الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب مواقيت الصلاة قال الله تعالى : إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : " إن للصلاة وقتا كوقت الحج " . وعن ابن عباس ومجاهد وعطية : " مفروضا " . وروي عن ابن مسعود أيضا أنه قال : " موقوتا منجما ، كلما مضى نجم جاء نجم آخر " . وعن [ ص: 248 ] زيد بن أسلم مثل ذلك .

قال أبو بكر : قد انتظم ذلك إيجاب الفرض ومواقيته ؛ لأن قوله تعالى : كتابا معناه فرضا ، وقوله : موقوتا معناه أنه مفروض في أوقات معلومة معينة ، فأجمل ذكر الأوقات في هذه الآية وبينها في مواضع أخر من الكتاب من غير ذكر تحديد أوائلها وأواخرها ، وبين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم تحديدها ومقاديرها .

فمما ذكر الله في الكتاب من أوقات الصلاة قوله : أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر ذكر مجاهد عن ابن عباس : لدلوك الشمس قال : " إذا زالت الشمس عن بطن السماء لصلاة الظهر " إلى غسق الليل قال : " بدو الليل لصلاة المغرب " . وكذلك روي عن ابن عمر في دلوكها أنه زوالها .

وروى أبو وائل عن عبد الله بن مسعود قال : " إن دلوكها غروبها " وعن أبي عبد الرحمن السلمي نحوه . قال أبو بكر : لما تأولوا الآية على المعنيين من الزوال ومن الغروب دل على احتمالها لهما لولا ذلك لما تأوله السلف عليهما ؛ والدلوك في اللغة : الميل ، فدلوك الشمس ميلها ، وقد تميل تارة للزوال وتارة للغروب ؛ وقد علمنا أن دلوكها هو أول الوقت وغسق الليل نهايته وغايته ؛ لأنه قال : إلى غسق الليل و " إلى " غاية ، ومعلوم أن وقت الظهر لا يتصل بغسق الليل ؛ لأن بينهما وقت العصر ، فالأظهر أن يكون المراد بالدلوك ههنا هو الغروب وغسق الليل ههنا هو اجتماع الظلمة ؛ لأن وقت المغرب يتصل بغسق الليل ويكون نهاية له ؛ واحتمال الزوال مع ذلك قائم ؛ لأن ما بين زوال الشمس إلى غسق الليل وقت هذه الصلوات وهي الظهر والعصر والمغرب ، فيفيد ذلك أن من وقت الزوال إلى غسق الليل لا ينفك من أن يكون وقتا لصلاة ، فيدخل فيه الظهر والعصر والمغرب .

ويحتمل أن يراد به العتمة أيضا ؛ لأن الغاية قد تدخل في الحكم كقوله تعالى : وأيديكم إلى المرافق والمرافق داخلة فيها ، وقوله : حتى تغتسلوا والغسل داخل في شرط الإباحة ؛ فإن حمل المعنى على الزوال انتظم أربع صلوات .

ثم قال : وقرآن الفجر وهو صلاة الفجر ، فتنتظم الآية الصلوات الخمس ؛ وهذا معنى قد دل عليه إفراده صلاة الفجر بالذكر ؛ إذ كان بينها وبين صلاة الظهر وقت ليس من أوقات الصلوات المفروضة ، فأبان تعالى أن من وقت الزوال إلى وقت العتمة وقتا لصلوات مفعولة فيه ، وأفرد الفجر بالذكر ؛ إذ كان بينها وبين الظهر فاصلة وقت ليس من أوقات الصلوات .

فهذه الآية يحتمل أن يريد بها بيان وقت صلاتين إذا كان المراد بالدلوك الغروب وهو وقت المغرب والفجر بقوله تعالى : وقرآن الفجر [ ص: 249 ] ويحتمل أن يريد بها الصلوات الخمس على الوجه الذي بينا ، ويحتمل أن يريد بها الظهر والمغرب والفجر وذلك لأنه جائز أن يريد بقوله : إلى غسق الليل أقم الصلاة مع غسق الليل ، كقوله تعالى : ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ومعناه : مع أموالكم ؛ ويكون غسق الليل حينئذ وقتا لصلاة المغرب .

ويجوز أن يريد به وقت صلاة العتمة ؛ وقد روى ليث عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان يقول : " دلوك الشمس حين تزول إلى غسق الليل حين تجب الشمس " ؛ قال : وقال ابن مسعود : " دلوك الشمس : حين تجب ، إلى غسق : الليل حين يغيب الشفق " . وعن عبد الله أيضا أنه لما غربت الشمس قال : " هذا غسق الليل " ، وعن أبي هريرة : " غسق الليل غيبوبة الشمس " ، وقال الحسن : " غسق الليل صلاة المغرب والعشاء " ، وقال إبراهيم النخعي : " غسق الليل العشاء الآخرة " . وعن أبي جعفر : " غسق الليل انتصافه " .

وروى مالك عن داود بن الحصين قال : أخبرني مخبر عن ابن عباس أنه كان يقول : " غسق الليل اجتماع الليل وظلمته " . فهذه الآية فيها احتمال للوجوه التي ذكرنا من مواقيت الصلوات .

وقال تعالى : وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل روى عمرو عن الحسن في قوله تعالى : طرفي النهار قال : " صلاة الفجر ، والأخرى الظهر والعصر " وزلفا من الليل قال : " المغرب والعشاء " . فعلى هذا القول قد انتظمت الآية الصلوات الخمس . وروى يونس عن الحسن : وأقم الصلاة طرفي النهار قال : " الفجر والعصر " .

وروى ليث عن الحكم عن أبي عياض قال : قال ابن عباس : " جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة : فسبحان الله حين تمسون المغرب والعشاء وحين تصبحون الفجر وعشيا العصر وحين تظهرون الظهر " . وعن الحسن مثله .

وروى أبو رزين عن ابن عباس : وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب قال : " الصلاة المكتوبة " وقال : وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى وهذه الآية منتظمة لأوقات الصلوات أيضا .

فهذه الآيات كلها فيها ذكر أوقات الصلوات من غير تحديد لها ، إلا فيما ذكر من الدلوك فإنه جعله أول وقت لتلك الصلاة ، ووقت الزوال والغروب معلومان ، وقوله تعالى : إلى غسق الليل ليس فيه بيان نهاية الوقت بلفظ غير محتمل للمعاني ، وقوله : حين تمسون إن أراد به المغرب كان معلوما ، وكذلك تصبحون لأن وقت الصبح معلوم ، وقوله : طرفي النهار لا دلالة فيه على تحديد الوقت لاحتماله أن يريد الظهر والعصر وذلك لأن وسط [ ص: 250 ] النهار هو وقت الزوال ، فما كان منه في النصف الآخر فهو طرف ، وكذلك ما كان منه في النصف الأول فهو طرف .

وجائز أن يريد به العصر ؛ لأن آخر النهار من طرفه ؛ والأولى أن يكون المراد العصر دون الظهر ؛ لأن طرف الشيء إما أن يكون ابتداءه أو نهايته وآخره ويبعد أن يكون ما قرب من الوسط طرفا ؛ إلا أن الحسن في رواية عمرو قد تأوله على الظهر والعصر جميعا وقد روى عنه يونس أنه العصر ، وهو أشبه بمعنى الآية ، ألا ترى أن طرف الثوب ما يلي نهايته ولا يسمى ما قرب من وسطه طرفا ؟ فهذه الآي دالة على أعداد الصلوات .

وقوله تعالى : حافظوا على الصلوات الآية ، يدل على أنها وتر ؛ لأن الشفع لا وسط له ، وقد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم ونقلت الأمة عنه قولا وفعلا فرض الصلوات الخمس . وقد روى أنس بن مالك وعبادة بن الصامت في حديث المعراج عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه أمر بخمسين صلاة ، وأنه لم يزل يسأل ربه التخفيف حتى استقرت على خمس ، وهذا عندنا كان فرضا موقوفا على اختيار النبي صلى الله عليه وسلم كذلك ؛ لأنه لا يجوز نسخ الفرض قبل التمكن من الفعل ، وقد بيناه في أصول الفقه ؛ ولا خلاف بين المسلمين في فرض الصلوات الخمس . وقال جماعة من السلف بوجوب الوتر ، وهو قول أبي حنيفة ، وليس هو بفرض عنده وإن كان واجبا ؛ لأن الفرض ما كان في أعلى مراتب الإيجاب . وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار متواترة في بيان تحديد أوقات الصلوات ، واتفقت الأمة في بعضها واختلفت في بعض .

التالي السابق


الخدمات العلمية