الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 422 ] ثم دخلت سنة تسعين من الهجرة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيها غزا مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد بلاد الروم ، ففتحا حصونا ، وقتلا خلقا من الروم ، وغنما وأسرا خلقا كثيرا . وفيها أسرت الروم خالد بن كيسان صاحب البحر ، وذهبوا به إلى ملكهم ، فأهداه ملك الروم إلى الوليد بن عبد الملك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها عزل الوليد أخاه عبد الله بن عبد الملك عن إمرة مصر ، وولى عليها قرة بن شريك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها قتل محمد بن القاسم الثقفي ملك السند داهر بن صصة ، وكان محمد بن القاسم هذا على جيش من جهة الحجاج ، وفيها فتح قتيبة بن مسلم مدينة بخارى ، وهزم جمع العدو من الترك بها ، وجرت بينهم فصول يطول ذكرها ، وقد تقصاها ابن جرير ، وفيها طلب طرخون ملك الصغد بعد فتح بخارى من قتيبة أن يصالحه على مال يبذله في كل عام ، فأجابه قتيبة إلى ذلك ، وأخذ منه رهنا عليه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها استنجد وردان خذاه بالترك ، فأتوه من جميع النواحي وهو صاحب بخارى بعد أخذ قتيبة لها وخرج وردان خذاه وحمل على المسلمين فحطموهم ، ثم عاد المسلمون عليهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، وصالح قتيبة ملك الصغد ، وفتح بخارى وحصونها ، ورجع قتيبة بالجند إلى بلاده فأذن له الحجاج ، فلما سار إلى بلاده بلغه أن صاحب الصغد قال لملوك الترك : إن العرب بمنزلة اللصوص ، فإن أعطوا شيئا ذهبوا ، وإن قتيبة هكذا يقصد الملوك ، فإن [ ص: 423 ] أعطوه شيئا أخذه ورجع عنهم ، وإن قتيبة ليس بملك ، ولا يطلب ملكا . فبلغ قتيبة قوله ، فرجع إليهم ، فكاتب نيزك ملك الترك ملوك ما وراء النهر; منهم ملك الطالقان ، وكان قد صالح قتيبة فنقض الصلح الذي كان بينه وبين قتيبة ، واستجاش عليه بالملوك كلها ، فأتاه ملوك كثير كانوا قد عاهدوا قتيبة على الصلح ، فنقضوا كلهم وصاروا يدا واحدة على قتيبة ، واتعدوا إلى الربيع ، وتعاهدوا وتعاقدوا على أن يجتمعوا فيقاتلوا كلهم في فصل الربيع من السنة الآتية ، فقتل منهم قتيبة في ذلك الحين مقتلة عظيمة جدا لم يسمع بمثلها ، وصلب منهم سماطين في مسافة أربعة فراسخ في نظام واحد ، وذلك مما كسر جموعهم كلهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة هرب يزيد بن المهلب وأخواه المفضل وعبد الملك من سجن الحجاج ، فلحقوا بسليمان بن عبد الملك ، فأمنهم من الحجاج ، وذلك أن الحجاج كان قد احتاط عليهم قبل ذلك ، وعاقبهم عقوبة عظيمة ، وأخذ منهم ستة آلاف ألف ، وكان أصبرهم على العقوبة يزيد بن المهلب ، كان لا يسمع له صوت ، ولو فعلوا به ما فعلوا ، فكان ذلك يغيظ الحجاج ، حتى قال قائل للحجاج : إن في ساقه أثر نشابة بقي نصلها فيه ، وإنه متى أصابها شيء لا يملك نفسه أن يصرخ ، فأمر الحجاج أن ينال ذلك الموضع منه بعذاب ، فصاح ، فلما سمعت أخته هند بنت المهلب وكانت تحت الحجاج صوته بكت [ ص: 424 ] وناحت عليه فطلقها الحجاج ، ثم أودعهم السجن ، ثم خرج الحجاج إلى بعض المحال لينفذ جيشا إلى الأكراد ، واستصحبهم معه ، فخندق حولهم ، ووكل بهم الحرس ، فلما كان في بعض الليالي أمر يزيد بن المهلب بطعام كثير فصنع للحرس ، فاشتغلوا به ، ثم تنكر في هيئة بعض الطباخين ، وجعل لحيته لحية بيضاء ، ثم خرج ، فرآه بعض الحرس فقال : ما رأيت مشية أشبه بمشية يزيد بن المهلب من هذا . ثم اتبعه يتحققه ، فلما رأى بياض لحيته انصرف عنه ، ثم لحقه أخواه ، فركبوا السفن ، وساروا نحو الشام ، فلما بلغ الحجاج هربهم انزعج لذلك ، وذهب وهمه أنهم ساروا إلى خراسان ، فكتب إلى قتيبة بن مسلم يحذره قدومهم ، ويأمره بالاستعداد لهم ، وأن يرصدهم في كل مكان ، ويكتب إلى أمراء الثغور والكور بتحصيلهم ، وكتب إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك يخبره بهربهم ، وأنه لا يراهم هربوا إلا إلى خراسان ، وخاف الحجاج من يزيد بن المهلب ، أن يصنع كما صنع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث من الخروج عليه ، وجمع الناس له .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأما يزيد بن المهلب فإنه سلك على البطائح ، وجاءته خيول كان قد أعدها له أخوه مروان بن المهلب لهذا اليوم ، فركبها وسلك به دليل من بني كلب يقال له : عبد الجبار بن يزيد . فأخذ بهم على السماوة . وجاء الخبر إلى الحجاج بعد يومين أن يزيد قد سلك نحو الشام ، فكتب إلى الوليد يعلمه بذلك ، [ ص: 425 ] وسار يزيد حتى نزل الأردن ، على وهيب بن عبد الرحمن الأزدي وكان كريما على سليمان بن عبد الملك فسار وهيب إلى سليمان بن عبد الملك فقال له : إن يزيد بن المهلب وأخويه في منزلي ، قد جاءوا مستعيذين بك من الحجاج . قال : فاذهب فائتني بهم ، فهم آمنون ما دمت حيا . فجاءهم ، فذهب بهم حتى أدخلهم على سليمان بن عبد الملك ، فأمنهم سليمان ، وكتب إلى أخيه الوليد : إن آل المهلب قد أمنتهم ، وإنما بقي للحجاج عندهم ثلاثة آلاف ألف ، وهي عندي . فكتب إليه : لا والله لا أؤمنه حتى تبعث به إلي . فكتب إليه : لا والله لا أبعثه حتى أجيء معه ، فأنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تفضحني أو تخفرني في جواري . فكتب إليه : لا والله لا تجئ معه وابعث به إلي في وثاق . فقال يزيد : ابعثني إليه ، فما أحب أن أوقع بينك وبينه عداوة وحربا ، فابعثني إليه ، وابعث معي ابنك ، واكتب إليه بألطف عبارة تقدر عليها . فبعثه وبعث معه ابنه أيوب ، وقال لابنه : إذا دخلت في الدهليز فادخل مع يزيد في السلسلة ، وادخلا عليه كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلما رأى الوليد ابن أخيه في السلسلة ، قال : والله لقد بلغنا من سليمان . ودفع أيوب كتاب أبيه إلى عمه ، وقال : يا أمير المؤمنين ، نفسي فداؤك لا تخفر ذمة أبي ، وأنت أحق من منعها ، ولا تقطع منا رجاء من رجا السلامة في جوارنا لمكاننا منك ، ولا تذل من رجا العز في الانقطاع إلينا لعزنا بك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم قرأ الوليد كتاب سليمان بن عبد الملك فإذا فيه :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أما بعد يا أمير المؤمنين ، فوالله إن كنت لأظن لو استجار بي عدو قد نابذك وجاهدك فأنزلته وأجرته ، أنك لا تذل [ ص: 426 ] جاري ، ولا تخفر جواري ، بل لم أجر إلا سامعا مطيعا ، حسن البلاء والأثر في الإسلام ، هو وأبوه وأهل بيته ، وقد بعثت به إليك ، فإن كنت إنما تعد قطيعتي والإخفار بذمتي والإبلاغ في مساءتي ، فقد قدرت إن أنت فعلت ، وأنا أعيذك بالله من احتراد قطيعتي ، وانتهاك حرمتي ، وترك بري وصلتي ، فوالله يا أمير المؤمنين ما تدري ما بقائي وبقاؤك ، ولا متى يفرق الموت بيني وبينك ، فإن استطاع أمير المؤمنين أدام الله سروره أن لا يأتي أجل الوفاة علينا إلا وهو لي واصل ، ولحقي مؤد ، وعن مساءتي نازع ، فليفعل ، ووالله يا أمير المؤمنين ما أصبحت بشيء من أمر الدنيا بعد تقوى الله بأسر مني برضاك وسرورك ، وإن رضاك وسرورك مما ألتمس به رضوان الله عز وجل ، وإن كنت يا أمير المؤمنين يوما من الدهر تريد مسرتي وصلتي وكرامتي وإعظام حقي فتجاوز لي عن يزيد ، وكل ما طلبته به فهو علي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلما قرأ الوليد كتابه قال : لقد أشفقنا على سليمان . ثم دعا ابن أخيه ، فأدناه منه ، وتكلم يزيد بن المهلب فحمد الله ، وأثنى عليه ، وصلى على رسوله ، ثم قال : يا أمير المؤمنين إن بلاءكم عندنا أحسن البلاء ، فمن ينسى ذلك فلسنا ناسيه ، ومن يكفره فلسنا بكافريه ، وقد كان من بلائنا أهل البيت في طاعتكم [ ص: 427 ] والطعن في أعين أعدائكم في المواطن العظام في المشارق والمغارب ما إن المنة علينا فيه عظيمة . فقال له : اجلس . فجلس ، فأمنه ، وكف عنه ، ورده إلى سليمان ، فكان عنده يعلمه الهيئة ، ويصف له ألوان الأطعمة الطيبة ، وكان حظيا عنده لا يهدى إليه بهدية إلا بعث إليه بنصفها ، وتقرب يزيد بن المهلب إلى سليمان بأنواع الهدايا والتحف والتقادم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكتب الوليد إلى الحجاج : إني لم أصل إلى يزيد بن المهلب ، وأهل بيته مع أخي سليمان ، فاكفف عنهم ، واله عن الكتاب إلي فيهم . فكف الحجاج عن آل المهلب ، وترك ما كان يطالبهم به من الأموال ، حتى ترك لأبي عيينة بن المهلب ألف ألف درهم ، ولم يزل يزيد بن المهلب عند سليمان بن عبد الملك حتى هلك الحجاج في سنة خمس وتسعين كما سيأتي بيانه ثم ولي يزيد بلاد العراق بعد الحجاج ، كما أخبره الراهب .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية