الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 233 ] 119

ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائة

ذكر قتل خاقان

لما دخل أسد الختل كتب ابن السايجي إلى خاقان ، وهو بنواكث ، يعلمه دخول أسد الختل ، وتفرق جنوده فيها ، وأنه بحال مضيعة ، فلما أتاه كتابه أمر أصحابه بالجهاز وسار ، فلما أحس ابن السايجي بمجيء خاقان بعث إلى أسد : اخرج عن الختل فإن خاقان قد أظلك . فشتم الرسول ولم يصدقه .

فبعث ابن السايجي : إني لم أكذبك ، وأنا الذي أعلمته دخولك وتفرق عسكرك ، وأنها فرصة له ، وسألته المدد ، فإن لقيك على هذه الحال ظفر بك ، وعادتني العرب أبدا ما بقيت ، واستطال علي خاقان واشتدت مئونته ، وقال : أخرجت العرب من بلادك ، ورددت عليك ملكك .

فعرف أسد أنه قد صدقه ، فأمر بالأثقال أن تقدم ، وجعل عليها إبراهيم بن عاصم العقيلي وأخرج معه المشيخة ، فسارت الأثقال ومعها أهل الصغانيان وصغان خذاه ، وأقبل أسد من الختل نحو جبل الملح يريد [ أن ] يخوض نهر بلخ ، وقد قطع إبراهيم بن عاصم بالسبي وما أصابوا ، وأشرف أسد على النهر فأقام يومه ، فلما كان الغد عبر النهر في مخاضة ، وجعل الناس يعبرون ، فأدركهم خاقان فقتل من لم يقطع النهر ، وكانت المسلحة على الأزد وتميم ، فقاتلوا خاقان وانكشفوا .

وأقبل خاقان وظن المسلمون أنه لا يعبر إليهم النهر ، فلما نظر خاقان إلى النهر أمر الترك بعبوره ، فعبروه ، ودخل المسلمون عسكرهم وأخذ الترك ما رأوه خارجا ، وخرج الغلمان فضاربوهم بالعمد فعادوا ، وبات أسد والمسلمون وعبأ أصحابه من الليل ، فلما [ ص: 234 ] أصبح لم ير خاقان ، فاستشار أصحابه ، فقالوا له : اقبل العافية . قال : ما هذه عافية ! هذه بلية ! إن خاقان أصاب أمس من الجند والسلاح وما منعه اليوم منا إلا أنه قد أخبره بعض من أخذه من الأسرى بموضع الأثقال أمامنا فسار طمعا فيها .

فارتحل وبعث الطلائع ، فلما أمسى استشار الناس في النزول أو المسير ، فقال الناس : اقبل العافية ، وما عسى أن يكون ذهاب الأموال بعافيتنا وعافية أهل خراسان ! ونصر بن سيار مطرق . فقال له أسد : ما لك لا تتكلم ؟ قال : أيها الأمير خلتان كلتاهما لك ، إن تسر تغث من مع الأثقال وتخلصهم ، فإن انتهيت إليهم وقد هلكوا فقد قطعت مشقة لا بد من قطعها . فقبل رأيه وسار بقية يومه ، ودعا أسد سعيدا الصغير مولى باهلة ، وكان فارسا بأرض الختل ، وكتب معه كتابا إلى إبراهيم يأمره بالاستعداد ويخبره بمسير خاقان إليه وقال له : لتجد السير . فطلب منه فرسه الذبوب ، فقال أسد : لعمري لئن جدت بنفسك وبخلت عليك بالفرس إني إذا للئيم . فدفعه إليه ، فأخذ معه جنيبا وسار .

فلما حاذى الترك وقد ساروا نحو الأثقال طلبته طلائعهم فركب الذبوب فلم يلحقوه ، فأتى إبراهيم بالكتاب . وسار خاقان إلى الأثقال ، وقد خندق إبراهيم خندقا ، فأتاهم وهم قيام عليه ، فأمر الصغد بقتالهم فهزمهم المسلمون ، وصعد خاقان تلا فجعل ينظر ليرى عورة يأتي منها ، وهكذا كان يفعل ، فلما صعد التل رأى خلف العسكر جزيرة دونها مخاضة فدعا بعض قواد الترك فأمرهم أن يقطعوا فوق العسكر حتى يصيروا إلى الجزيرة ، ثم ينحدروا حتى يأتوا عسكر المسلمين من خلفهم ، وأن يبدءوا بالأعاجم وأهل الصغانيان ، وقال لهم : إن رجعوا إليكم دخلنا نحن . ففعلوا ودخلوا من ناحية الأعاجم فقتلوا صغان خذاه وعامة أصحابه وأخذوا أموالهم ، ودخلوا عسكر إبراهيم فأخذوا جميع ما فيه ، وترك المسلمون التعبية واجتمعوا في موضع وأحسوا بالهلاك ، وإذا رهج قد ارتفع ، وإذا أسد في جنده قد أتاهم ، فارتفعت الترك عنهم إلى الموضع الذي كان فيه خاقان ، وإبراهيم يعجب من كفهم وقد ظفروا وقتلوا من قتلوا وهو لا يطمع في أسد ، وكان أسد قد أغذ المسير وأقبل حتى وقف على التل الذي كان عليه خاقان ، وتنحى خاقان إلى ناحية الجبل ، فخرج إلى أسد من كان بقي مع الأثقال وقد قتل منهم بشرا كثيرا .

ومضى خاقان بالأسرى والجمال الموقرة والجواري ، وأمر خاقان رجلا كان معه من [ ص: 235 ] أصحاب الحارث بن سريج فنادى أسدا : قد كان لك فيما وراء النهر مغزى ، إنك لشديد الحرص ، وقد كان عن الختل مندوحة وهي أرض آبائي وأجدادي . فقال أسد : لعل الله أن ينتقم منك .

وسار أسد إلى بلخ فعسكر في مرجها حتى أتى الشتاء ، ثم فرق الناس في الدور ودخل المدينة ، وكان الحارث بن سريج بناحية طخارستان فانضم إلى خاقان . فلما كان وسط الشتاء أقبل خاقان ، وكان لما فارق أسد أتى طخارستان فأقام عند جبغويه ، فأقبل فأتى الجوزجان وبث الغارات .

وسبب مجيئه أن الحارث أخبره أنه لا نهوض بأسد فلم يبق معه كثير جند ونزل جزة ، فأتى الخبر إلى أسد بنزول خاقان بجزة ، فأمر بالنيران فرفعت بالمدينة ، فجاء الناس من الرساتيق إليها ، فأصبح أسد وصلى صلاة العيد ، عيد الأضحى ، وخطب الناس ، وقال : إن عدو الله الحارث استجلب الطاغية ليطفئ نور الله ويبدل دينه ، والله مذله إن شاء الله ، وإن عدوكم قد أصاب من إخوانكم من أصاب ، وإن يرد الله نصركم لم يضركم قلتكم وكثرتهم ، فاستنصروا الله ، وإن أقرب ما يكون العبد من ربه إذا وضع جبهته له ، وإني نازل وواضع جبهتي ، فاسجدوا له وادعوا مخلصين .

ففعلوا ورفعوا رءوسهم ولا يشكون في الفتح ، ثم نزل وضحى وشاور الناس في المسير إلى خاقان ، قال قوم : تحفظ مدينة بلخ وتكتب إلى خالد والخليفة تستمده . وقال قوم : تأخذ في طريق زم فتسبق خاقان إلى مرو . وقال قوم : بل تخرج إليهم . فوافق هذا رأي أسد ، وكان عزم على لقائهم ، فخرج بالناس وهو في سبعة آلاف من أهل خراسان والشام ، واستخلف على بلخ الكرماني بن علي ، وأمره أن لا يدع أحدا يخرج من مدينتها وإن ضرب الترك بابها . ونزل بابا من أبواب بلخ ، وصلى بالناس ركعتين طولهما ، ثم استقبل القبلة ونادى في الناس : ادعوا الله تعالى ، وأطال الدعاء ، فلما فرغ قال : نصرتم ورب الكعبة إن شاء الله تعالى ! ثم سار ، فلما جاز قنطرة عطاء نزل ، وأراد المقام حتى يتلاحق به الناس ، ثم أمر بالرحيل وقال : لا حاجة بنا إلى المتخلفين .

ثم ارتحل وعلى مقدمته سالم بن منصور البجلي في ثلاثمائة ، فلقي ثلاثمائة من الترك طليعة لخاقان ، فأسر قائدهم وسبعة معه ، وهرب بقيتهم ، فأتي به أسد فبكى [ ص: 236 ] التركي ، فقال : ما يبكيك ؟ قال : لست أبكي لنفسي ولكني أبكي لهلاك خاقان ، إنه قد فرق جنوده بينه وبين مرو .

فسار أسد حتى شارف مدينة الجوزجان فنزل عليها على فرسخين من خاقان ، وكان قد استباحها خاقان ، فلما أصبحوا تراءى العسكران ، فقال خاقان للحارث بن سريج : ألم تكن أخبرتني أن أسدا لا حراك به وهذه العساكر قد أقبلت ، من هذا ؟ قال : هذا محمد بن المثنى ورايته .

فبعث خاقان طليعة وقال : انظروا هل ترون على الإبل سريرا وكراسي ؟ فعادوا إليه فأخبروه أنهم رأوها ، فقال خاقان : هذا أسد .

وسار أسد قدر غلوة ، فلقيه سالم بن جناح فقال : أبشر أيها الأمير قد حزرتم ولا يبلغون أربعة آلاف ، وأرجو أن يكون خاقان عقيرة الله . فصف أسد أصحابه ، وعبى خاقان أصحابه ، فلما التقوا حمل الحارث ومن معه من الصغد وغيرهم ، وكانوا ميمنة خاقان على ميسرة أسد ، فهزمهم فلم يردهم شيء دون رواق أسد ، وحملت ميمنة أسد وهم الجوزجان والأزد وتميم عليهم ، فانهزم الحارث ومن معه وانهزمت الترك جميعها ، وحمل الناس جميعا فتفرق الترك في الأرض لا يلوون على أحد ، فتبعهم الناس مقدار ثلاثة فراسخ يقتلون [ من يقدرون عليه ] حتى انتهوا إلى أغنامهم وأخذوا منها أكثر من مائة ألف وخمسين ألف رأس ودواب كثيرة .

وأخذ خاقان طريقا في الجبل والحارث يحميه ، وسار منهزما ، فقال الجوزجاني لعثمان بن عبد الله بن الشخير : إني لأعلم ببلادي وبطرقها ، فهل تتبعني لعلنا نهلك خاقان ؟ قال : نعم ، فأخذا طريقا وسارا ومن معهما حتى أشرفوا على خاقان فأوقعوا به ، فولى منهزما ، فحوى المسلمون عسكر الترك وما فيه من الأموال ، ووجدوا فيه من نساء العرب والموليات من نساء الترك من كل شيء . ( ووحل بخاقان برذونه فحماه الحارث بن سريج ، ولم يعلم الناس أنه خاقان ) ، ( وأراد الخصي الذي لخاقان أن يحمل امرأة خاقان ) فأعجلوه فقتلها ، واستنقذوا من كان مع خاقان من المسلمين .

وتتبع أسد خيل الترك التي فرقها في الغارة إلى مرو الروذ وغيرها فقتل من قدر عليه منهم ولم ينج منهم غير القليل ، ورجع إلى بلخ . وكان بشر الكرماني في السرايا [ ص: 237 ] فيصيبون من الترك الرجل والرجلين وأكثر .

ومضى خاقان إلى طخارستان وأقام عند جبغويه الخزلجي ، ثم ارتحل إلى بلاده ، فلما ورد أشروسنة تلقاه خرابغره أبو خاناجزه جد كاووس أبي أفشين بكل ما قدر عليه ، وكان ما بينهما متباعدا ، إلا أنه أحب أن يتخذ عنده يدا . ثم أتى خاقان بلاده واستعد للحرب ومحاصرة سمرقند ، وحمل الحارث وأصحابه على خمسة آلاف برذون . فلاعب خاقان يوما كورصول بالنرد على خطر ، فتنازعا ، فضرب كورصول يد خاقان وكسرها ، وتنحى وجمع جمعا ، وبلغه أن خاقان قد حلف ليكسرن يده ، فبيت خاقان فقتله ، وتفرقت الترك وتركوه مجردا ، فأتاه نفر من الترك فدفنوه . واشتغلت الترك يغير بعضها على بعض ، فعند ذلك طمع أهل الصغد في الرجعة إليها .

وأرسل أسد مبشرا إلى هشام بن عبد الملك بما فتح الله عليهم وبقتل خاقان ، فلم يصدقه وقال للربيع حاجبه : لا أظن هذا صادقا ، اذهب فعده ثم سله عما يقول ، ففعل ما أمره به ، فأخبره بما أخبر به هشاما ، ثم أرسل أسد مبشرا آخر فوقف على باب هشام وكبر ، فأجابه هشام بالتكبير ، فلما انتهى إليه أخبره بالفتح ، فسجد شكرا لله تعالى ، فحسدت القيسية أسدا وقالوا لهشام : اكتب بطلب مقاتل بن حيان النبطي ، فسيره أسد إلى هشام ، فلما دخل عليه أخبره بما كان ، فقال له هشام : حاجتك ؟ قال : إن يزيد بن المهلب أخذ من أبي مائة ألف درهم بغير حق فاستحلفه على ذلك . فكتب إلى أسد ، فردها عليه ، وقسمها مقاتل بين ورثة حيان على كتاب الله تعالى .

قال أبو الهندي يذكر هذه الوقعة

: أبا منذر رمت الأمور وقستها وساءلت عنها كالحريص المساوم     فما كان ذو رأي من الناس قسته
برأيك إلا مثل رأي البهائم     أبا منذر لولا مسيرك لم يكن
عراق ولا انقادت ملوك الأعاجم     ولا حج بيت الله من حج راكبا
ولا عمر البطحاء بعد المواسم     وكم من قتيل بين سان وجزة
كسير الأيادي من ملوك قماقم

[ ص: 238 ]     تركت بأرض الجوزجان تزوره
سباع وعقبان لحز الغلاصم     وذي سوقة فيه من السيف خبطة
به رمق ملقى لحوم الحوائم     فمن هارب منا ومن دائن لنا
أسير يقاسي مبهمات الأداهم     فدتك نفوس من تميم وعامر
ومن مضر الحمراء عند المآزم     هم أطمعوا خاقان فينا فأصبحت
حلائبه ترجو خلو المغانم



وكان ابن السايجي الذي أخبر أسدا بمجيء خاقان قد استخلفه السبل على مملكته عند موته ، وأوصاه بثلاث خصال ، قال : لا تستطل على أهل الختل استطالتي عليهم ، فإني ملك وأنت لست بملك ، إنما أنت رجل منهم ، وقال له : اطلب الحنيش حتى ترده إلى بلادكم ، فإنه الملك بعدي ، وكان الحنيش قد هرب إلى الصين ، وقال له : لا تحاربوا العرب وادفعوها عنكم بكل حيلة .

فقال له ابن السايجي : أما تركي الاستطالة عليهم وردي الحنيش فهو الرأي ، وأما قولك لا تحاربوا العرب ، فكيف وقد كنت أكثر الملوك محاربة لهم ؟ قال السبل : قد جربت قوتكم بقوتي فما رأيتكم تقعون مني موقعا ، وكنت إذا حاربتهم لم أفلت منهم إلا جريضا ، وإنكم إذا حاربتموهم هلكتم .

فهذا الذي كره إلى ابن السايجي محاربة العرب .

التالي السابق


الخدمات العلمية