الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ملك لخيعة

[ ص: 388 ] فلما هلك عمرو وتفرقت حمير ، وثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت المملكة يقال له : لخيعة نوف ذو شناتر فملكهم ، في قول ابن إسحاق ، فقتل خيارهم وعبث ببيوت أهل المملكة منهم ، وكان امرأ فاسقا يزعمون أنه كان يعمل عمل قوم لوط ، فكان إذا سمع بغلام من أبناء الملوك أنه قد بلغ ، أرسل إليه فوقع عليه في مشربة لئلا يملك بعد ذلك ، ثم يطلع إلى حرسه وجنده قد أخذ سواكا في فيه يعلمهم أنه قد فرغ منه ، ثم يخلي سبيله فيفضحه .

ذكر ملك ذي نواس وقصة أصحاب الأخدود

كان من أبناء الملوك زرعة ذو نواس بن تبان أسعد بن كرب ، وكان صغيرا حين أصيب أخوه حسان ، فشب غلاما جميلا ذا هيئة ، فبعث إليه لخيعة ليفعل به ما كان يفعل بغيره ، فأخذ سكينا لطيفا فجعله بين نعله وقدمه ، ثم انطلق إليه مع رسوله ، فلما خلا به في المشربة قتله ذو نواس بالسكين ثم احتز رأسه فجعله في كوة مشربته التي يطلع منها ، [ ص: 389 ] ثم أخذ سواكه فجعله في فيه ، ثم خرج ، فقالوا له : ذو نواس أرطب أم يباس ؟ فقال : سل نخماس ، است رطبان ذو نواس لا باس .

فذهبوا ينظرون حين قال لهم ما قال ، فإذا رأس لخيعة مقطوع ، فخرجت حمير والحرس في أثر ذي نواس حتى أدركوه فملكوه حيث أراحهم من لخيعة ، واجتمعوا عليه ، وكان يهوديا ، وبنجران بقايا من أهل دين عيسى ابن مريم على استقامة ، لهم رئيس يقال له عبد الله بن الثامر ، وكان أصل النصرانية بنجران .

قال وهب بن منبه : إن رجلا من بقايا أهل دين عيسى يقال له فيميون ، وكان رجلا صالحا مجتهدا زاهدا في الدنيا مجاب الدعوة ، وكان سائحا لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى غيرها ، وكان لا يأكل إلا من كسب يده ، وكان يعمل الطين ، ويعظم الأحد لا يعمل فيه شيئا ، ويخرج إلى الصحراء يصلي جميع نهاره ، فنزل قرية من قرى الشام يعمل عمله ذلك مستخفيا ، ففطن به رجل اسمه صالح فأحبه حبا شديدا ، وكان يتبعه حيث ذهب لا يفطن به فيميون ، حتى خرج مرة يوم الأحد إلى الصحراء واتبعه صالح ، وفيميون لا يعلم . فجلس صالح منه منظر العين مستخفيا ، وقام فيميون يصلي ، فبينما هو يصلي إذ أقبل نحوه تنين ، فلما رآه فيميون دعا عليه فمات ، ورآه صالح ولم يدر ما أصابه ، فخاف على فيميون فصاح يا فيميون ، التنين قد أقبل نحوك ! فلم يلتفت إليه وأقبل على صلاته حتى أمسى ، وعرف أن صالحا عرفه ، فكلمه صالح وقال له : يعلم الله أنني ما أحببت شيئا حبك قط ، وقد أردت صحبتك حيثما كنت . قال : افعل . فلزمه صالح .

وكان إذا ما جاءه العبد به ضر شفي إذا دعا له ، وإذا دعي إلى أحد به ضر لم يأته . وكان لرجل من أهل القرية ابن ضرير ، فجعل ابنه في حجرة ألقى عليه ثوبا ثم قال لفيميون : قد أردت أن تعمل في بيتي عملا ، فانطلق إليه لأشارطك عليه ، فانطلق معه ، فلما [ ص: 390 ] دخل الحجرة ألقى الرجل الثوب عن ابنه ، وطلب إليه أن يدعو له ، فدعا له فأبصر .

وعرف فيميون أنه قد عرف بالقرية ، فخرج هو وصالح ومر بشجرة عظيمة بالشام . فناداه رجل وقال : ما زلت أنتظرك ، لا تبرح حتى تقوم علي فإني ميت ، قال : فمات ، فواراه فيميون وانصرف ومعه صالح ، حتى وطئا بعض أرض العرب ، وأخذهما بعض العرب فباعوهما بنجران ، وأهل نجران على دين العرب تعبد نخلة طويلة بين أظهرهم ، لها عيد كل سنة ، إذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وحلي جميل ، فعكفوا عليها يوما ، فابتاع رجل من أشرافهم فيميون ، وابتاع رجل آخر صالحا ، فكان فيميون إذا قام من الليل يصلي في بيته ، استسرج له البيت حتى يصبح من غير مصباح . فلما رأى سيده ذلك أعجبه ، فسأله عن دينه فأخبره ، وعاب دين سيده . وقال له : لو دعوت إلهي الذي أعبد لأهلك النخلة . فقال : افعل فإنك إن فعلت دخلنا في دينك وتركنا ما نحن عليه . فصلى فيميون ودعا الله تعالى ، فأرسل الله عليها ريحا فجففتها وألقتها ، فاتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه ، فحملهم على شريعة من دين عيسى ودخل عليهم بعد ذلك الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض . فمن هنالك كان أصل النصرانية بنجران .

وقال محمد بن كعب القرظي : كان أهل نجران يعبدون الأوثان ، وكان في قرية من قراها ساحر ، كان أهل نجران يرسلون أولادهم يعلمهم السحر فلما نزلها فيميون ، وهو رجل كان يعبد الله على دين عيسى ابن مريم - عليه السلام - فإذا عرف في قرية خرج منها إلى غيرها ، وكان مجاب الدعوة يبرئ المرضى ، وله كرامات ، فوصلنجران فسكن خيمة بين نجران وبين الساحر ، فأرسل الثامر ابنه عبد الله مع الغلمان إلى الساحر ، فاجتاز بفيميون فرأى ما أعجبه من صلاته ، فجعل يجلس إليه ويستمع منه ، فأسلم معه ووحد الله تعالى وعبده ، وجعل يسأله عن الاسم الأعظم وكان يعلمه فكتمه إياه وقال : لن تحتمله ، والثامر يعتقد أن ابنه يختلف إلى الساحر مع الغلمان . فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن عليه بالاسم الأعظم عمد إلى قداح فكتب عليها أسماء الله جميعها ، ثم ألقاها في النار واحدا واحدا ، حتى إذا ألقى القدح الذي عليه الاسم الأعظم وثب منها فلم تضره شيئا ، [ ص: 391 ] فأخذه وعاد إلى صاحبه فأخبره الخبر ، فقال له : أمسك على نفسك ، وما أظن أن تفعل ، فكان عبد الله لا يلقى أحدا إذا أتى نجران به ضر إلا قال : يا عبد الله أتدخل في ديني حتى أدعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء ؟ فيقول : نعم ، فيوحد الله ويسلم ، ويدعو له عبد الله فيشفى ، حتى لم يبق أحد من أهل نجران ممن به ضر إلا أتاه واتبعه ودعا له فعوفي .

فرفع شأنه إلى ملك نجران ، فدعاه فقال له : أفسدت علي أهل قريتي وخالفت ديني ، لأمثلن بك ! فقال : لا تقدر على ذلك . فجعل يرسله إلى الجبل الطويل فيلقى من رأسه فيقع على الأرض ليس به بأس ، فأرسله إلى مياه نجران ، وهي بحور لا يقع فيها شيء إلا هلك ، فيلقى فيها فيخرج ليس به بأس . فلما غلبه قال عبد الله بن الثامر : إنك لا تقدر على قتلي حتى توحد الله وتؤمن كما آمنت ، فإنك إذا فعلت قتلتني . فوحد الله الملك ، ثم ضربه بعصا بيده فشجه شجة غير كبيرة فقتله ، فهلك الملك مكانه ، واجتمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر .

قال : فسار إليهم ذو نواس بجنوده ، فجمعهم ثم دعاهم إلى اليهودية وخيرهم بينها وبين القتل ، فاختاروا القتل ، فخد لهم الأخدود ، فحرق بالنار وقتل بالسيف ، حتى قتل قريبا من عشرين ألفا .

وقال ابن عباس : كان بنجران ملك من ملوك حمير يقال له : ذو نواس واسمه يوسف بن شرحبيل ، وكان قبل مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبعين سنة ، وكان له ساحر حاذق . فلما كبر قال للملك : إني كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر ، فبعث إليه غلاما اسمه عبد الله بن الثامر ليعلمه ، فجعل يختلف إلى الساحر ، وكان في طريقه راهب حسن القراءة ، فقعد إليه الغلام ، فأعجبه أمره ، فكان إذا جاء إلى المعلم يدخل إلى الراهب فيقعد عنده ، فإذا جاء من عنده إلى المعلم ضربه وقال له : ما الذي حبسك ؟ وإذا انقلب إلى أبيه دخل إلى الراهب فيضربه أبوه ويقول : ما الذي أبطأ بك ؟ فشكا الغلام ذلك إلى الراهب ، فقال له : إذا أتيت المعلم فقل حبسني أبي ، وإذا أتيت أباك فقل حبسني المعلم .

وكان في ذلك البلد حية عظيمة قطعت طريق الناس ، فمر بها الغلام فرماها بحجر [ ص: 392 ] فقتلها ، وأتى الراهب فأخبره . فقال له الراهب : إن لك لشأنا ، وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدلن علي . وصار الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويشفي الناس .

وكان للملك ابن عم أعمى ، فسمع بالغلام وقتل الحية فقال : ادع الله أن يرد علي بصري . فقال الغلام : إن رد الله عليك بصرك تؤمن به ؟ قال : نعم . قال : اللهم إن كان صادقا فاردد عليه بصره ، فعاد إليه بصره ، ثم دخل على الملك ، فلما رآه تعجب منه وسأله ، فلم يخبره ، وألح عليه فدله على الغلام ، فجيء به ، فقال له : لقد بلغ من سحرك ما أرى . فقال : أنا لا أشفي أحدا إنما يشفي الله من يشاء ، فلم يزل يعذبه حتى دله على الراهب ، فجيء به ، فقال له : ارجع عن دينك ، فأبى ، فأمر به فوضع المنشار على رأسه فشق بنصفين ، ثم قال للغلام : ارجع عن دينك ، فأبى ، فأرسله إلى جبل فقال : اللهم اكفنيهم ! فرجف بهم الجبل وهلكوا .

ورجع الغلام إلى الملك ، فسأله عن أصحابه ، فقال : كفانيهم الله . فغاظه ذلك وأرسله في سفينة إلى البحر ليلقوه فيه ، فذهبوا به ، فقال : اللهم اكفنيهم ! فغرقوا ونجا ، وجاء إلى الملك فقال : اقتلوه بالسيف ، فضربوه فنبا عنه . وفشا خبره في اليمن ، فأعظمه الناس وعلموا أنه على الحق ، فقال الغلام للملك : إنك لن تقدر على قتلي إلا أن تجمع أهل مملكتك وترميني بسهم وتقول : بسم الله رب الغلام . ففعل ذلك فقتله . فقال الناس : آمنا برب الغلام ! فقيل للملك : قد نزل بك ما تحذر . فأغلق أبواب المدينة وخد أخدودا وملأه نارا وعرض الناس ، فمن رجع عن دينه تركه ، ومن لم يرجع ألقاه في الأخدود فأحرقه .

وكانت امرأة مؤمنة ، وكان لها ثلاث بنين ، أحدهم رضيع ، فقال لها الملك : ارجعي وإلا قتلتك أنت وأولادك ، فأبت ، فألقى ابنيها الكبيرين ، فأبت ، ثم أخذ الصغير ليلقيه فهمت بالرجوع . قال لها الصغير : يا أماه لا ترجعي عن دينك ، لا بأس عليك ! فألقاه وألقاها في أثره ، وهذا الطفل أحد من تكلم صغيرا .

قيل : حفر رجل خربة بنجران في زمن عمر بن الخطاب ، فرأى عبد الله بن الثامر واضعا يده على ضربة في رأسه ، فإذا رفعت عنها يده جرت دما ، وإذا أرسلت يده ردها إليها وهو قاعد ، فكتب فيه إلى عمر ، فأمر بتركه على حاله .

التالي السابق


الخدمات العلمية