الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 107 ] فصول في أدب التخلي لا يجوز استقبال القبلة في الفضاء لقضاء الحاجة ، في قول أكثر أهل العلم ; لما روى أبو أيوب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره ، ولكن شرقوا أو غربوا قال أبو أيوب : فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة ، فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل } متفق عليه . ولمسلم ، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها }

                                                                                                                                            وقال عروة بن ربيعة وداود : يجوز استقبالها واستدبارها لما روى جابر قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول ، فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها } قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب . وهذا دليل على النسخ ، فيجب تقديمه . ولنا أحاديث النهي ، وهي صحيحة .

                                                                                                                                            وحديث جابر يحتمل أنه رآه في البنيان ، أو مستترا بشيء ولا يثبت النسخ بالاحتمال ويتعين حمله على ما ذكرنا ، ليكون موافقا للأحاديث التي نذكرها ، فأما في البنيان ، أو إذا كان بينه وبين القبلة شيء يستره ففيه روايتان إحداهما لا يجوز أيضا . وهو قول الثوري وأبي حنيفة لعموم الأحاديث في النهي .

                                                                                                                                            والثانية يجوز استقبالها واستدبارها في البنيان ، روي ذلك عن العباس وابن عمر رضي الله عنهما وبه قال مالك : والشافعي وابن المنذر وهو الصحيح ; لحديث جابر وقد حملناه على أنه كان في البنيان ، وروت عائشة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر له أن قوما يكرهون استقبال القبلة بفروجهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قد فعلوها استقبلوا بمقعدتي القبلة } رواه أصحاب السنن وأكثر أصحاب المسانيد ، منهم أبو داود الطيالسي ، رواه عن خالد بن الصلت ، عن عراك بن مالك ، عن عائشة . قال أبو عبد الله : أحسن ما روي في الرخصة حديث عائشة ، وإن كان مرسلا فإن مخرجه حسن . قال أحمد : عراك لم يسمع من عائشة . فلذلك سماه مرسلا .

                                                                                                                                            وهذا كله في البنيان ، وهو خاص يقدم على العام . وعن مروان بن الأصفر قال : رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة ، ثم جلس يبول إليها . فقلت : يا أبا عبد الرحمن ، أليس قد نهي عن هذا ؟ قال : بلى إنما نهي عن هذا في الفضاء ، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس . رواه أبو داود .

                                                                                                                                            وهذا تفسير لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم العام وفيه جمع بين الأحاديث ، فيتعين المصير إليه . وعن أحمد : أنه يجوز استدبار الكعبة في البنيان والفضاء جميعا ; لما روى ابن عمر قال : { رقيت يوما على بيت حفصة ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم على حاجته ، مستقبل الشام مستدبر الكعبة } . متفق عليه .

                                                                                                                                            ( 225 ) فصل : ويكره أن يستقبل الشمس والقمر بفرجه ; لما فيهما من نور الله تعالى . فإن استتر عنهما بشيء فلا بأس ; لأنه لو استتر عن القبلة جاز فهاهنا أولى .

                                                                                                                                            ويكره أن يستقبل الريح ; لئلا ترد عليه رشاش البول ، فينجسه .

                                                                                                                                            ( 226 ) فصل : ويستحب أن يستتر عن الناس ، فإن وجد حائطا أو كثيبا أو شجرة أو بعيرا استتر به وإن لم يجد شيئا أبعد حتى لا يراه أحد ; لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من أتى الغائط فليستتر ، فإن لم يجد إلا [ ص: 108 ] أن يجمع كثيبا من الرمل فليستدبره } وروي عنه عليه السلام { أنه خرج ومعه درقة ، ثم استتر بها ، ثم بال } .

                                                                                                                                            وعن جابر قال { : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد . } والبراز : الموضع البارز ، سمي قضاء الحاجة به ; لأنها تقضى فيه . وعن المغيرة بن شعبة ، قال { : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذهب أبعد } ، روى أحاديث هذا الفصل كلها أبو داود وابن ماجه . وقال عبد الله بن جعفر { : كان أحب ما استتر به النبي صلى الله عليه وسلم إليه لحاجته هدف أو حائش نخل } رواه ابن ماجه .

                                                                                                                                            ( 227 ) فصل : ويستحب أن يرتاد لبوله موضعا رخوا ; لئلا يترشش عليه ، { قال أبو موسى كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، فأراد أن يتبول ، فأتى دمثا في أصل حائط ، فبال ثم قال إذا أراد أحدكم أن يتبول فليرتد لبوله } رواه الإمام أحمد ويستحب أن يبول قاعدا ; لئلا يترشش عليه ، قال ابن مسعود من الجفاء أن تبول وأنت قائم . وكان سعد بن إبراهيم لا يجيز شهادة من بال قائما ، { قالت عائشة : من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبول قائما فلا تصدقوه ، ما كان يبول إلا قاعدا . } قال الترمذي : هذا أصح شيء في الباب

                                                                                                                                            وقد رويت الرخصة فيه عن عمر وعلي ، وابن عمر وزيد بن ثابت وسهل بن سعد وأنس وأبي هريرة وعروة . وروى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم { أتى سباطة قوم ، فبال قائما . } رواه البخاري ، وغيره . ولعل النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لتبيين الجواز ، ولم يفعله إلا مرة واحدة ، ويحتمل أنه كان في موضع لا يتمكن من الجلوس فيه .

                                                                                                                                            وقيل : فعل ذلك لعلة كانت بمأبضه . والمأبض ما تحت الركبة من كل حيوان .

                                                                                                                                            ( 228 ) فصل : ويستحب أن لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض ; لما روى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه { كان إذا أراد الحاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض } ; ولأن ذلك أستر له فيكون أولى .

                                                                                                                                            ( 229 ) فصل : ولا يجوز أن يبول في طريق الناس ، ولا مورد ماء ، ولا ظل ينتفع به الناس ; لما روى معاذ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { اتقوا الملاعن الثلاثة - البراز في الموارد ، وقارعة الطريق ، والظل } رواه أبو داود ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اتقوا اللعانين . قالوا : وما اللعانان يا رسول الله ؟ قال الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم " أخرجه مسلم

                                                                                                                                            والمورد طريق . ولا يبول تحت شجرة مثمرة ، في حال كون الثمرة عليها لئلا تسقط عليه الثمرة فتتنجس به . فأما في غير حال الثمرة فلا بأس ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحب ما استتر به إليه لحاجته هدف أو حائش نخل . ولا يبول في الماء الدائم ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى عن البول في الماء الراكد } . متفق عليه

                                                                                                                                            ; ولأن الماء إن كان قليلا تنجس به وإن كان كثيرا ، فربما تغير بتكرار البول فيه ، فأما الجاري فلا يجوز التغوط فيه ; لأنه يؤذي من يمر به ، وإن بال فيه وهو كثير لا يؤثر فيه البول ، فلا بأس ; لأن تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم الراكد بالنهي عن البول فيه دليل على أن الجاري بخلافه ، ولا يبول على ما نهي عن الاستجمار به ; لأن هذا أبلغ من الاستجمار به فالنهي ثم تنبيه على تحريم البول عليه .

                                                                                                                                            ويكره على أن يبول في شق أو ثقب ; لما روى عبد الله بن سرجس { ، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الجحر } رواه [ ص: 109 ] أبو داود ; لأن عبد الله بن المغفل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يبولن أحدكم في مستحمه } ولأنه لا يأمن أن يكون فيه حيوان يلسعه أو يكون مسكنا للجن فيتأذى بهم ، فقد حكي أن سعد بن عبادة بال في جحر بالشام ثم استلقى ميتا فسمعت الجن تقول :

                                                                                                                                            نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة     ورميناه بسهمين
                                                                                                                                            فلم نخطئ فؤاده

                                                                                                                                            ولا يبول في مستحمه فإن عامة الوسواس منه .

                                                                                                                                            رواه أبو داود ، وابن ماجه وقال : سمعت علي بن محمد الطنافسي يقول : إنما هذا في الحفيرة ; فأما اليوم فمغتسلاتهم الجص والصاروج والقير فإذا بال وأرسل عليه الماء فلا بأس به . وقد قيل : إن البصاق على البول يورث الوسواس ، وإن البول على النار يورث السقم ، وتوقي ذلك كله أولى .

                                                                                                                                            ويكره أن يتوضأ على موضع بوله ، أو يستنجي عليه لئلا يتنجس به .

                                                                                                                                            ( 230 ) فصل : ويعتمد في حال جلوسه على رجله اليسرى ، لما روى سراقة بن مالك قال : { أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتوكأ على اليسرى وأن ننصب اليمنى } رواه الطبراني في المعجم ; ولأنه أسهل لخروج الخارج ، ولا يطيل المقام أكثر من قدر الحاجة ; لأن ذلك يضره ، وقد قيل : إنه يورث الباسور وقيل : إنه يدمي الكبد ، وربما آذى من ينتظره . ويستحب أن يغطي رأسه ; لأن ذلك يروى عن ، أبي بكر الصديق رضي الله عنه ; ولأنه حال كشف العورة فيستحيي فيها . ويلبس حذاءه ; لئلا تتنجس رجلاه . ولا يذكر الله تعالى على حاجته إلا بقلبه وكره ذلك ابن عباس وعطاء وعكرمة ، وقال ابن سيرين والنخعي لا بأس به ; لأن الله تعالى ذكره محمود على كل حال . ولنا : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد السلام في هذه الحال ، فذكر الله أولى . فإذا عطس حمد الله بقلبه ولم يتكلم . وقال ابن عقيل : فيه رواية أخرى ، إنه يحمد الله بلسانه . والأول أولى ; لما ذكرناه ، فإنه إذا لم يرد السلام الواجب ، فما ليس بواجب أولى . ولا يسلم ولا يرد على مسلم ; لما

                                                                                                                                            روى ابن عمر { أن رجلا مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول ، فسلم فلم يرد عليه السلام } قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وعن جابر ، { أن رجلا مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول ، فسلم عليه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تسلم علي ; فإنك إن فعلت ذلك لم أرد عليك } . رواه ابن ماجه .

                                                                                                                                            ولا يتكلم ; لما روى أبو سعيد قال ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتيهما يتحدثان ، فإن الله يمقت على ذلك } رواه أبو داود .

                                                                                                                                            ( 231 ) فصل : إذا أراد دخول الخلاء ومعه شيء فيه ذكر الله تعالى استحب وضعه . وقال أنس بن مالك : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه . } رواه ابن ماجه وأبو داود وقال : هذا حديث منكر وقيل : إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يضعه ; لأن فيه " محمد رسول الله " ثلاثة أسطر ، فإن احتفظ بما معه مما فيه ذكر الله تعالى ، واحترز عليه من السقوط ، أو أدار فص الخاتم إلى باطن كفه فلا بأس .

                                                                                                                                            قال أحمد . الخاتم إذا كان فيه اسم الله يجعله في باطن كفه ، ويدخل الخلاء . وقال عكرمة : اقلبه هكذا في باطن كفك فاقبض عليه وبه قال [ ص: 110 ] إسحاق ، ورخص فيه ابن المسيب والحسن وابن سيرين وقال أحمد في الرجل يدخل الخلاء ومعه الدراهم : أرجو أن لا يكون به بأس .

                                                                                                                                            ( 232 ) فصل : ويقدم رجله اليسرى في الدخول ، واليمنى في الخروج ويقول عند دخوله بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث ، ومن الرجس النجس الشيطان الرجيم . قال أحمد يقول إذا دخل الخلاء : أعوذ بالله من الخبث والخبائث ، وما دخلت قط المتوضأ ولم أقلها إلا أصابني ما أكره ، وعن أنس { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث } متفق عليه ، وعن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول : بسم الله } وعن علي قال : قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا يعجز أحدكم إذا دخل مرفقه أن يقول : اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم } . رواهما ابن ماجه .

                                                                                                                                            قال أبو عبيد الخبث بسكون الباء الشر والخبائث الشياطين . وقيل الخبث ، بضم الباء والخبائث : ذكران الشياطين وإناثهم فإذا خرج من الخلاء قال غفرانك الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني . وروى أنس { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء قال غفرانك الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني } أخرجه ابن ماجه . وقالت عائشة { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال غفرانك } قال الترمذي هذا حديث حسن .

                                                                                                                                            ( 233 ) فصل : ولا بأس أن يبول في الإناء قالت أميمة بنت رقيقة { : كان للنبي صلى الله عليه وسلم قدح من عيدان يبول فيه ، ويضعه تحت السرير } . رواه أبو داود والنسائي ، وابن ماجه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية