الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب صفة النار وأنها مخلوقة غساقا يقال غسقت عينه ويغسق الجرح وكأن الغساق والغسق واحد غسلين كل شيء غسلته فخرج منه شيء فهو غسلين فعلين من الغسل من الجرح والدبر وقال عكرمة حصب جهنم حطب بالحبشية وقال غيره حاصبا الريح العاصف والحاصب ما ترمي به الريح ومنه حصب جهنم يرمى به في جهنم هم حصبها ويقال حصب في الأرض ذهب والحصب مشتق من حصباء الحجارة صديد قيح ودم خبت طفئت تورون تستخرجون أوريت أوقدت للمقوين للمسافرين والقي القفر وقال ابن عباس صراط الجحيم سواء الجحيم ووسط الجحيم لشوبا من حميم يخلط طعامهم ويساط بالحميم زفير وشهيق صوت شديد وصوت ضعيف وردا عطاشا غيا خسرانا وقال مجاهد يسجرون توقد بهم النار ونحاس الصفر يصب على رءوسهم يقال ذوقوا باشروا وجربوا وليس هذا من ذوق الفم مارج خالص من النار مرج الأمير رعيته إذا خلاهم يعدو بعضهم على بعض مريج ملتبس مرج أمر الناس اختلط مرج البحرين مرجت دابتك تركتها

                                                                                                                                                                                                        3085 حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن مهاجر أبي الحسن قال سمعت زيد بن وهب يقول سمعت أبا ذر رضي الله عنه يقول كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فقال أبرد ثم قال أبرد حتى فاء الفيء يعني للتلول ثم قال أبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم [ ص: 380 ] [ ص: 381 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 380 ] [ ص: 381 ] قوله : ( باب صفة النار وأنها مخلوقة ) القول فيه كالقول في " باب صفة الجنة " سواء .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( غساقا ، يقال غسقت عينه ويغسق الجرح ) وهذا مأخوذ من كلام أبي عبيدة ، فإنه قال في قوله تعالى : إلا حميما وغساقا : الحميم الماء الحار ، والغساق ما همي وسال ، يقال غسقت من العين ومن الجرح ، ويقال عينه تغسق أي تسيل ، والمراد في الآية ما سال من أهل النار من الصديد ، رواه الطبري من قول قتادة ومن قول إبراهيم وعطية بن سعد وغيرهم ، وقيل من دموعهم أخرجه أيضا من قول عكرمة وغيره ، وقيل : الغساق البارد الذي يحرق ببرده رواه أيضا من قول ابن عباس ومجاهد وأبي العالية ، قال أبو عبيد الهروي : من قرأه بالتشديد أراد السائل ، ومن قرأه بالتخفيف أراد البارد . وقيل : الغساق المنتن رواه الطبري عن عبد الله بن بريدة وقال : إنها بالطخارية ، وله شاهد من حديث أبي سعيد أخرجه الترمذي والحاكم مرفوعا لو أن دلوا من غساق يهراق إلى الدنيا لأنتن أهل الدنيا وأخرج الطبري من حديث عبد الله بن عمر موقوفا : الغساق القيح الغليظ ، لو أن قطرة منه تهراق بالمغرب لأنتن أهل المشرق .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وكأن الغساق والغسيق واحد ) كذا لأبي ذر ، والغسيق بوزن فعيل ، ولغيره والغسق بفتحتين ، قال الطبري في قوله تعالى : ومن شر غاسق إذا وقب الغاسق الليل إذا لبس الأشياء وغطاها ، وإنما أريد [ ص: 382 ] بذلك هجومه على الأشياء هجوم السيل ، وكأن المراد بالآية السائل من الصديد الجامع بين شدة البرد وشدة النتن وبهذا تجتمع الأقوال والله أعلم

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( غسلين كل شيء غسلته فخرج منه شيء فهو غسلين فعلين من الغسل من الجرح والدبر ) كلام أبي عبيدة في المجاز ، وقد روى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : الغسلين صديد أهل النار ، والدبر بفتح المهملة والموحدة هو ما يصيب الإبل من الجراحات .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) :

                                                                                                                                                                                                        : قوله تعالى في هذه الآية : ولا طعام إلا من غسلين يعارضه ظاهر قوله تعالى في الآية الأخرى : ليس لهم طعام إلا من ضريع وجمع بينهما بأن الضريع من الغسلين ، وهذا يرده ما سيأتي في التفسير أن الضريع نبات ، وقيل : الاختلاف بحسب من يطعم من أهل النار ، فمن اتصف بالصفة الأولى فطعامه من غسلين ، ومن اتصف بالثانية فطعامه من ضريع ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال عكرمة حصب جهنم حطب بالحبشية . وقال غيره : حاصبا الريح العاصف ، والحاصب ما يرمي به الريح ، ومنه حصب جهنم يرمى به في جهنم هم حصبها ) أما قول عكرمة فوصله ابن أبي حاتم من طريق عبد الملك بن أبجر سمعت عكرمة بهذا ، وروى الطبري عن مجاهد مثله لكن لم يقل بالحبشية ، وروى الفراء عن علي وعائشة أنهما قرآها " حطب " بالطاء ، وروى الطبري عن ابن عباس أنه قرأها بالضاد المعجمة قال : وكأنه أراد أنهم الذين تسجر بهم النار لأن كل شيء هيجت به النار فهو حصب لها ، وأما قول غيره فقال أبو عبيدة في قوله تعالى : أو يرسل عليكم حاصبا : أي ريحا عاصفا يحصب ، وفي قوله : حصب جهنم : كل شيء ألقيته في النار فقد حصبتها به ، وروى الطبري عن الضحاك قال في قوله : ( حصب جهنم ) قال تحصب بهم جهنم وهو الرمي يقول يرمى بهم فيها .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ويقال حصب في الأرض ذهب ، والحصب مشتق من حصباء الحجارة ) روى الطبري عن أبي جريج في قوله : أو يرسل عليكم حاصبا قال مطر الحجارة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( صديد قيح ودم ) قال أبو عبيدة في قوله تعالى : ويسقى من ماء صديد قال : الصديد القيح والدم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( خبت طفئت ) أخرج الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى : كلما خبت قال : طفئت ، ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : سكنت ، ومثله قال أبو عبيدة ورجح لأنهم يقولون للنار إذا سكن لهبها وعلا الجمر رماد : خبت ، فإن طفئ معظم الجمر قالوا خمدت ، فإن طفئ كله قالوا همدت ، ولا شك أن نار جهنم لا تطفأ .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( تورون : تستخرجون ، أوريت : أوقدت ) يريد تفسير قوله تعالى : أفرأيتم النار التي تورون وهو قول أبي عبيدة قال في قوله تعالى : تورون أي تستخرجون من أوريت ، قال : وأكثر ما يقال وريت .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( للمقوين : للمسافرين ، والقي : القفر ) روى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : للمقوين للمسافرين ، ومن طريق قتادة والضحاك مثله ، ومن طريق مجاهد قال : للمقوين [ ص: 383 ] أي المستمتعين المسافر والحاضر ، وقال الفراء : قوله تعالى : ومتاعا للمقوين أي منفعة للمسافرين إذا نزلوا بالأرض ، والأرض القي - يعني بكسر القاف والتشديد - القفر الذي لا شيء فيه ، ورجح هذا الطبري واستشهد على ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال ابن عباس ( صراط الجحيم ) سواء الجحيم ووسط الجحيم ) روى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : فاطلع فرآه في سواء الجحيم قال : في وسط الجحيم ، ومن طريق قتادة والحسن مثله .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لشوبا من حميم : يخلط طعامهم ويساط بالحميم ) روى الطبري من طريق السدي قال في قوله تعالى : ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم الشوب الخلط وهو المزج ، وقال أبو عبيدة تقول العرب كل شيء خلطته بغيره فهو مشوب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( زفير وشهيق : صوت شديد وصوت ضعيف ) هو تفسير ابن عباس أخرجه الطبري وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه ، ومن طريق أبي العالية قال : الزفير في الحلق والشهيق في الصدر ، ومن طريق قتادة قال : هو كصوت الحمار أوله زفير وآخره شهيق ، وقال الداودي الشهيق هو الذي يبقى بعد الصوت الشديد من الحمار .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وردا : عطاشا ) روى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا قال : عطاشا ، ومن طريق مجاهد قال : منقطعة أعناقهم من الظمإ ، وقوله وردا هو مصدر وردت والتقدير ذوي ورد وهذا ينافي العطش ، لكن لا يلزم من الورود على الماء الوصول إلى تناوله ، فسيأتي في حديث الشفاعة أنهم يشكون العطش فترفع لهم جهنم سراب ماء فيقال : ألا تردون ؟ فيردونها فيتساقطون فيها .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( غيا : خسرانا ) أخرجه ابن أبي حاتم من هذا الوجه في قوله تعالى : فسوف يلقون غيا قال : خسرانا ، وروى ابن أبي حاتم من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه في هذه الآية قال : واد في جهنم بعيد القعر خبيث الطعم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال مجاهد : يسجرون توقد لهم النار ) كذا في رواية أبي ذر ولغيره " بهم " وهو أوضح ، وكذا أخرجه عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد به .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ونحاس الصفر يصب على رءوسهم ) أخرجه عبد بن حميد من طريق منصور عن مجاهد في قوله تعالى : يرسل عليكما شواظ من نار قال قطعة من نار حمراء ونحاس قال يذاب الصفر فيصب على رءوسهم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( يقال ذوقوا باشروا وجربوا ، وليس هذا من ذوق الفم ) لم أر هذا لغير المصنف وهو كما قال ، والذوق يطلق ويراد به حقيقته وهو ذوق الفم ، ويطلق ويراد به الذوق المعنوي وهو الإدراك وهو المراد في قوله : ذوقوا ما كنتم تعملون وقوله : ذلكم فذوقوه وقوله : ذق إنك أنت العزيز الكريم [ ص: 384 ] وكذلك في قوله : لا يذوقون فيها الموت وبلغني عن بعض علماء العصر أنه فسره هنا بمعنى التخيل وجعل الاستثناء متصلا وهو دقيق ، وروى ابن أبي حاتم من طريق أبي برزة الأسلمي مرفوعا والطبري من حديث عبد الله بن عمرو موقوفا " لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه الآية : فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( مارج خالص من النار ) روى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : وخلق الجان من مارج من نار قال : من خالص النار ، ومن طريق الضحاك عن ابن عباس قال : خلقت الجن من مارج ، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت ، وسيأتي قول مجاهد في ذلك في تفسير سورة الرحمن إن شاء الله تعالى . وقال الفراء : المارج نار دون الحجاب ، ويروى خلق السماء منها ومنها هذه الصواعق .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( مرج الأمير رعيته إذا خلاهم يعدو بعضهم على بعض ، فهم في أمر مريج أمر ملتبس [1] ومرج أمر الناس اختلط ) في رواية الكشميهني " أمر منتشر " وهو تصحيف قال أبو عبيدة في قوله تعالى : فهم في أمر مريج أي مختلط يقال مرج أمر الناس أي اختلط وأهمل ، وروى الطبري عن ابن عباس في قوله تعالى : فهم في أمر مريج قال مختلط ، ومن طريق سعيد بن جبير ومجاهد قال : ملتبس ، ومن طريق قتادة قال : من ترك الحق مرج عليه رأيه والتبس عليه دينه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( مرج البحرين : مرجت دابتك تركتها ) قال أبو عبيدة في قوله تعالى : مرج البحرين يلتقيان بينهما هو كقولك مرجت دابتك خليت عنها وتركتها ، وقال الفراء : قوله : مرج البحرين يلتقيان قال أرسلهما ثم يلتقيان بعد ، وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : المراد بالبحرين هنا بحر السماء والأرض يلتقيان كل عام ، ومن طريق سعيد بن جبير وابن أبزى مثله ، ومن طريق قتادة والحسن قال : هما بحرا فارس والروم ، قال الطبري : والأول أولى لأنه سبحانه وتعالى قال بعد ذلك : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وإنما يخرج اللؤلؤ من أصداف بحر الأرض عن قطر السماء . قلت : وفي هذا دفع لمن جزم بأن المراد بهما البحر الحلو والبحر الملح وجعل قوله : " منهما " من مجاز التغليب .

                                                                                                                                                                                                        ثم ذكر المصنف في الباب عشرة أحاديث ، الأول حديث أبي ذر في الأمر بالإبراد ، وفيه قصة وقد تقدم شرحه في المواقيت من كتاب الصلاة ، والغرض منه قوله : فإن شدة الحر من فيح جهنم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية