الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 195 ] ميراث الجد روى أبو داود ، بإسناده عن قتادة ، عن الحسن ، عن عمران بن الحصين ، { أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن ابن ابن ابني مات ، فما لي من ميراثه ؟ قال : لك السدس . فلما أدبر دعاه ، فقال : إن لك سدسا آخر . فلما أدبر دعاه ، فقال : إن لك السدس الآخر طعمة . } قال قتادة : فلا ندري أي شيء ورثه . قال قتادة أقل شيء ورث الجد السدس .

                                                                                                                                            وروي عن الحسن أيضا ، أن عمر رضي الله عنه قال : { أيكم يعلم ما ورث رسول الله صلى الله عليه وسلم الجد ؟ فقال معقل بن يسار : أنا ، ورثه رسول الله صلى الله عليه وسلم السدس . قال : مع من ؟ قال : لا أدري . قال : لا دريت . قال : فما يغني إذا ، } رواه سعيد ، في " سننه " . قال أبو بكر بن المنذر : أجمع أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الجد أبا الأب ، لا يحجبه عن الميراث غير الأب ، وأنزلوا الجد في الحجب والميراث منزلة الأب في جميع المواضع ، إلا في ثلاثة أشياء .

                                                                                                                                            أحدها ، زوج وأبوان . والثانية ، زوجة وأبوان ، للأم ثلث الباقي فيهما مع الأب ، وثلث جميع المال لو كان مكان الأب جد . والثالثة ، اختلفوا في الجد مع الإخوة والأخوات للأبوين أو للأب . ولا خلاف بينهم في إسقاطه بني الإخوة وولد الأم ، ذكرهم وأنثاهم . وذهب الصديق رضي الله عنه إلى أن الجد يسقط جميع الإخوة والأخوات من جميع الجهات ، كما يسقطهم الأب .

                                                                                                                                            وبذلك قال عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير . وروي ذلك عن عثمان ، وعائشة ، وأبي بن كعب ، وأبي الدرداء ، ومعاذ بن جبل ، وأبي موسى ، وأبي هريرة رضي الله عنهم . وحكي أيضا عن عمران بن الحصين ، وجابر بن عبد الله ، وأبي الطفيل ، وعبادة بن الصامت ، وعطاء وطاوس ، وجابر بن زيد .

                                                                                                                                            وبه قال قتادة ، وإسحاق ، وأبو ثور ونعيم بن حماد ، وأبو حنيفة ، والمزني ، وابن شريح ، وابن اللبان ، وداود ، وابن المنذر . وكان علي بن أبي طالب ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم يورثونهم معه ، ولا يحجبونهم به . وبه قال مالك والأوزاعي ، والشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد ; لأن الأخ ذكر يعصب أخته ، فلم يسقطه الجد ، كالابن .

                                                                                                                                            ولأن ميراثهم ثبت بالكتاب ، فلا يحجبون إلا بنص أو إجماع أو قياس ، وما وجد شيء من ذلك ، فلا يحجبون ; ولأنهم تساووا في سبب الاستحقاق فيتساوون فيه ، فإن الأخ والجد يدليان بالأب ، الجد أبوه ، والأخ ابنه ، وقرابة البنوة لا تنقص عن قرابة الأبوة ، بل ربما كانت أقوى ; فإن الابن يسقط تعصيب الأب ، ولذلك مثله علي رضي الله عنه بشجرة أنبتت غصنا ، فانفرق منه غصنان ، كل واحد منهما إلى الآخر أقرب منه إلى أصل الشجرة ، ومثله زيد بواد خرج منه نهر ، انفرق منه جدولان ، كل واحد منهما إلى الآخر أقرب منه إلى الوادي .

                                                                                                                                            واحتج من ذهب مذهب أبي بكر رضي الله عنه بقول النبي : صلى الله عليه وسلم { ألحقوا الفرائض بأهلها ، وما بقي فلأولى عصبة ذكر } . والجد أولى من الأخ ، بدليل المعنى والحكم ; أما المعنى فإنه له قرابة إيلاد وبعضية كالأب ، وأما الحكم فإن الفروض إذا ازدحمت سقط الأخ دونه ، ولا يسقطه أحد إلا الأب ، والإخوة والأخوات يسقطون بثلاثة ، ويجمع له بين الفرض والتعصيب ، كالأب ، وهم ينفردون بواحد منهما ، ويسقط [ ص: 196 ] ولد الأم ، وولد الأب يسقطون بهم بالإجماع إذا استغرقت الفروض المال ، وكانوا عصبة .

                                                                                                                                            وكذلك ولد الأبوين في المشركة عند الأكثرين ، ولأنه لا يقتل بقتل ابن ابنه ، ولا يحد بقذفه ، ولا يقطع بسرقة ماله ، ويجب عليه نفقته ، ويمنع من دفع زكاته إليه ، كالأب سواء ، فدل ذلك على قوته . فإن قيل : فالحديث حجة في تقديم الأخوات ; لأن فروضهن في كتاب الله ، فيجب أن تلحق بهن فروضهن ، ويكون للجد ما بقي . فالجواب ، أن هذا الخبر حجة في الذكور المنفردين ، وفي الذكور مع الإناث .

                                                                                                                                            أو نقول : هو حجة في الجميع ، ولا فرض لولد الأب مع الجد ; لأنهم كلالة ، والكلالة اسم للوارث مع عدم الولد والوالد ، فلا يكون لهم معه إذا فرض . حجة أخرى ، قالوا : الجد أب ، فيحجب ولد الأب ، كالأب الحقيقي . ودليل كونه أبا قوله تعالى : { ملة أبيكم إبراهيم } وقول يوسف : { واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب } . وقوله : { كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق } وقال النبي : صلى الله عليه وسلم { ارموا بني إسماعيل ، فإن أباكم كان راميا . }

                                                                                                                                            وقال : { سام أبو العرب ، وحام أبو الحبش } . وقال : { نحن بني النضر بن كنانة ، لا نقفوا أمنا ، ولا ننفي من أبينا } . وقال الشاعر :

                                                                                                                                            إنا بني نهشل لا ندعي لأب عنه ولا هو بالأبناء يشرينا

                                                                                                                                            فوجب أن يحجب الإخوة ، كالأب الحقيقي ، يحقق هذا أن ابن الابن وإن سفل يقوم مقام أبيه في الحجب ، وكذلك أبو الأب يقوم مقام ابنه ; ولذلك قال ابن عباس ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ، ولا يجعل أبا الأب أبا . ولأن بينهما إيلادا وبعضية وجزئية ، وهو يساوي الأب في أكثر أحكامه ، فيساويه في هذا الحجب .

                                                                                                                                            يحققه أن أبا الأب وإن علا يسقط بني الإخوة ، ولو كانت قرابة الجد والأخ واحدة ، لوجب أن يكون أبو الجد مساويا لبني الأخ ، لتساوي درجة من أدليا به . والله أعلم . ولا تفريع على هذا القول لوضوحه . ( 4867 ) فصل : اختلف القائلون بتوريثهم معه في كيفية توريثهم ، فكان علي رضي الله عنه يفرض للأخوات فروضهن ، والباقي للجد ، إلا أن ينقصه ذلك من السدس ، فيفرضه له ، فإن كانت أخت لأبوين ، وإخوة لأب ، فرض للأخت النصف ، وقاسم الجد الإخوة فيما بقي ، إلا أن تنقصه المقاسمة من السدس ، فنفرضه له .

                                                                                                                                            فإن كان الإخوة كلهم عصبة ، قاسمهم الجد إلى السدس . فإن اجتمع ولد الأب وولد الأبوين مع الجد ، سقط ولد الأب ، ولم يدخلوا في المقاسمة ، ولا يعتد بهم . وإن انفرد ولد الأب ، قاموا مقام ولد الأبوين مع الجد . وصنع ابن مسعود في الجد مع الأخوات كصنع علي عليه السلام وقاسم به الإخوة إلى الثلث ، فإن كان معهم أصحاب فرائض ، أعطى أصحاب الفرائض فرائضهم ، ثم صنع صنيع زيد في إعطاء الجد الأحظ من المقاسمة أو ثلث الباقي أو سدس جميع المال ، وعلي يقاسم به بعد أصحاب الفرائض ، إلا أن يكون أصحاب [ ص: 197 ] الفرائض بنتا أو بنات فلا يزيد الجد على الثلث ، ولا يقاسم به .

                                                                                                                                            وقال بقول علي ، الشعبي ، والنخعي ، والمغيرة بن المقسم ، وابن أبي ليلى ، والحسن بن صالح . وذهب إلى قول ابن مسعود ، مسروق ، وعلقمة ، وشريح . وأما مذهب زيد فهو الذي ذكره الخرقي ، وسنشرحه إن شاء الله . وإليه ذهب أحمد . وبه قال أهل المدينة ، وأهل الشام ، والثوري ، والأوزاعي ، والنخعي ، والحجاج بن أرطاة ، ومالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وأبو عبيد ، وأكثر أهل العلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية