الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 188 ] 110

ثم دخلت سنة عشر ومائة

ذكر ما جرى لأشرس مع أهل سمرقند وغيرها

في هذه السنة أرسل أشرس إلى أهل سمرقند وما وراء النهر يدعوهم إلى الإسلام ، على أن توضع عنهم الجزية ، وأرسل في ذلك أبا الصيداء ( صالح بن طريف مولى بني ضبة ، والربيع بن عمران التميمي . فقال أبو الصيداء ) : إنما أخرج على شريطة أن من أسلم لا تؤخذ منه الجزية ، وإنما خراج خراسان على رءوس الرجال . فقال أشرس : نعم . فقال أبو الصيداء لأصحابه : فإني أخرج ، فإن لم يف العمال أعنتموني عليهم ؟ قالوا : نعم . فشخص إلى سمرقند وعليها الحسن بن أبي العمرطة الكندي على حربها وخراجها ، فدعا أبو الصيداء أهل سمرقند ومن حولها إلى الإسلام ، على أن توضع عنهم الجزية ، فسارع الناس ، فكتب غوزك إلى أشرس أن الخراج قد انكسر . فكتب أشرس إلى ابن [ أبي ] العمرطة : إن في الخراج قوة للمسلمين ، وقد بلغني أن أهل الصغد وأشباههم لم يسلموا رغبة ، إنما أسلموا تعوذا من الجزية ، فانظر من اختتن ، وأقام الفرائض ، وقرأ سورة من القرآن ، فارفع خراجه .

ثم عزل أشرس ابن [ أبي ] العمرطة عن الخراج ، وصيره إلى هانئ بن هانئ ، فمنعهم أبو الصيداء من أخذ الجزية ممن أسلم ، فكتب هانئ إلى أشرس : إن الناس قد أسلموا وبنوا المساجد . فكتب أشرس إليه وإلى العمال : خذوا الخراج ممن كنتم تأخذونه منه . فأعادوا الجزية على من أسلم . فامتنعوا واعتزلوا في سبعة آلاف ، على عدة فراسخ من سمرقند ، وخرج إليهم أبو الصيداء ، وربيع بن عمران التميمي ، والهيثم الشيباني ، وأبو فاطمة الأزدي ، وعامر بن قشير ، وبحير الخجندي ، وبنان العنبري ، وإسماعيل بن [ ص: 189 ] عقبة لينصروهم ، فعزل أشرس بن [ أبي ] العمرطة عن الحرب ، واستعمل مكانه المجشر بن مزاحم السلمي على الحرب ، وضم إليه عميرة بن سعد الشيباني .

فلما قدم المجشر كتب إلى أبي الصيداء يسأله أن يقدم عليه هو وأصحابه ، فقدم أبو الصيداء وثابت قطنة ، فحبسهما ، فقال أبو الصيداء : غدرتم ورجعتم عما قلتم . فقال هانئ : ليس بغدر ما كان فيه حقن الدماء ، ثم سيروه إلى أشرس ، واجتمع أصحابه وولوا أمرهم أبا فاطمة ليقاتلوا هانئا ، فقال لهم : كفوا حتى نكتب إلى أشرس ، فكتبوا إليه ، فكتب أشرس : ضعوا عليهم الخراج ، فرجع أصحاب أبي الصيداء وضعف أمرهم ، فتتبع الرؤساء ، فأخذوا وحملوا إلى مرو ، وبقي ثابت محبوسا ، فألح هانئ في الخراج ، واستخفوا بعظماء العجم والدهاقين ، وأقيموا وخرقت ثيابهم ، وألقيت مناطقهم في أعناقهم ، وأخذوا الجزية ممن أسلم [ من الضعفاء ] ، فكفرت الصغد وبخارى ، واستجاشوا الترك .

ولم يزل ثابت قطنة في حبس المجشر حتى قدم نصر بن سيار إلى المجشر واليا ، فحمله إلى أشرس فحبسه ، وكان نصر قد أحسن إليه ، فقال ثابت يمدحه [ بأبيات ] يقول فيها :


ما هاج شوقك من نؤي وأحجار ومن رسوم عفاها صوب أمطار     إن كان ظني بنصر صادقا أبدا
فيما أدبر من نقضي وإمراري     لا يصرف الجند حتى يستفيء بهم
نهبا عظيما ويحوي ملك جبار     إني وإن كنت من جذم الذي نضرت
منه الفروع وزندي الثاقب الواري     لذاكر منك أمرا قد سبقت به
من كان قبلك يا نصر بن سيار     ناضلت عني نضال الحر إذ قصرت
دوني العشيرة واستبطأت أنصاري     وصار كل صديق كنت آمله
ألبا علي ورث الحبل من جاري     وما تلبست بالأمر الذي وقعوا
به علي ولا دنست أطماري [ ص: 190 ]     ولا عصيت إماما كان طاعته
حقا علي ولا قارفت من عار

وخرج أشرس غازيا ، فنزل آمل ، فأقام ثلاثة أشهر . وقدم قطن بن قتيبة بن مسلم ، فعبر النهر في عشرة آلاف ، فأقبل أهل الصغد وبخارى معهم خاقان والترك ، فحصروا قطنا في خندقه ، فأرسل خاقان من أغار على مسرح الناس ، فأخرج أشرس ثابت قطنة بكفالة عبد الله بن بسطام بن مسعود بن عمرو ، فوجهه مع عبد الله بن بسطام في خيل ، فقاتلوا الترك بآمل حتى استنقذوا ما بأيديهم ، ورجع الترك .

ثم عبر أشرس بالناس إلى قطن ، وبعث أشرس سرية مع مسعود أحد بني حيان ، فلقيهم العدو ( فقاتلوهم ، فقتل رجال من المسلمين ، وهزم مسعود ، فرجع أشرس ) ، وأقبل العدو ، فلقيهم المسلمون فجالوا جولة ، فقتل رجال من المسلمين ، ثم رجع المسلمون وصبروا فانهزم المشركون ، وسار أشرس بالناس حتى نزل بيكند ، فقطع العدو عنهم الماء ، وأقام المسلمون يوما وليلة وعطشوا ، فرحلوا إلى المدينة التي قطع العدو [ المياه ] منها ، وعلى المقدمة قطن بن قتيبة ، فلقيهم العدو ، فقاتلوهم ، فجهدوا من العطش ، فمات منهم سبعمائة ، ( فعجز الناس عن القتال ) ، فحرض الحارث بن سريج الناس ، فقال : القتل بالسيف أكرم في الدنيا وأعظم أجرا عند الله من الموت عطشا . وتقدم الحارث وقطن في فوارس من تميم ، فقاتلوا حتى أزالوا الترك عن الماء ، فابتدره الناس فشربوا واستقوا .

ثم مر ثابت قطنة بعبد الملك بن دثار الباهلي ، فقال : هل لك في الجهاد ؟ فقال : أمهلني حتى أغتسل وأتحنط . فوقف له حتى اغتسل ثم مضيا ، وقال ثابت لأصحابه : أنا أعلم بقتال هؤلاء منكم ، وحرضهم ، فحملوا ، واشتد القتال ، فقال ثابت قطنة : اللهم إني كنت ضيف ابن بسطام البارحة ، فاجعلني ضيفك الليلة ، والله لا ينظر إلي بنو أمية مشدودا في الحديد . فحمل وحمل أصحابه ، فرجع أصحابه وثبت هو ، فرمي برذونه فشب ، وضربه فأقدم ، وضربثابت ، فارتث ، فقال وهو صريع : اللهم إني أصبحت ضيفا لابن بسطام وأمسيت ضيفك ! فاجعل قراي منك الجنة ! فقتلوه وقتلوا معه عدة من المسلمين ، منهم : صخر بن مسلم بن النعمان العبدي ، وعبد الملك بن دثار الباهلي ، وغيرهما ، وجمع قطن ، وإسحاق بن محمد بن حبان خيلا من المسلمين تبايعوا [ ص: 191 ] على الموت ، فحملوا على العدو ، فقاتلوهم ، فكشفوهم ، وركبهم المسلمون يقتلونهم حتى حجزهم الليل ، وتفرق العدو ، وأتى أشرس بخارى فحصر أهلها .

( الحارث بن سريج : بالسين المهملة والجيم ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية