الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                بسم الله الرحمن الرحيم كتاب القدر باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته

                                                                                                                2643 حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية ووكيع ح وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني واللفظ له حدثنا أبي وأبو معاوية ووكيع قالوا حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها حدثنا عثمان بن أبي شيبة وإسحق بن إبراهيم كلاهما عن جرير بن عبد الحميد ح وحدثنا إسحق بن إبراهيم أخبرنا عيسى بن يونس ح وحدثني أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع ح وحدثناه عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة بن الحجاج كلهم عن الأعمش بهذا الإسناد قال في حديث وكيع إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة وقال في حديث معاذ عن شعبة أربعين ليلة أربعين يوما وأما في حديث جرير وعيسى أربعين يوما [ ص: 145 ]

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                [ ص: 145 ] قوله : ( حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الصادق المصدوق : إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ، ثم تكون في ذلك علقة مثل ذلك ، ثم تكون في ذلك مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه ، وأجله وعمله ، وشقي أم سعيد ) أما قوله ( الصادق المصدوق ) فمعناه الصادق في قوله ، المصدوق فيما يأتي من الوحي الكريم . وأما قوله : ( إن أحدكم ) بكسر الهمزة على حكاية لفظه صلى الله عليه وسلم قوله : ( بكتب رزقه ) هو بالباء الموحدة في أوله على البدل من أربع . وقوله : ( شقي أو سعيد ) مرفوع خبر مبتدأ محذوف ، أي : وهو شقي أو سعيد .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : ( ثم يرسل الملك ) ظاهره أن إرساله يكون بعد مائة وعشرين يوما ، وفي الرواية التي بعد هذه يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين ، أو خمس [ ص: 146 ] وأربعين ليلة فيقول : يا رب أشقي أم سعيد وفي الرواية الثالثة : إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها ، وخلق سمعها ، وبصرها ، وجلدها . وفي رواية حذيفة بن أسيد : إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ، ثم يتسور عليها الملك . وفي رواية : إن ملكا موكلا بالرحم إذا أراد الله أن يخلق شيئا بإذن الله لبضع وأربعين ليلة ، وذكر الحديث . وفي رواية أنس : إن الله قد وكل بالرحم ملكا فيقول : أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة . قال العلماء : طريق الجمع بين هذه الروايات أن للملك ملازمة ومراعاة لحال النطفة ، وأنه يقول : يا رب هذه علقة ، هذه مضغة ، في أوقاتها . فكل وقت يقول فيه ما صارت إليه بأمر الله تعالى ، وهو أعلم سبحانه ، ولكلام الملك وتصرفه أوقات : أحدها حين يخلقها الله تعالى نطفة ، ثم ينقلها علقة ، وهو أول علم الملك بأنه ولد ; لأنه ليس كل نطفة تصير ولدا ، وذلك عقب الأربعين الأولى ، وحينئذ يكتب رزقه وأجله وعمله وشقاوته أو سعادته ، ثم للملك فيه تصرف آخر في وقت آخر ، وهو تصويره وخلق سمعه وبصره وجلده وعظمه ، وكونه ذكرا أم أنثى ، وذلك إنما يكون في الأربعين الثالثة ، وهي مدة المضغة ، وقبل انقضاء هذه الأربعين ، وقبل نفخ الروح فيه ; لأن نفخ الروح لا يكون إلا بعد تمام صورته .

                                                                                                                وأما قوله في إحدى الروايات : ( فإذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال : يا رب أذكر أم أنثى ؟ فيقضي ربك ما شاء ، ويكتب الملك ، ثم يقول : يا رب أجله ، فيقول ربك ما شاء ، ويكتب الملك ، وذكر رزقه ) ، قال القاضي وغيره : ليس هو على ظاهره ، ولا يصح حمله على ظاهره ، بل المراد بتصويرها وخلق سمعها إلى آخره أنه يكتب ذلك ، ثم يفعله في وقت آخر ; لأن التصوير عقب الأربعين الأولى غير موجود في العادة ، وإنما يقع في الأربعين الثالثة ، وهي مدة المضغة كما قال الله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم يكون للملك فيه تصوير آخر ، وهو وقت نفخ الروح عقب الأربعين الثالثة حين يكمل له أربعة أشهر .

                                                                                                                واتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر ووقع في رواية للبخاري إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ، ثم يكون علقة مثله ، ثم يكون مضغة مثله ، ثم يبعث إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات ، فيكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد ، ثم ينفخ فيه فقوله : ( ثم يبعث ) بحرف ( ثم ) يقتضي تأخير كتب الملك هذه الأمور إلى ما بعد الأربعين الثالثة ، والأحاديث الباقية تقتضي الكتب بعد الأربعين الأولى . وجوابه أن قوله : ( يبعث إليه الملك فيؤذن فيكتب ) معطوف على قوله ( يجمع في بطن أمه ) ، ومتعلق به لا بما قبله ، وهو قوله : ( ثم يكون مضغة مثله ) ، ويكون قوله : ( ثم يكون علقة مثله ، ثم يكون مضغة مثله ) معترضا بين المعطوف والمعطوف عليه وذلك جائز موجود في القرآن والحديث الصحيح وغيره من كلام العرب . قال القاضي وغيره : والمراد بإرسال الملك في هذه الأشياء أمره بها [ ص: 147 ] وبالتصرف فيها بهذه الأفعال ، وإلا فقد صرح في الحديث بأنه موكل بالرحم ، وأنه يقول : يا رب نطفة ، يا رب علقة .

                                                                                                                قال القاضي : وقوله في حديث أنس ( وإذا أراد الله أن يقضي خلقا قال : يا رب أذكر أم أنثى ؟ شقي أم سعيد ) ؟ لا يخالف ما قدمناه ، ولا يلزم منه أن يقول ذلك بعد المضغة ، بل ابتداء للكلام ، وإخبار عن حالة أخرى ، فأخبر أولا بحال الملك مع النطفة ، ثم أخبر أن الله تعالى إذا أراد إظهار خلق النطفة علقة كان كذا وكذا ، ثم المراد بجميع ما ذكر من الرزق والأجل ، والشقاوة والسعادة ، والعمل ، والذكورة والأنوثة أنه يظهر ذلك للملك ، ويأمره بإنفاذه وكتابته ، وإلا فقضاء الله تعالى سابق على ذلك ، وعلمه وإرادته لكل ذلك موجود في الأزل والله أعلم .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : ( فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها . وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار . إلخ ) المراد بالذراع التمثيل للقرب من موته ودخوله عقبه ، وأن تلك الدار ما بقي بينه وبين أن يصلها إلا كمن بقي بينه وبين موضع من الأرض ذراع ، والمراد بهذا الحديث أن هذا قد يقع في نادر من الناس ، لا أنه غالب فيهم ، ثم أنه من لطف الله تعالى وسعة رحمته انقلاب الناس من الشر إلى الخير في كثرة ، وأما انقلابهم من الخير إلى الشر ففي غاية الندور ، ونهاية القلة ، وهو نحو قوله تعالى : { إن رحمتي سبقت غضبي وغلبت غضبي } ويدخل في هذا من انقلب إلى عمل النار بكفر أو معصية ، لكن يختلفان في التخليد وعدمه ; فالكافر يخلد في النار ، والعاصي الذي مات موحدا لا يخلد فيها كما سبق تقريره .

                                                                                                                وفي هذا الحديث تصريح بإثبات القدر ، وأن التوبة تهدم الذنوب قبلها ، وأن من مات على شيء حكم له به من خير أو شر ، إلا أن أصحاب المعاصي غير الكفر في المشيئة . والله أعلم .

                                                                                                                [ ص: 148 ] قوله : ( عن حذيفة بن أسيد ) هو بفتح الهمزة .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : ( فيقول : يا رب أشقي أو سعيد ؟ فيكتبان ، فيقول أي رب أذكر أو أنثى ؟ فيكتبان ) يكتبان في الموضعين بضم أوله ومعناه يكتب أحدهما .

                                                                                                                قوله : ( دخلت على أبي سريحة ) هو بفتح السين المهملة وكسر الراء وبالحاء المهملة .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتصور عليها الملك ) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا ( يتصور ) بالصاد وذكر القاضي ( يتسور ) بالسين . قال : والمراد بـ " يتسور " ينزل ، وهو استعارة من تسورت الدار إذا نزلت فيها من أعلاها ، ولا يكون التسور إلا من فوق ، فيحتمل أن تكون الصاد الواقعة في نسخ بلادنا مبدلة من السين . والله أعلم .




                                                                                                                الخدمات العلمية