الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 5 ] حرف الميم

                                                          الميم من الحروف الشفوية ومن الحروف المجهورة ، وكان الخليل يسمي الميم مطبقة لأنه يطبق إذا لفظ بها . ‏

                                                          ما : حرف نفي وتكون بمعنى الذي ، وتكون بمعنى الشرط ، وتكون عبارة عن جميع أنواع النكرة ، وتكون موضوعة موضع من ، وتكون بمعنى الاستفهام ، وتبدل من الألف الهاء فيقال : مه ، قال الراجز :


                                                          قد وردت من أمكنه من هاهنا ومن هنه     إن لم أروها فمه



                                                          قال ابن جني : يحتمل مه هنا وجهين : أحدهما أن تكون فمه زجرا منه أي : فاكفف عني ولست أهلا للعتاب ، أو فمه يا إنسان ، يخاطب نفسه ويزجرها ، وتكون للتعجب ، وتكون زائدة كافة وغير كافة ، والكافة قولهم : إنما زيد منطلق ، وغير الكافة إنما زيدا منطلق ; تريد إن زيدا منطلق . وفي التنزيل العزيز : فبما نقضهم ميثاقهم ، و عما قليل ليصبحن نادمين ، و مما خطيئاتهم أغرقوا ، قال اللحياني : ما مؤنثة ، وإن ذكرت جاز ، أما قول أبي النجم :


                                                          الله نجاك بكفي مسلمت     من بعدما وبعدما وبعدمت
                                                          صارت نفوس القوم عند الغلصمت     وكادت الحرة أن تدعى أمت

                                                          فإنه أراد وبعدما فأبدل الألف هاء كما قال الراجز :


                                                          من هاهنا ومن هنه



                                                          فلما صارت في التقدير وبعدمه أشبهت الهاء هاهنا هاء التأنيث في نحو مسلمة وطلحة ، وأصل تلك إنما هو التاء ; فشبه الهاء في وبعدمه بهاء التأنيث فوقف عليها بالتاء كما يقف على ما أصله التاء بالتاء في مسلمت والغلصمت ; فهذا قياسه ، كما قال أبو وجزة :


                                                          العاطفونت حين ما من عاطف     والمفضلون يدا إذا ما أنعموا

                                                          أراد : العاطفونه ، ثم شبه هاء الوقف بهاء التأنيث التي أصلها التاء ، فوقف بالتاء كما يقف على هاء التأنيث بالتاء . وحكى ثعلب وغيره : مويت ماء حسنة ، بالمد ، لمكان الفتحة من ما ، وكذلك لا أي عملتها ، وزاد الألف في ما لأنه قد جعلها اسما ، والاسم لا يكون على حرفين وضعا ، واختار الألف من حروف المد واللين لمكان الفتحة ، قال : وإذا نسبت إلى ما قلت مووي . وقصيدة ماوية ومووية : قافيتها ما . وحكى الكسائي عن الرؤاسي : هذه قصيدة مائية وماوية ولائية ولاوية ويائية وياوية ، قال : وهذا أقيس . الجوهري : ما حرف يتصرف على تسعة أوجه : الاستفهام نحو ما عندك ؟ . قال ابن بري : ما يسأل بها عما لا يعقل وعن صفات من يعقل ، يقول : ما عبد الله ؟ فتقول : أحمق أو عاقل . قال الجوهري : والخبر نحو : رأيت ما عندك وهو بمعنى الذي ، والجزاء نحو : ما يفعل أفعل ، وتكون تعجبا نحو : ما أحسن زيدا ، وتكون مع الفعل في تأويل المصدر نحو : بلغني ما صنعت أي صنيعك ، وتكون نكرة يلزمها النعت نحو : مررت بما معجب لك أي بشيء معجب لك ، وتكون زائدة كافة عن العمل نحو : إنما زيد منطلق ، وغير كافة نحو قوله تعالى : فبما رحمة من الله لنت لهم ، وتكون نفيا نحو : ما خرج زيد وما زيد خارجا ، فإن جعلتها حرف نفي لم تعملها في لغة أهل نجد لأنها دوارة ، وهو القياس ، وأعملتها في لغة أهل الحجاز تشبيها بليس ، تقول : ما زيد خارجا وما هذا بشرا ، وتجيء محذوفة منها الألف إذا ضممت إليها حرفا نحو : لم وبم وعم يتساءلون ، قال ابن بري : صوابه أن يقول : وتجيء ما الاستفهامية محذوفة إذا ضممت إليها حرفا جارا . التهذيب : إنما قال النحويون أصلها ما منعت إن من العمل ، ومعنى إنما إثبات لما يذكر بعدها ونفي لما سواه كقوله :

                                                          وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي ; المعنى ما يدافع عن أحسابهم إلا أنا أو من هو مثلي ، والله أعلم . التهذيب : قال أهل العربية : ما إذا كانت اسما فهي لغير المميزين من الإنس والجن ، ومن تكون للمميزين ، ومن العرب من يستعمل ما في موضع من ، من ذلك قوله - عز وجل - : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ، التقدير : لا تنكحوا من نكح آباؤكم ، وكذلك قوله : فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ ص: 6 ] ، معناه : من طاب لكم ، وروى سلمة عن الفراء : قال الكسائي تكون ما اسما ، وتكون جحدا ، وتكون استفهاما ، وتكون شرطا ، وتكون تعجبا ، وتكون صلة ، وتكون مصدرا . وقال محمد بن يزيد : وقد تأتي ما تمنع العامل عمله ، وهو كقولك : كأنما وجهك القمر ، وإنما زيد صديقنا . قال أبو منصور : ومنه قوله تعالى : ربما يود الذين كفروا ، رب وضعت للأسماء فلما أدخل فيها ما جعلت للفعل ، وقد توصل ما برب وربت فتكون صلة كقوله :


                                                          ماوي يا ربتما غارة     شعواء كاللذعة بالميسم

                                                          يريد يا ربت غارة ، وتجيء ما صلة يريد بها التوكيد كقول الله - عز وجل - : فبما نقضهم ميثاقهم ، المعنى فبنقضهم ميثاقهم ، وتجيء مصدرا كقول الله - عز وجل - : فاصدع بما تؤمر ; أي فاصدع بالأمر ، وكقوله - عز وجل - : ما أغنى عنه ماله وما كسب ، أي : وكسبه ، وما التعجب كقوله : فما أصبرهم على النار ، والاستفهام بما كقولك : ما قولك في كذا ؟ والاستفهام بما من الله لعباده على وجهين : هو للمؤمن تقرير ، وللكافر تقريع وتوبيخ ، فالتقرير كقوله - عز وجل - لموسى : وما تلك بيمينك ياموسى قال هي عصاي قرره الله أنها عصا كراهة أن يخافها إذا حولها حية ، والشرط كقوله - عز وجل - : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له ، والجحد كقوله : ما فعلوه إلا قليل منهم ، وتجيء ما بمعنى أي : كقول الله - عز وجل - : ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ، المعنى يبين لنا أي شيء لونها ، وما في هذا الموضع رفع لأنها ابتداء ومرافعها قوله لونها ، وقوله تعالى : أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ، وصل الجزاء بما ، فإذا كان استفهاما لم يوصل بما وإنما يوصل إذا كان جزاء ، وأنشد ابن الأعرابي قول حسان :


                                                          إن يكن غث من رقاش حديث     فبما يأكل الحديث السمينا

                                                          قال : فبما أي : ربما . قال أبو منصور : وهو معروف في كلامهم قد جاء في شعر الأعشى وغيره . وقال ابن الأنباري في قوله - عز وجل - : عما قليل ليصبحن نادمين . قال : يجوز أن يكون معناه عن قليل وما توكيد ، ويجوز أن يكون المعنى عن شيء قليل وعن وقت قليل فيصير ما اسما غير توكيد ، قال : ومثله مما خطاياهم ، يجوز أن يكون من إساءة خطاياهم ومن أعمال خطاياهم ، فنحكم على ما من هذه الجهة بالخفض ، ونحمل الخطايا على إعرابها ، وجعلنا ما معرفة لإتباعنا المعرفة إياها أولى وأشبه . وكذلك فبما نقضهم ميثاقهم ، معناه : فبنقضهم ميثاقهم ، وما توكيد ، ويجوز أن يكون التأويل فبإساءتهم نقضهم ميثاقهم . والماء ، الميم ممالة والألف ممدودة : حكاية أصوات الشاء ; قال ذو الرمة :


                                                          لا ينعش الطرف إلا ما تخونه     داع يناديه ، باسم الماء ، مبغوم

                                                          وماء : حكاية صوت الشاة مبني على الكسر . وحكى الكسائي : باتت الشاء ليلتها ما ما وماه وماه ، وهو حكاية صوتها . وزعم الخليل أن مهما ما ضمت إليها ما لغوا ، وأبدلوا الألف هاء . وقال سيبويه : يجوز أن تكون كإذ ضم إليها ما ; وقول حسان بن ثابت :


                                                          إما تري رأسي تغير لونه     شمطا ، فأصبح كالنغام المخلس

                                                          يعني إن تري رأسي ، ويدخل بعدها النون الخفيفة والثقيلة كقولك : إما تقومن أقم وتقوما ، ولو حذفت ما لم تقل إلا إن لم تقم أقم ولم تنون ، وتكون إما في معنى المجازاة لأنه إن قد زيد عليها ما ، وكذلك مهما فيها معنى الجزاء . قال ابن بري : وهذا مكرر يعني قوله : إما في معنى المجازاة ومهما . وقوله في الحديث : " أنشدك بالله لما فعلت كذا " ، أي : إلا فعلته ، وتخفف الميم وتكون ما زائدة ، وقرئ بهما قوله تعالى : إن كل نفس لما عليها حافظ ، أي : ما كل نفس إلا عليها حافظ وإن كل نفس لعليها حافظ .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية