الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 732 ] 40

ثم دخلت سنة أربعين

ذكر سرية بسر بن أبي أرطاة إلى الحجاز واليمن

في هذه السنة بعث معاوية بسر بن أبي أرطاة ، وهو من عامر بن لؤي ، في ثلاثة آلاف ، فسار حتى قدم المدينة ، وبها أبو أيوب الأنصاري عامل علي عليها ، فهرب أبو أيوب فأتى عليا بالكوفة ، ودخل بسر المدينة ولم يقاتله أحد ، فصعد منبرها فنادى عليه : يا دينار ، يا نجار ، يا زريق ! وهذه بطون من الأنصار ، شيخي شيخي ، عهدته هاهنا بالأمس ، فأين هو ؟ يعني عثمان . ثم قال : والله لولا ما عهد إلي معاوية ما تركت بها محتلما . فأرسل إلى بني سلمة فقال : والله ما لكم عندي أمان حتى تأتوني بجابر بن عبد الله ! فانطلق جابر إلى أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لها : ماذا ترين ؟ إن هذه بيعة ضلالة ، وقد خشيت أن أقتل . قالت : أرى أن تبايع ، فإني قد أمرت ابني عمر وختني ابن زمعة أن يبايعا ، وكانت ابنتها زينب تحت ابن زمعة ، فأتاه جابر فبايعه .

وهدم بالمدينة دورا ثم سار إلى مكة ، فخاف أبو موسى الأشعري أن يقتله ، فهرب منه ، وأكره الناس على البيعة . ثم سار إلى اليمن ، وكان عليها عبيد الله بن عباس عاملا لعلي ، فهرب منه إلى علي بالكوفة . واستخلف علي [ على ] اليمن عبد الله بن عبد المدان الحارثي ، فأتاه بسر فقتله ، وقتل ابنه ، وأخذ ابنين لعبيد الله بن عباس صغيرين هما : عبد الرحمن وقثم فقتلهما ، وكانا عند رجل من كنانة بالبادية ، فلما أراد قتلهما قال [ ص: 733 ] له الكناني : لم تقتل هذين ولا ذنب لهما ؟ فإن كنت قاتلهما فاقتلني معهما ! فقتله وقتلهما بعده . وقيل إن الكناني أخذ سيفه وقاتل عن الغلامين وهو يقول :


الليث من يمنع حافات الدار ولا يزال مصلتا دون الجار



وقاتل حتى قتل . وأخذ الغلامين فدفنهما . فخرج نسوة من بني كنانة ، فقالت امرأة منهن : يا هذا ! قتلت الرجال فعلام تقتل هذين ؟ والله ما كانوا يقتلون في الجاهلية والإسلام ! والله يا ابن أبي أرطاة إن سلطانا لا يقوم إلا بقتل الصبي الصغير ، والشيخ الكبير ، ونزع الرحمة ، وعقوق الأرحام لسلطان سوء !

وقتل بسر في مسيره ذلك جماعة من شيعة علي باليمن ، وبلغ عليا الخبر ، فأرسل جارية بن قدامة السعدي في ألفين ، ووهب بن مسعود في ألفين ، فسار جارية حتى أتى نجران ، فقتل بها ناسا من شيعة عثمان ، وهرب بسر وأصحابه منه ، واتبعه جارية حتى أتى مكة فقال : بايعوا أمير المؤمنين . فقالوا : قد هلك فلمن نبايع ؟ قال : لمن بايع له أصحاب علي . فبايعوا خوفا منه .

ثم سار حتى أتى المدينة وأبو هريرة يصلي بالناس ، فهرب منه ، فقال جارية : لو وجدت أبا سنور لقتلته . ثم قال لأهل المدينة : بايعوا الحسن بن علي فبايعوه ، وأقام يومه ، ثم عاد إلى الكوفة ورجع أبو هريرة يصلي بهم .

وكانت أم ابني عبيد الله أم الحكم جويرية بنت خويلد بن قارظ ، ( وقيل : عائشة بنت عبد الله بن عبد المدان ) . فلما قتل ولداها ولهت عليهما ، فكانت لا تعقل ولا تصفي ، ولا تزال تنشدهما في المواسم فتقول :

[ ص: 734 ]

يا من أحس بنيي اللذين هما     كالدرتين تشظى عنهما الصدف
يا من أحس بنيي اللذين هما     مخ العظام فمخي اليوم مزدهف
يا من أحس بنيي اللذين هما     قلبي وسمعي فقلبي اليوم مختطف
من ذل والهة حيرى مدلهة     على صبيين ذلا إذ غدا السلف
نبئت بسرا وما صدقت ما زعموا     من إفكهم ومن القول الذي اقترفوا
أحنى على ودجي إبني مرهفة     من الشفار ، كذاك الإثم يقترف


وهي أبيات مشهورة ، فلما سمع أمير المؤمنين بقتلهما جزع جزعا شديدا ودعا على بسر فقال : اللهم اسلبه دينه وعقله ! فأصابه ذلك وفقد عقله ، فكان يهذي بالسيف ويطلبه فيؤتى بسيف من خشب ، ويجعل بين يديه زق منفوخ ، فلا يزال يضربه ، ولم يزل كذلك حتى مات .

[ ص: 735 ] ولما استقر الأمر لمعاوية دخل عليه عبيد الله بن عباس ، وعنده بسر ، فقال لبسر : وددت أن الأرض أنبتتني عندك حين قتلت ولدي . فقال بسر : هاك سيفي . فأهوى عبيد الله ليتناوله فأخذه معاوية وقال لبسر : أخزاك الله شيخا قد خرفت ! والله لو تمكن منه لبدأ بي ! قال عبيد الله : أجل ، ثم ثنيت به .

( سلمة : بكسر اللام ، بطن من الأنصار ) .

وقيل : إن مسير بسر إلى الحجاز كان سنة اثنتين وأربعين ، فأقام بالمدينة شهرا يستعرض الناس ، لا يقال له عن أحد إنه شرك في دم عثمان إلا قتله .

وفيها جرت مهادنة بين علي ومعاوية بعد مكاتبات طويلة على وضع الحرب ، ويكون لعلي العراق ، ولمعاوية الشام ، لا يدخل أحدهما بلد الآخر بغارة .

( بسر : بضم الباء الموحدة ، والسين المهملة . زريق : بالزاي والراء ، قبيلة من الأنصار أيضا . وجارية : بالجيم والراء ) .

ذكر فراق ابن عباس البصرة

في هذه السنة خرج عبد الله بن عباس من البصرة ، ولحق بمكة في قول أكثر أهل السير ، وقد أنكر ذلك بعضهم وقال : لم يزل عاملا عليها لعلي حتى قتل علي ، وشهد صلح الحسن مع معاوية ، ثم خرج إلى مكة . والأول أصح . وإنما كان الذي شهد صلح الحسن عبيد الله بن عباس .

وكان سبب خروجه أنه مر بأبي الأسود فقال : لو كنت من البهائم لكنت جملا ، ولو كنت راعيا لما بلغت المرعى . فكتب أبو الأسود إلى علي : أما بعد فإن الله - عز وجل - جعلك واليا مؤتمنا ، وراعيا مستوليا ، وقد بلوناك فوجدناك عظيم الأمانة ، ناصحا للرعية ، توفر لهم فيئهم ، وتكف نفسك عن دنياهم ، ولا تأكل أموالهم ، ولا ترتشي في أحكامهم ، وإن ابن عمك قد أكل ما تحت يديه بغير علمك ، ولم يسعني كتمانك - رحمك الله - فانظر فيما هناك ، واكتب إلي برأيك فيما أحببت ، والسلام .

[ ص: 736 ] فكتب إليه علي : أما بعد فمثلك نصح الإمام والأمة ، ووالى على الحق ، وقد كتبت إلى صاحبك فيما كتبت إلي ، ولم أعلمه بكتابك ، فلا تدع إعلامي بما يكون بحضرتك مما النظر فيه صلاح للأمة ، فإنك بذلك جدير ، وهو حق واجب عليك ، والسلام .

وكتب إلى ابن عباس في ذلك ، فكتب إليه ابن عباس : أما بعد ، فإن الذي بلغك باطل ، وإني لما تحت يدي لضابط وله حافظ ، فلا تصدق الظنون والسلام . فكتب إليه علي : أما بعد ، فأعلمني ما أخذت من الجزية ، ومن أين أخذت ، وفيما وضعت . فكتب إليه ابن عباس : أما بعد ، فقد فهمت تعظيمك مرزأة ما بلغك ، ( إني رزأته من أهل هذه البلاد ) ، فابعث إلى عملك من أحببت فإني ظاعن عنه ، والسلام .

واستدعى أخواله من بني هلال بن عامر ، فاجتمعت معه ( قيس كلها ) فحمل مالا وقال : هذه أرزاقنا ( اجتمعت ، فتبعه أهل البصرة ) فلحقوه بالطف يريدون أخذ المال ، فقالت قيس : والله لا يوصل إليه وفينا عين تطرف ! فقال صبرة بن شيمان الحداني : يا معشر الأزد ، إن قيسا إخواننا وجيراننا وأعواننا على العدو ، وإن الذي يصيبكم من هذا المال لقليل ، وهم لكم خير من المال . فأطاعوه فانصرفوا ( وانصرفت معهم بكر وعبد القيس ) وقاتلهم بنو تميم ، ( فنهاهم الأحنف ، فلم يسمعوا منه ، فاعتزلهم ) وحجز الناس بينهم ، ومضى ابن عباس إلى مكة .

التالي السابق


الخدمات العلمية