الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 266 ] ذكر الأحداث أيام ملوك الطوائف ، فمن ذلك ذكر المسيح عيسى ابن مريم ، ويحيى بن زكرياء عليه السلام

إنما جمعنا هذين الأمرين العظيمين في هذه الترجمة لتعلق أحدهما بالآخر ، فنقول كان عمران بن ماثان من ولد سليمان بن داود ، وكان آل ماثان رءوس بني إسرائيل وأحبارهم ، وكان متزوجا بحنة بنت فاقود ، وكان زكرياء بن برخيا متزوجا بأختها إيشاع ، وقيل : كانت إيشاع أخت مريم بنت عمران ، وكانت حنة قد كبرت وعجزت ولم تلد ولدا ، فبينما هي في ظل شجرة أبصرت طائرا يزق فرخا له فاشتهت الولد فدعت الله أن يهب لها ولدا ونذرت إن يرزقها ولدا أن تجعله من سدنة بيت المقدس وخدمه ، فحررت ما في بطنها ، ولم تعلم ما هو ، وكان النذر المحرر عندهم أن يجعل للكنيسة يقوم بخدمتها ولا يبرح منها حتى يبلغ الحلم ، فإذا بلغ خير ، فإن أحب أن يقيم فيها أقام ، وإن أحب أن يذهب ذهب حيث شاء . ولم يكن يحرر إلا الغلمان ، لأن الإناث لا يصلحن لذلك لما يصيبهن من الحيض والأذى .

ثم هلك عمران وحنة حامل بمريم ، فلما وضعتها إذا [ هي ] أنثى فقالت عند ذلك رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى في [ ص: 267 ] خدمة الكنيسة والعباد الذين فيها ، وإني سميتها مريم ، وهي بلغتهم العبادة .

ثم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون ، وهم يلون من بيت المقدس ما يلي بنو شيبة من الكعبة . فقالت : دونكم هذه المنذورة فتنافسوا فيها لأنها بنت إمامهم وصاحب قربانهم . فقال زكرياء : أنا أحق بها لأن خالتها عندي . فقالوا لكنا نقترع عليها . فألقوا أقلامهم في نهر جار ، قيل هو نهر الأردن ، فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة ، فارتفع قلم زكرياء فوق الماء ورسبت أقلامهم ، فأخذها وكفلها وضمها إلى خالتها أم يحيى واسترضع لها حتى كبرت ، فبنى لها غرفة في المسجد لا يرقى إليها إلا بسلم ولا يصعد إليها غيره ، وكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء ، فيقول : أنى لك هذا ؟ فتقول : هو من عند الله . فلما رأى زكرياء ذلك منها دعا الله تعالى ورجا الولد حيث رأى فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ، فقال : إن الذي فعل هذا بمريم قادر على أن يصلح زوجتي حتى تلد . فـ قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء .

فبينما هو يصلي في المذبح الذي لهم إذا هو برجل شاب ، وهو جبرائيل ، ففزع زكرياء منه ، فقال له : أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله ، يعني عيسى ابن مريم - عليه السلام - ويحيى أول من آمن بعيسى وصدقه ، وذلك أن أمه كانت حاملا به فاستقبلت مريم وهي حامل بعيسى فقالت لها : يا مريم أحامل أنت ؟ فقالت : لماذا تسأليني ؟ فقالت إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك ، فذلك تصديقه .

وقيل : صدق المسيح - عليه السلام - وله ثلاث سنين ، وسماه الله تعالى [ يحيى ] ولم يكن قبله من تسمى هذا الاسم ، قال الله تعالى : لم نجعل له من قبل سميا . وقال تعالى : وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا . قيل : أوحش ما يكون ابن آدم في هذه الأيام الثلاثة ، فسلمه الله تعالى من وحشتها ، وإنما ولد يحيى قبل المسيح بثلاث سنين ، وقيل بستة أشهر ، وكان لا يأتي [ ص: 268 ] النساء ، ولا يلعب مع الصبيان .

قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر ؟ وكان عمره اثنتين وتسعين سنة ، وقيل : مائة وعشرين سنة ، وكانت امرأته ابنة ثمان وتسعين سنة . فقيل له : كذلك الله يفعل ما يشاء . وإنما قال ذلك استخبارا هل يرزق الولد من امرأته العاقر أم غيرها ، لا إنكارا لقدرة الله تعالى . قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا . قال : أمسك الله لسانه عقوبة لسؤاله الآية ، والرمز الإشارة .

فلما ولد رآه أبوه حسن الصورة ، قليل الشعر ، قصير الأصابع ، مقرون الحاجبين ، دقيق الصوت ، قويا في طاعة الله مذ كان صبيا ، قال الله تعالى : وآتيناه الحكم صبيا .

قيل : إنه قال له يوما الصبيان أمثاله : يا يحيى اذهب بنا نلعب . فقال لهم : ما للعب خلقت . وكان يأكل العشب وأوراق الشجر ، وقيل كان يأكل خبز الشعير ، ومر به إبليس ومعه رغيف شعير فقال : أنت تزعم أنك زاهد وقد ادخرت رغيف شعير ؟ فقال يحيى : يا ملعون هو القوت ، فقال إبليس : إن الأقل من القوت يكفي لمن يموت . فأوحى الله إليه : اعقل ما يقول لك .

ونبئ صغيرا فكان يدعو الناس إلى عبادة الله ، ولبس الشعر ، فلم يكن له دينار ولا درهم ولا مسكن يسكن إليه ، أينما جنه الليل أقام ، ولم يكن له عبد ولا أمة ، واجتهد في العبادة ، فنظر يوما إلى بدنه وقد نحل فبكى ، فأوحى الله إليه يا يحيى أتبكي لما نحل من جسمك ؟ وعزتي وجلالي لو اطلعت في النار اطلاعة لتدرعت الحديد عوض الشعر ! فبكى حتى أكلت الدموع لحم خديه وبدت أضراسه للناظرين . فبلغ ذلك أمه فدخلت عليه وأقبل زكرياء ومعه الأحبار فقال : يا بني ما يدعوك إلى هذا ؟ قال : أنت أمرتني بذلك حيث قلت : إن بين الجنة والنار عقبة لا يجوزها إلا الباكون من خشية [ ص: 269 ] الله . فقال : فابك واجتهد إذن . فصنعت له أمه قطعتي لبد على خديه تواريان أضراسه ، فكان يبكي حتى يبلهما ، وكان زكرياء إذا أراد يعظ الناس نظر فإن كان يحيى حاضرا لم يذكر جنة ولا نارا .

وبعث الله عيسى رسولا نسخ بعض أحكام التوراة ، فكان مما نسخ أنه حرم نكاح بنت الأخ ، وكان لملكهم - واسمه هيرودس - بنت أخ تعجبه يريد أن يتزوجها ، فنهاه يحيى عنها ، وكان لها كل يوم حاجة يقضيها لها فلما بلغ ذلك أمها قالت لها : إذا سألك الملك ما حاجتك فقولي أن تذبح يحيى بن زكرياء . فلما دخلت عليه وسألها ما حاجتك ؟ قالت : أريد أن تذبح يحيى بن زكرياء . فقال : اسألي غير هذا . قالت : ما أسألك غيره . فلما أبت دعا بيحيى ودعا بطست فذبحه ، فلما رأت الرأس قالت : اليوم قرت عيني ! فصعدت إلى سطح قصرها فسقطت منه إلى الأرض ولها كلاب ضارية تحته ، فوثبت الكلاب عليها وأكلتها وهي تنظر ، وكان آخر ما أكل منها عيناها لتعتبر . فلما قتل بذرت قطرة من دمه على الأرض ، فلم تزل تغلي حتى بعث الله بختنصر عليهم فجاءته امرأة فدلته على ذلك الدم ، فألقى الله في قلبه أن يقتل منهم على ذلك الدم حتى يسكن ، فقتل منهم سبعين ألفا حتى سكن الدم .

وقال السدي نحو هذا ، غير أنه قال : أراد الملك أن يتزوج بنت امرأة له ، فنهاه يحيى عن ذلك ، فطلبت المرأة من الملك قتل يحيى ، فأرسل إليه فقتله وأحضر رأسه في طست وهو يقول له : لا تحل لك ، فبقي دمه يغلي ، فطرح عليه تراب حتى بلغ سور المدينة ، فلم يسكن الدم . فسلط الله عليهم بختنصر في جمع عظيم فحصرهم فلم يظفر بهم ، فأراد الرجوع فأتته امرأة من بني إسرائيل فقالت : بلغني أنك تريد العود ! قال : نعم ، قد طال المقام وجاع الناس وقلت الميرة بهم وضاق عليهم ، فقالت : إن فتحت لك المدينة أتقتل من آمرك بقتله وتكف إذا أمرتك ؟ قال : نعم . قالت : اقسم جندك أربعة أقسام على نواحي المدينة ، ثم ارفعوا أيديكم إلى السماء وقولوا : اللهم إنا نستفتحك على دم يحيى بن زكرياء ، ففعلوا ، فخرب سور المدينة ، فدخلوها ، فأمرتهم العجوز أن يقتلوا على دم يحيى بن زكرياء حتى يسكن ، فلم يزل يقتل حتى قتل سبعين [ ص: 270 ] ألفا وسكن الدم ، فأمرته بالكف ، وكف .

وخرب بيت المقدس ، وأمر أن تلقى فيه الجيف ، وعاد ومعه دانيال وغيره من وجوه بني إسرائيل ، منهم عزريا ، وميشائيل ، ورأس الجالوت . فكان دانيال أكرم الناس عليه ، فحسدهم المجوس وسعوا بهم إلى بختنصر ، وذكر نحو ما تقدم من إلقائهم إلى السبع ونزول الملك عليهم ومسخ بختنصر ومقامه في الوحش سبع سنين .

وهذا القول وما لم نذكره من الروايات من أن بختنصر هو الذي خرب بيت المقدس ، وقتل بني إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكرياء باطل عند أهل السير والتاريخ وأهل العلم بأمور الماضين ، وذلك أنهم أجمعين مجمعون على أن بختنصر غزا بني إسرائيل عند قتلهم نبيهم شعيا في عهد إرميا بن حلقيا ، وبين عهد إرميا وقتل يحيى أربعمائة سنة وإحدى وستون سنة عند اليهود والنصارى ، ويذكرون أن ذلك في كتبهم وأسفارهم مبين ، وتوافقهم المجوس في مدة غزو بختنصر بني إسرائيل إلى موت الإسكندر ، وتخالفهم في مدة ما بين موت الإسكندر ومولد يحيى ، فيزعمون أن مدة ذلك كانت إحدى وخمسين سنة .

وأما ابن إسحاق فإنه قال : الحق أن بني إسرائيل عمروا بيت المقدس بعد مرجعهم من بابل وكثروا ، ثم عادوا يحدثون الأحداث ويعود الله سبحانه عليهم ويبعث فيهم الرسل ، ففريقا يكذبون وفريقا يقتلون ، حتى كان آخر من بعث الله فيهم زكرياء وابنه يحيى وعيسى ابن مريم - عليهم السلام - فقتلوا يحيى وزكرياء ، فابتعث [ ص: 271 ] الله عليهم ملكا من ملوك بابل يقال له جودرس ، فسار إليهم حتى دخل عليهم الشام ، فلما دخل عليهم بيت المقدس قال لقائد عظيم من عسكره اسمه نبوزاذان ، وهو صاحب الفيل : إني كنت حلفت لئن أنا ظفرت ببني إسرائيل لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري إلى أن أجد من لا أقتله ، وأمره أن يدخل المدينة ويقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم ، فدخل نبوزاذان المدينة فأقام في المدينة التي يقربون فيها قربانهم ، فوجد فيها دما يغلي ، فقال : يا بني إسرائيل ، ما شأن هذا الدم يغلي ؟ فقالوا : هذا دم قربان لنا لم يقبل فلذلك هو يغلي . فقال : ما صدقتموني الخبر ! فقالوا : إنه قد انقطع منا الملك والنبوة فلذلك لم يقبل منا . فذبح منهم على ذلك الدم سبعمائة وسبعين رجلا من رءوسهم ، فلم يهدأ ، فأمر بسبعمائة من علمائهم فذبحوا على الدم ، فلم يهدأ . فلما رأى الدم لا يبرد قال لهم : يا بني إسرائيل اصدقوني واصبروا على أمر ربكم ، فقد طال ما ملكتم في الأرض تفعلون ما شئتم ، قبل أن لا أدع منكم نافخ نار أنثى ولا ذكرا إلا قتلته .

فلما رأوا الجهد وشدة القتل صدقوه الخبر وقالوا : هذا [ دم ] نبي كان ينهانا عن كثير مما يسخط الله ، ويخبرنا بخبركم ، فلم نصدقه ، وقتلناه فهذا دمه . فقال : ما كان اسمه ؟ قالوا : يحيى بن زكرياء . قال : الآن صدقتموني ، لمثل هذا انتقم ربكم منكم ، وخر ساجدا ، وقال لمن حوله : أغلقوا أبواب المدينة ، وأخرجوا من ههنا من جيش جودرس . ففعلوا ، وخلا في بني إسرائيل ثم قال للدم : يا يحيى ، قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم ، فاهدأ بإذن الله قبل أن لا يبقى من قومك أحد . فسكن الدم ، ورفع نبوزاذان القتل ، وقال : آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل وصدقت به وأيقنت أنه لا رب غيره . ثم قال لبني إسرائيل : إن جودرس أمرني أن [ ص: 272 ] أقتل فيكم حتى تسيل دماؤكم في عسكره ، ولست أستطيع أن أعصيه . قالوا : افعل . فأمرهم أن يحفروا حفيرة ، وأمر بالخيل ، والبغال ، والحمير ، والبقر ، والغنم ، والإبل فذبحها حتى كثر الدم وأجرى عليه ماء ، فسار الدم في العسكر ، فأمر بالقتلى الذين كان قتلهم ، فألقوا فوق المواشي ، فلما نظر جودرس إلى الدم قد بلغ عسكره أرسل إلى نبوزاذان : أن ارفع القتل عنهم فقد انتقمت منهم بما فعلوا .

وهي الوقعة الأخيرة التي أنزل الله ببني إسرائيل ، يقول الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ، و " عسى " [ وعد ] من الله حق .

وكانت الوقعة الأولى بختنصر وجنوده ، ثم رد الله سبحانه لهم الكرة ، ثم كانت الوقعة الأخيرة جودرس وجنوده ، وكانت أعظم الوقعتين ، فبها كان خراب بلادهم وقتل رجالهم وسبي ذراريهم ونسائهم ، يقول الله تعالى : وليتبروا ما علوا تتبيرا .

وزعم بعض أهل العلم أن قتل يحيى كان أيام أردشير بن بابك ، وقيل : كان قتله قبل رفع المسيح - عليه السلام - بسنة ونصف ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية