الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 199 ] ( 548 )

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وخمسمائة

ذكر انهزام سنجر من الغز ونهبهم خراسان وما كان منهم

في هذه السنة ، في المحرم ، انهزم السلطان سنجر من الأتراك الغز ، وهم طائفة من الترك مسلمون ، كانوا بما وراء النهر ، فلما ملك الخطا أخرجوهم منه ، كما ذكرنا ، فقصدوا خراسان ، وكانوا خلقا كثيرا فأقاموا بنواحي بلخ يرعون في مراعيها ، وكان لهم أمراء اسم أحدهم دينار ، والآخر بختيار ، والآخر طوطى ، والآخر أرسلان ، والآخر جغر ، والآخر محمود ، فأراد الأمير قماج ، وهو مقطع بلخ ، إبعادهم ، فصانعوه بشيء بذلوه له ، فعاد عنهم ، فأقاموا على حالة حسنة لا يؤذون أحدا ، ويقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة .

ثم إن قماج عاودهم وأمرهم بالانتقال عن بلده ، فامتنعوا ، وانضم بعضهم إلى بعض ، واجتمع معهم غيرهم من طوائف الترك ، فسار قماج إليهم في عشرة آلاف فارس ، فجاء إليه أمراؤهم وسألوه أن يكف عنهم ، ويتركهم في مراعيهم ، ويعطونه من كل بيت مائتي درهم فضة ، فلم يجبهم إلى ذلك ، وشدد عليهم في الانتزاح عن بلده ، فعادوا عنه ، واجتمعوا وقاتلوه ، فانهزم قماج ونهبوا ماله ومال عسكره ، وأكثروا القتل في العسكر والرعايا ، واسترقوا النساء والأطفال ، وعملوا كل عظيمة ، وقتلوا الفقهاء وخربوا المدارس .

وانتهت الهزيمة بقماج إلى مرو ، وبها السلطان سنجر ، فأعلمه الحال ، فراسلهم سنجر يتهددهم ، فأمرهم بمفارقة بلاده ، فاعتذروا ، وبذلوا بذلا كثيرا ليكف عنهم [ ص: 200 ] ويتركهم في مراعيهم ، فلم يجبهم إلى ذلك ، وجمع عساكره من أطراف البلاد ، واجتمع معه ما يزيد على مائة ألف فارس ، وقصدهم ووقع بينهم حرب شديدة ، فانهزمت عساكر سنجر ، وانهزم هو أيضا ، وتبعهم الغز قتلا وأسرا ، فصار قتلى العسكر كالتلال ، وقتل علاء الدين قماج ، وأسر [ السلطان سنجر وأسر ] معه جماعة من الأمراء ، [ فأما الأمراء ] فضربوا أعناقهم ، وأما السلطان سنجر ، فإن أمراء الغز اجتمعوا ، وقبلوا الأرض بين يديه ، وقالوا : نحن عبيدك لا نخرج عن طاعتك ، فقد علمنا أنك لم ترد قتالنا وإنما حملت عليه ، فأنت السلطان ونحن العبيد ; فمضى على ذلك شهران أو ثلاثة ، ودخلوا معه إلى مرو وهي كرسي ملك خراسان ، وطلبها منه بختيار إقطاعا ، فقال السلطان : هذه دار الملك ولا يجوز أن تكون إقطاعا لأحد . فضحكوا منه وحبق له بختيار بفمه ، فلما رأى ذلك نزل عن سرير الملك ودخل خانكان مرو وتاب عن الملك .

واستولى الغز على البلاد ، وظهر منهم من الجور ما لم يسمع بمثله ، وولوا على نيسابور واليا ، فسقط على الناس كثيرا وعسفهم وضربهم ، وعلق في الأسواق ثلاث غرائر ، وقال : أريد ملء هذه ذهبا ; فثار عليه العامة فقتلوه ومن معه ، فركب الغز ودخلوا نيسابور ونهبوها مجحفا ، وجعلوها قاعا صفصفا ، وقتلوا الكبار والصغار وأحرقوها ، وقتلوا القضاة والعلماء في البلاد كلها ، فممن [ قتل ] الحسين بن محمد الأرسابندي ، والقاضي علي بن مسعود ، والشيخ محمد بن يحيى .

وأكثر الشعراء في مراثي محمد بن يحيى ، فممن قال فيه علي بن إبراهيم الكاتب :


مضى الذي كان يجنى الدر من فيه يسيل بالفضل والإفضال واديه     مضى ابن يحيى الذي قد كان صوب
حيا لأبر شهر ومصباحا لداجيه     خلا خراسان من علم ومن ورع
لما نعاه إلى الآفاق ناعيه     لما أماتوه مات الدين وا أسفا
من ذا الذي بعد محيي الدين يحييه



[ ص: 201 ] ويتعذر وصف ما جرى منهم على تلك البلاد جميعها ، ولم يسلم من خراسان شيء لم تنهبه الغز غير هراة ودهستان ; لأنها كانت حصينة فامتنعت .

وقد ذكر بعض مؤرخي خراسان من أخبارهم ما فيه زيادة وضوح ، وقال : إن هؤلاء الغز قوم انتقلوا من نواحي الثغر من أقاصي الترك إلى ما وراء النهر في أيام المهدي ، وأسلموا ، واستنصر بهم المقنع صاحب المخاريق والشعبذة ، حتى تم أمره ، فلما سارت العساكر إليه خذله هؤلاء الغز وأسلموه ، وهذه عادتهم في كل دولة كانوا فيها ; وفعلوا مثل ذلك مع الملوك الخاقانية ، إلا أن الأتراك القارغلية قمعوهم ، وطردوهم عن أوطانهم ، فدعاهم الأمير زنكي بن خليفة الشيباني المستولي على حدود طخارستان إليه ، وأنزلهم بلاده ، وكانت بينه وبين الأمير قماج عداوة أحكمتها الأيام للمجاورة التي بينهما ، وكل منهما يريد أن يعلو على الآخر ويحكم عليه ، فتقوى بهم زنكي ، وساروا معه إلى بلخ لمحاربة قماج ، فكاتبهم قماج ، فمالوا إليه ، وخذلوا زنكي عند الحرب ، فأخذ زنكي وابنه أسيرين ، فقتل قماج ابن زنكي ، وجعل يطعم أباه لحمه ، ثم قتل الأب أيضا ، وأقطع قماج الغز مواضع ، وأباحهم مراعي بلاده .

فلما قام الحسين بن الحسين الغوري بغزنة وقصد بلخ خرج إليه قماج وعساكره ومعه الغز ، ففارقه الغز وانضموا إلى الغوري حتى ملك مدينة بلخ ، فسار السلطان سنجر إلى بلخ ، ففارقها الغوري بعد قتال انهزم منه ، ثم دخل على السلطان سنجر لعجزه عن مقاومته ، فرده إلى غزنة .

وبقي الغز بنواحي طخارستان وفي نفس قماج منهم الغيظ العظيم لما فعلوه معه ، فأراد صرفهم عن بلاده ، فتجمعوا ، وانضم إليهم طوائف من الترك ، وقدموا عليهم أرسلان بوقا التركي ، فجمع قماج عسكره ولقيهم فاقتتلوا يوما كاملا إلى الليل ، فانهزم قماج وعسكره ، وأسر هو وابنه أبو بكر فقتلوهما ، واستولوا على نواحي بلخ ، وعاثوا فيها وأفسدوا بالنهب والقتل والسلب .

[ ص: 202 ] وبلغ السلطان سنجر الخبر ، فجمع عساكره وسار إليهم ، فراسلوه يعتذرون ويتنصلون ، فلم يقبل عذرهم ، ووصل إليهم مقدمة السلطان ، وفيها محمد بن أبي بكر بن قماج المقتول ، والمؤيد أي أبه في المحرم من سنة ثمان وأربعين وخمسمائة ، ووصل بعدهم السلطان سنجر ، فالتقاه الغز بعد أن أرسلوا يعتذرون ويبذلون الأموال والطاعة والانقياد إلى كل ما يؤمرون به ، فلم يقبل سنجر ذلك منهم ، وسار إليهم ، فلقوه وقاتلوه وصبروا له ، ودام قتالهم ، فانهزم عسكر سنجر ، وهو معهم ، فتوجهوا إلى بلخ على أقبح صورة ، وتبعهم الغز ، واقتتلوا مرة ثانية ، فانهزم السلطان سنجر أيضا ، ومضى منهزما إلى مرو في صفر من السنة ، فقصد الغز إليها ، فلما سمع العسكر الخراساني بقربهم منهم أجفلوا من بين أيديهم هاربين لما دخل قلوبهم من خوفهم والرعب منهم ، فلما فارقها السلطان والعسكر دخلها الغز ونهبوها أفحش نهب وأقبحه ، وذلك في جمادى الأولى من السنة ، وقتل بها كثير من أهلها وأعيانها ، منهم قاضي القضاة الحسن بن محمد الأرسابندي ، والقاضي علي بن مسعود من الأئمة العلماء .

ولما خرج سنجر من مرو قصد إندرابة وأخذه الغز أسيرا ، وأجلسوه على تخت السلطنة على عادته ، وقاموا بين يديه ، وبذلوا له طاعة ، ثم عاودوا الغارة على مرو في رجب من السنة ، فمنعهم أهلها ، وقاتلوهم قتالا بذلوا فيه جهدهم وطاقتهم ، ثم إنهم عجزوا ، فاستسلموا إليهم ، فنهبوها أقبح من النهب الأول ولم يتركوا بها شيئا .

وكان قد فارق سنجر جميع أمراء خراسان ووزيره طاهر بن فخر الملك ابن نظام الملك ، ولم يبق عنده غير نفر يسير من خواصه وخدمه ; فلما وصلوا إلى نيسابور أحضروا الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد ، فوصل إلى نيسابور تاسع عشر جمادى الآخرة من السنة ، فاجتمعوا عليه ، وخطبوا له بالسلطنة ، وسار في هذا الشهر جماعة من العسكر السلطاني إلى طائفة كثيرة من الغز ، فأوقعوا بهم ، وقتلوا منهم كثيرا ، وانهزم الباقون إلى أمرائهم الغزية فاجتمعوا معهم .

ولما اجتمعت العساكر على الملك سليمان شاه ساروا إلى مرو يطلبون الغز ، فبرز الغز إليهم ، فساعة رآهم العسكر الخراساني انهزموا وولوا على أدبارهم ، [ ص: 203 ] وقصدوا نيسابور ، وتبعهم الغز ، فمروا بطوس ، وهي معدن العلماء والزهاد ، فنهبوها ، وسبوا نساءها ، وقتلوا رجالها ، وخربوا مساجدها ومساكن أهلها ، ولم يسلم من جميع ولاية طوس إلا البلد الذي فيه مشهد علي بن موسى الرضى ، ومواضع أخر يسيرة لها أسوار .

وممن قتل من أعيان أهلها إمامها محمد المارشكي ، ونقيب العلويين بها علي الموسوي ، وخطيبها إسماعيل بن المحسن ، وشيخ شيوخها محمد بن محمد ، وأفنوا من بها من الشيوخ الصالحين .

وساروا منها إلى نيسابور ، فوصلوا إليها في شوال سنة تسع وأربعين [ وخمسمائة ] ، ولم يجدوا دونها مانعا ولا مدافعا ، فنهبوها نهبا ذريعا ، وقتلوا أهلها ، فأكثروا حتى ظنوا أنهم لم يبقوا بها أحدا ، حتى إنه أحصي في محلتين خمسة عشر ألف قتيل من الرجال دون النساء والصبيان ، وسبوا نساءها وأطفالها ، وأخذوا أموالهم ، وبقي القتلى في الدروب كالتلال بعضهم فوق بعض ، واجتمع أكثر أهلها بالجامع المنيعي وتحصنوا به ، فحصرهم الغز فعجز أهل نيسابور عن منعهم ، فدخل الغز إليهم فقتلوهم عن آخرهم ، وكانوا يطلبون من الرجل المال ، فإذا أعطاهم الرجل ماله قتلوه ، وقتلوا كثيرا من أئمة العلماء والصالحين منهم محمد بن يحيى الفقيه الشافعي الذي لم يكن في زمانه مثله ، كان رحلة الناس من أقصى الغرب والشرق إليه ، ورثاه جماعة من العلماء ، منهم أبو الحسن علي بن أبي القاسم البيهقي فقال :


يا سافكا دم عالم متبحر قد     طار في أقصى الممالك صيته
بالله قل لي يا ظلوم ولا تخف     من كان يحيي الدين كيف تميته



ومنهم الزاهد عبد الرحمن بن عبد الصمد الأكاف ، وأحمد بن الحسين الكاتب سبط القشيري ، وأبو البركات الفراوي ، والإمام علي الصباغ المتكلم ، وأحمد بن محمد بن حامد وعبد الوهاب الملقاباذي والقاضي صاعد بن عبد الملك بن صاعد ، والحسن بن عبد الحميد الرازي ، وخلق كثير من الأئمة والزهاد والصالحين ، وأحرقوا ما بها من خزائن الكتب ولم يسلم إلا بعضها .

[ ص: 204 ] وحصروا شارستان ، وهي منيعة ، فأحاطوا بها ، وقاتلهم من فوق سورها ، وقصدوا جوين فنهبوها ، وقاتلهم أهل بحراباذ من أعمال جوين ، وبذلوا نفوسهم لله تعالى ، وحموا بيضتهم والباقي أتى النهب والقتل عليه ; ثم قصدوا أسفرايين فنهبوها وخربوها ، وقتلوا في أهلها فأكثروا .

وممن قتل عبد الرشيد الأشعثي ، وكان من أعيان دولة السلطان ، فتركها وأقبل على الاشتغال بالعلم وطلب الآخرة ، وأبو الحسن الفندروجي ، وكان من ذوي الفضائل لا سيما في علم الأدب .

ولما فرغ الغز من جوين وأسفرايين عاودوا نيسابور ، فنهبوا ما بقي فيها بعد النهب الأول ، وكان قد لحق بشهرستان كثير من أهلها ، فحصرهم الغز واستولوا عليها ، ونهبوا ما كان فيها لأهلها ولأهل نيسابور ، ونهبوا الحرم والأطفال ، وفعلوا ما لم يفعله الكفار مع المسلمين ، وكان العيارون أيضا ينهبون نيسابور أشد من نهب الغز ويفعلون أقبح من فعلهم .

ثم إن أمر الملك سليمان شاه ضعف ، وكان قبيح السيرة سيئ التدبير ، وإن وزيره طاهر بن فخر الملك ابن نظام الملك توفي في شوال سنة ثمان وأربعين [ وخمسمائة ] فضعف أمره ، واستوزر سليمان شاه بعده ابنه نظام الملك أبا علي الحسن بن طاهر ، وانحل أمر دولته بالكلية ، ففارق خراسان في صفر سنة تسع وأربعين [ وخمسمائة ] وعاد إلى جرجان ، فاجتمع الأمراء وراسلوا الخان محمود بن محمد بن بغراخان ، وهو ابن أخت السلطان سنجر ، وخطبوا له على منابر خراسان واستدعوه إليهم ، فملكوه أمورهم ، وانقادوا له في شوال سنة تسع وأربعين وخمسمائة ، وساروا معه إلى الغز وهم يحاصرون هراة ، وجرت بينهم حروب كان الظفر في أكثرها للغز ، ورحلوا في جمادى الأولى من سنة خمسين وخمسمائة من على هراة إلى مرو وعاودوا المصادرة لأهلها .

وسار خاقان محمود بن محمد إلى نيسابور وقد غلب عليها المؤيد ، على ما نذكره ، وراسل الغز في الصلح ، فاصطلحوا في رجب من سنة خمسين وخمسمائة ، [ ص: 205 ] هدنة على دخن ، وسيرد باقي أخبارهم سنة اثنتين وخمسين .

التالي السابق


الخدمات العلمية