قلوبنا ; قال : فما بالكم ليس فيكم مسكين ولا فقير؟ قالوا : من قبل أنا نقتسم بالسوية ; قال : فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ؟ قالوا : من قبل الذل والتواضع ; قال : فما جعلكم أطول الناس أعمارا؟ قالوا : من قبل أنا نتعاطى الحق ونحكم بالعدل ; قال : فما بالكم لا تقحطون؟ قالوا : لا نغفل عن الاستغفار ، قال : فما بالكم لا تحردون؟ قالوا : من قبل أنا وطأنا أنفسنا للبلاء منذ كنا ، وأحببناه وحرصنا عليه ، فعرينا منه ، قال : فما بالكم لا تصيبكم الآفات كما تصيب الناس؟ قالوا : لا نتوكل على غير الله ، ولا نعمل بالأنواء والنجوم ، قال : حدثوني أهكذا وجدتم آباءكم يفعلون؟ قالوا : نعم وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم ، ويواسون فقراءهم ، ويعفون عمن ظلمهم ، ويحسنون إلى من أساء إليهم ، ويحلمون عمن جهل عليهم ، ويستغفرون لمن سبهم ، ويصلون أرحامهم ، ويؤدون آماناتهم ، ويحفظون وقتهم لصلاتهم ، ويوفون بعهودهم ، ويصدقون في مواعيدهم ، ولا يرغبون عن أكفائهم ، ولا يستنكفون عن [ ص: 110 ] أقاربهم ، فأصلح الله لهم بذلك أمرهم ، وحفظهم ما كانوا أحياء ، وكان حقا على الله أن يحفظهم في تركتهم .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة ، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : إن يأجوج ومأجوج يحفرون السد كل يوم ، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فتحفرونه غدا ، فيعيده الله وهو كهيئته يوم تركوه ، حتى إذا جاء الوقت قال : إن شاء الله ، فيحفرونه ويخرجون على الناس ، فينشفون المياه ، ويتحصن الناس في حصونهم ، فيرمون بسهامهم إلى السماء ، فيرجع فيها كهيئة الدماء ، فيقولون : قهرنا أهل الأرض ، وعلونا أهل السماء ، فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم فتقتلهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر من لحومهم " .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ثم الظفري ، عن محمود بن لبيد أخي بني عبد الأشهل ، وعن أبي سعيد الخدري ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس كما قال الله عز وجل ( وهم من كل حدب ينسلون ) فيغشون الأرض ، وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم ، ويضمون إليهم مواشيهم ، فيشربون مياه الأرض ، حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه ، حتى يتركوه يابسا ، حتى إن من بعدهم ليمر بذلك النهر ، فيقول : لقد كان هاهنا ماء مرة ، حتى لم يبق من الناس أحد إلا انحاز إلى حصن أو مدينة ، قال قائلهم : هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم ، بقي أهل السماء ، قال : ثم يهز أحدهم حربته ، ثم يرمي بها إلى السماء ، فترجع إليه مخضبة دما للبلاء والفتنة ، فبينا هم على ذلك ، بعث الله عليهم دودا في أعناقهم كالنغف ، فتخرج في أعناقهم فيصبحون موتى ، لا يسمع لهم حس ، فيقول المسلمون : ألا رجل يشري لنا نفسه ، فينظر ما فعل العدو ، قال : فيتجرد رجل منهم لذلك محتسبا لنفسه ، قد وطنها على أنه مقتول ، فينزل [ ص: 111 ] فيجدهم موتى ، بعضهم على بعض ، فينادي : يا معشر المسلمين ، ألا أبشروا ، فإن الله قد كفاكم عدوكم ، فيخرجون من مدائنهم وحصونهم ، ويسرحون مواشيهم ، فما يكون لها رعي إلا لحومهم ، فتشكر عنهم أحسن ما شكرت عن شيء من النبات أصابت قط " .

حدثني بحر بن نصر ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني معاوية ، عن أبي الزاهرية وشريح بن عبيد : أن يأجوج ومأجوج ثلاثة أصناف : صنف طولهم كطول الأرز ، وصنف طوله وعرضه سواء ، وصنف يفترش أحدهم أذنه ويلتحف بالأخرى فتغطي سائر جسده .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنى أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ) قال : كان أبو سعيد الخدري : يقول : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يموت رجل منهم حتى يولد لصلبه ألف رجل " . قال : وكان عبد الله بن مسعود يعجب من كثرتهم ويقول : لا يموت من يأجوج ومأجوج أحد حتى يولد له ألف رجل من صلبه .

فالخبر الذي ذكرناه عن وهب بن منبه في قصة يأجوج ومأجوج ، يدل على أن الذين قالوا لذي القرنين ( إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ) إنما أعلموه خوفهم ما يحدث منهم من الإفساد في الأرض ، لا أنهم شكوا منهم فسادا كان منهم فيهم أو في غيرهم . والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم سيكون منهم الإفساد في الأرض ، ولا دلالة فيها أنهم قد كان منهم قبل إحداث ذي القرنين السد الذي أحدثه بينهم وبين من دونهم من الناس في الناس غيرهم إفساد .

فإذا كان ذلك كذلك بالذي بينا ، فالصحيح من تأويل قوله ( إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ) إن يأجوج ومأجوج سيفسدون في الأرض .

وقوله ( فهل نجعل لك خرجا ) اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة : ( فهل نجعل لك خرجا ) كأنهم نحوا به نحو المصدر من خرج للرأس ، وذلك جعله ، وقرأته عامة قراء الكوفيين [ ص: 112 ] ( فهل نجعل لك خراجا" بالألف ، وكأنهم نحوا به نحو الاسم . وعنوا به أجرة على بنائك لنا سدا بيننا وبين هؤلاء القوم .

وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأه " فهل نجعل لك خراجا" بالألف ، لأن القوم فيما ذكر عنهم ، إنما عرضوا على ذي القرنين أن يعطوه من أموالهم ما يستعين به على بناء السد ، وقد بين ذلك بقوله : ( فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما ) ولم يعرضوا عليه جزية رءوسهم . والخراج عند العرب : هو الغلة .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس "فهل نجعل لك خراجا " قال : أجرا ( على أن تجعل بيننا وبينهم سدا )

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله " فهل نجعل لك خراجا " قال : أجرا .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله " فهل نجعل لك خراجا" قال : أجرا .

وقوله : ( على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ) يقول : قالوا له : هل نجعل لك خراجا حتى أن تجعل بيننا وبين يأجوج ومأجوج حاجزا يحجز بيننا وبينهم ، ويمنعهم من الخروج إلينا . وهو السد .

التالي السابق


الخدمات العلمية