الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى الآية (43) :

اختلف العلماء في المراد بالسكر بالآية.

فقال قائلون: هو السكران الذي لا يعلم حقيقته، وهذا معتل من وجه: فإن الذي لا يعقل كيف ينهى.

فقيل في ذلك: أراد به النهي عن التعرض للسكر، إذا كان عليهم فرض الصلاة، والنهي على أن عليهم أن يعيدوها، وهذا بعيد من وجه، وهو أن السكر إذا نافى ابتداء الخطاب، ينافي دوامه، وهذا حسن في إبطال هذا القول، إلا أن يقال:

إن ذلك نهي عن السكر، وإزالة العقل بشرب القدر المسكر، حالة وجوب الصلاة، وهذا رفع ما دل اللفظ عليه بالكلية، كأنه تعالى قال: [ ص: 458 ] "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى"، أي في حالة سكركم، فلا وجه للتأويل.

الوجه الآخر: قالوا المراد به السكران الذي لم ينتبذ نقصان عقله إلى حد يزول التكليف معه، بل هو فاهم للخطاب، وهذا بعيد، فإنه إن كان كذلك، فلا يكون منهيا عن فعل الصلاة، بل الإجماع منعقد على أنه مأمور بفعل الصلاة والحالة هذه.

ومن أجل ذلك قال الحسن، وقتادة، في هذه الآية: فإنها منسوخة الحكم.

وعلى الجملة، اضطراب هذه المحامل ينشأ منه قول الشافعي رضي الله عنه: وهو أن المراد من الصلاة موضع الصلاة، فتقديره: لا تقربوا المساجد التي هي مواضع الصلاة وأنتم سكارى، فإنه يتوقع منكم الفحش في المنطق، وتلويث المسجد، ولذلك قال: حتى تعلموا ما تقولون ، يعني أن السكران ربما نزق ، فتكلم بما لا يجوز له، كما قال علي:

إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى.

فنهاهم عن دخول المسجد والصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة.

وهذا تأويل حسن تشهد له الأصول والمعقول، ومن أجله عطف عليه قوله تعالى: ولا جنبا إلا عابري سبيل ، وذلك يقتضي جواز العبور للجنب في المساجد.

وأبو حنيفة يخالف ذلك ويقول:

[ ص: 459 ] بل المراد به الصلاة، ولذلك قال: حتى تعلموا ما تقولون والذي ذكرتم يعلم ذلك.

فيقال: هذا في ضرب المثل، كالذي يقول للغضبان: اتئد وتثبت حتى يرجع إليك نفسك وتعلم ما تقول، إلا أن المراد به عدم العلم حقيقة.

وأبو حنيفة يخالف ذلك ويقول: بل المراد به أيضا، إذا حمل ذلك على الصلاة حمل قوله: إلا عابري سبيل، على الجنب المسافر إذا لم يجد الماء، فإنه يتيمم ويصلي، فيتعين إضمار عدم الماء فيه، وإذا عدم الماء في الحضر، كان كذلك.

وأحسبه يقول: بنى على الغالب، في أن الماء لا يعدم في الحضر، فيقال: فالذي يتيمم ليس جنبا عندكم حتى يصلي صلوات التيمم، وأحسبه يمنع هذا أيضا ويكابر، فيقال له:

إن تيمم الجنب قد ذكره الله تعالى بعد هذا، بل فصل فقال:

وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا .

وكيف يذكر المسافر والسفر، ثم يذكر بعده من غير فصل؟ وهذا واضح في بطلان قوله.

وأما إذا أراد التيمم، ذكر الوجوه التي بها يجوز التيمم، فذكر المرض وذكر السفر، وذكر المجيء من الغائط، وعدم الماء مطلقا في أي موضع كان، فكيف عنى بعابر السبيل المسافر ها هنا، ولم يذكر [ ص: 460 ] عدم الماء، وهو الشرط لا السفر؟ وهذا لا جواب عنه فاعلمه، ولأن الله تعالى قال: حتى تعلموا ما تقولون ، فأحال المنع على عدم العلم بالقول، والسكران الطافح في سكره، المغشي عليه، تمتنع الصلاة عليه، لأنه لا يعلم ما يقول، بل لأنه محدث غير طاهر، ولا ساجد ولا راكع ولا ناو، فدل أن الامتناع إنما نشأ من القول فقط، وذلك على الوجه الذي قلناه في تنزيه المسجد عن هجر القول والخنا في المنطق، ومن أجل ذلك بطل تأويل من حمل السكر على النوم، لأن النائم لا يصلي، ولا يتصور منه الصلاة مع النوم، ولا طهارة مع النوم.

وبالجملة، كل ما اعترضنا به على الفصل الأول، فهو متوجه ها هنا فاعلم.

فإن قيل: سبب نزول هذه الآية، ما روي عن علي رضي الله عنه أنه دعا رجل من الأنصار قوما فشربوا من الخمر، فتقدم عبد الرحمن ابن عوف لصلاة المغرب فقرأ: "قل يا أيها الكافرون"، فالتبس عليه فأنزل الله تعالى:

لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى .

والجواب أن المراد به ما قلناه، فإنه إذن التبس عليه، وتلا بداخل المسجد، حتى تكلم بما لا يجوز، وإلا فالصلاة واجبة في تلك الحالة قطعا، والذين منعوا اجتياز الجنب في المسجد، عرفوا أن كثيرا من السلف حملوا الآية على ما قلناه، وإن كان منهم من خالف.

قال: ومذاهب السلف مستقصاة في كتب الأئمة، وليس ذكرها متعلقا بغرضنا، إلا أن منهم من تعلق بما روي عن جسرة بنت دجاجة أنها قالت: "سمعت عائشة رضي الله عنها تقول:

[ ص: 461 ] جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد، ثم دخل ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل لهم رخصة، فخرج إليهم بعد فقال: وجهوا هذه البيوت فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب".

قال: فأمرهم بتوجيه البيوت الشارعة في المسجد، صيانة للمسجد عن اجتياز الجنب، لأنه لو أراد القعود، لم يكن لقوله: "وجهوا هذه البيوت فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" معنى، لأنه القعود منهم بعد دخول المسجد، لا تعلق له بكون البيوت شارعة إليه، فدل أنه إنما أمر بتوجيه البيوت، لئلا يضطروا عند الجنابة إلى الاجتياز في المسجد، إذا لم يكن لبيوتهم أبواب غير ما هي شارعة إلى المسجد.

والاعتراض على هذا، أن الخبر لا يجوز أن يثبت، فإن الغالب من أحوالهم المنقولة، أنهم كانوا يغتسلون في بيوتهم، ولأن المنع من المرور لو كان المقصود، ولم يتأت لهم الاغتسال في بيوتهم، لقال لهم: اتخذوا أبوابا تجتازون منها للاغتسال.

ويدل عليه أنه لو كان باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأفضى إلى المسجد وأبواب حجر نسائه، وباب أبي بكر، وباب علي، وقال:

"سدوا هذه الخوخات غير خوخة أبي بكر وعلي".

وعلى أن الذي ذكره هذا القائل، تسليم منه لجواز ذلك من قبل، ويدعى نسخا لا يصح وقوع النسخ به.

التالي السابق


الخدمات العلمية