الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        وأما النقل; فمن وجوه :

                        أحدهما : ما جاء في القرآن الكريم مما يدل على ذم من ابتدع في دين الله في الجملة :

                        فمن ذلك قول الله تعالى : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله ) .

                        فهذه الآية أعظم الشواهد ، وقد جاء في الحديث تفسيرها :

                        فصح من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ) ؟ قال : فإذا رأيتهم فاعرفيهم .

                        وصح عنها أنها قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب ) إلى آخر الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 71 ] إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله; فاحذروهم .

                        وهذا التفسير مبهم .

                        ولكنه جاء في رواية عن عائشة أيضا ، قالت : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات ) الآية قال : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه ، فهم الذين عنى الله ، فاحذروهم .

                        وهذا أبين ، لأنه جعل علامة الزيغ الجدال في القرآن ، وهذا الجدال مقيد باتباع المتشابه .

                        فإذا ، الذم إنما لحق من جادل فيه بترك المحكم - وهو أم الكتاب ومعظمه ، والتمسك بمتشابهه .

                        ولكنه بعد مفتقر إلى تفسير أظهر .

                        فجاء عن أبي غالب واسمه حزور قال : كنت بالشام ، فبعث المهلب سبعين رأسا من الخوارج ، فنصبوا على درج دمشق ، فكنت على ظهر بيت لي فمر أبو أمامة فنزلت فاتبعته ، فلما وقف عليهم دمعت عيناه وقال : سبحان الله ! ما يصنع السلطان ببني آدم ! قالها ثلاثا كلاب جهنم ، كلاب جهنم ، شر قتلى تحت ظل السماء ثلاث مرات ، [ ص: 72 ] خير قتلى من قتلوه ، طوبى لمن قتلهم أو قتلوه .

                        ثم التفت إلي ، فقال : أبا غالب ! إنك بأرض هم بها كثير ، فأعاذك الله منهم .

                        قلت : رأيتك بكيت حين رأيتهم .

                        قال : بكيت رحمة حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام ، هل تقرأ سورة آل عمران ؟ قلت : نعم .

                        فقرأ : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب ) حتى بلغ : ( وما يعلم تأويله إلا الله ) وإن هؤلاء كان في قلوبهم زيغ ، فزيغ بهم .

                        ثم قرأ : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) إلى قوله ( ففي رحمة الله هم فيها خالدون ) .

                        قلت : هم هؤلاء يا أبا أمامة ؟

                        قال : نعم .

                        قلت : من قبلك تقول أو شيء سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم ؟

                        قال : إني إذا لجريء ، بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا مرة ، ولا مرتين حتى عد سبعا .

                        [ ص: 73 ] ثم قال : إن بني إسرائيل تفرقوا على إحدى وسبعين فرقة ، وإن هذه الأمة تزيد عليها فرقة ، كلها في النار; إلا السواد الأعظم .

                        قلت : يا أبا أمامة ! ألا ترى ما فعلوا ؟

                        قال : ( عليه ما حمل وعليكم ما حملتم ) الآية
                        .

                        خرجه إسماعيل القاضي وغيره .

                        وفي رواية; قال : قال : ألا ترى ما فيه السواد الأعظم وذلك في أول خلافة عبد الملك والقتل يومئذ ظاهر ؟ قال : ( عليه ما حمل وعليكم ما حملتم ) .

                        وخرجه الترمذي مختصرا ، وقال فيه : " حديث حسن " .

                        وخرجه الطحاوي أيضا باختلاف في بعض الألفاظ وفيه : " فقيل له : يا أبا أمامة ! تقول لهم هذا القول ثم تبكي يعني قوله : شر قتلى إلى آخره ؟ ! قال : رحمة لهم; إنهم كانوا من أهل الإسلام ، فخرجوا منه ، ثم تلا : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب ) حتى ختمها ، ثم قال : هم هؤلاء ، ثم تلا هذه الآية : ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ) حتى ختمها . ثم قال : هم هؤلاء .

                        وذكر الآجري عن طاوس ; قال : " ذكر لابن عباس الخوارج وما [ ص: 74 ] يصيبهم عند قراءة القرآن ، فقال : يؤمنون بمحكمه ، ويضلون عند متشابهه . وقرأ : ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ) .

                        فقد ظهر بهذا التفسير أنهم أهل البدع; لأن أبا أمامة رضي الله عنه جعل الخوارج داخلين في عموم الآية ، وأنها تتنزل عليهم ، وهم من أهل البدع عند العلماء : إما على أنهم خرجوا ببدعتهم عن أهل الإسلام ، وإما على أنهم من أهل الإسلام لم يخرجوا عنهم; على اختلاف العلماء فيهم . وجعل هذه الطائفة ممن في قلوبهم زيغ فزيغ بهم ، وهذا الوصف موجود في أهل البدع كلهم .

                        مع أن لفظ الآية عام فيهم وفي غيرهم ممن كان على صفاتهم ، ألا ترى أن صدر هذه السورة إنما نزل في نصارى نجران ومناظرتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في اعتقادهم في عيسى عليه السلام ، حيث تأولوا عليه أنه الإله أو أنه ابن الله أو أنه ثالث ثلاثة ، بأوجه متشابهة ، وتركوا ما هو الواضح في عبوديته حسبما نقله أهل السير ؟ !

                        ثم تأوله العلماء من السلف الصالح على قضايا دخل أصحابها تحت حكم اللفظ; كالخوارج فهي ظاهرة في العموم .

                        ثم تلا أبو أمامة الآية الأخرى ، وهي قوله سبحانه : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) إلى قوله : ( ففي رحمة الله هم فيها خالدون ) ، وفسرها بمعنى ما فسر به الآية الأخرى ، [ ص: 75 ] فهي الوعيد والتهديد لمن تلك صفته ، ونهى المؤمنين أن يكونوا مثلهم .

                        ونقل عبيد عن حميد بن مهران قال : سألت الحسن كيف يصنع أهل هذه الأهواء الخبيثة بهذه الآية في آل عمران : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) قال : نبذوها ورب الكعبة وراء ظهورهم .

                        وعن أبي أمامة أيضا قال : هم الحرورية .

                        وقال ابن وهب : سمعت مالكا يقول : ما آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية : ( يوم تبيض وجوه ) إلى قوله : ( بما كنتم تكفرون ) قال مالك : فأي كلام أبين من هذا ؟ ! فرأيته يتأولها لأهل الأهواء .

                        ورواه ابن القاسم ، وزاد : قال لي مالك : إنما هذه الآية لأهل القبلة .

                        وما ذكره في الآية قد نقل عن غير واحد; كالذي تقدم للحسن .

                        وعن قتادة في قوله تعالى : ( كالذين تفرقوا واختلفوا ) يعني أهل البدع .

                        وعن ابن عباس في قوله : ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ) قال : " تبيض وجوه أهل السنة ، وتسود وجوه أهل البدعة .

                        ومن الآيات قوله تعالى : [ ص: 76 ] ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) .

                        فالصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا إليه ، وهو السنة ، والسبل هي سبل الاختلاف الحائدين عن الصراط المستقيم ، وهم أهل البدع ، وليس المراد سبل المعاصي; لأن المعاصي من حيث هي معاص لم يضعها أحد طريقا تسلك دائما على مضاهاة التشريع ، وإنما هذا الوصف خاص بالبدع المحدثات .

                        ويدل على هذا ما روى إسماعيل عن سليمان بن حرب ، قال : حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله قال :

                        " خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا طويلا ، وخط لنا سليمان خطا طويلا ، وخط عن يمينه وعن يساره ، فقال : هذا سبيل الله ثم خط لنا خطوطا عن يمينه ويساره وقال : هذه سبل وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم تلا هذه الآية : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل ) يعني الخطوط ( فتفرق بكم عن سبيله ) .

                        قال بكر بن العلاء : " أحسبه أراد شيطانا من الإنس ، وهي البدع ، والله أعلم " .

                        وعن عمر بن سلمة الهمداني ; قال : " كنا جلوسا في حلقة [ ص: 77 ] ابن مسعود في المسجد وهو بطحاء قبل أن يحصب ، فقال له عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، وكان أتى غازيا : ما الصراط المستقيم يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : هو ورب الكعبة الذي ثبت عليه أبوك حتى دخل الجنة .

                        ثم حلف على ذلك ثلاث أيمان ولاء ، ثم خط في البطحاء خطا بيده ، وخط بجنبيه خطوطا ، وقال : ترككم نبيكم صلى الله عليه وسلم على طرفه ، وطرفه الآخر في الجنة ، فمن ثبت عليه ، دخل الجنة ، ومن أخذ في هذه الخطوط هلك .

                        وفي رواية : " يا أبا عبد الرحمن ! ما الصراط المستقيم ؟ قال : تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أدناه ، وطرفه في الجنة ، وعن يمينه جواد وعن يساره جواد ، وعليها رجال يدعون من مر بهم : هلم لك ! هلم لك ! فمن أخذ منهم في تلك الطرق; انتهت به إلى النار ، ومن استقام إلى الطريق الأعظم; انتهى به إلى الجنة ، ثم تلا ابن مسعود : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ) الآية كلها .

                        وعن مجاهد في قوله : ( ولا تتبعوا السبل ) ، قال : البدع والشبهات .

                        وعن عبد الرحمن بن مهدي : " قد سئل مالك بن أنس عن السنة ؟ قال : هي ما لا اسم له غير السنة ، وتلا : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) .

                        قال بكر بن العلاء : يريد إن شاء الله حديث ابن مسعود أن النبي [ ص: 78 ] صلى الله عليه وسلم خط له خطا ، وذكر الحديث .

                        فهذا التفسير يدل على شمول الآية لجميع طرق البدع ، لا تختص ببدعة دون أخرى .

                        ومن الآيات قول الله تعالى : ( وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين ) .

                        فالسبيل القصد هو طريق الحق ، وما سواه جائر عن الحق; أي : عادل عنه ، وهي طرق البدع والضلالات ، أعاذنا الله من سلوكها بفضله ، وكفى بالجائر أن يحذر منه ، فالمساق يدل على التحذير والنهي .

                        وذكر ابن وضاح ; قال : " سئل عاصم بن بهدلة ، وقيل له : أبا بكر ! ، هل رأيت قول الله تعالى : ( وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين ) ؟ قال : حدثنا أبو وائل عن عبد الله بن مسعود ; قال : خط عبد الله خطا مستقيما ، و خط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن شماله ، فقال : خط رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا ، فقال للخط المستقيم : هذا سبيل الله ، وللخطوط التي عن يمينه وشماله : هذه سبل متفرقة ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ; والسبيل مشتركة; قال الله تعالى : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ) إلى آخرها .

                        عن التستري : ( قصد السبيل ) : طريق السنة ، ( ومنها جائر ) ;يعني : إلى النار ، وذلك الملل والبدع " .

                        وعن مجاهد : ( قصد السبيل ) ; أي المقتصد منها بين الغلو [ ص: 79 ] والتقصير ، وذلك يفيد أن الجائر هو الغالي أو المقصر ، وكلاهما من أوصاف البدع .

                        وعن علي رضي الله عنه أنه كان يقرؤها : " فمنكم جائر " ; قالوا : يعني هذه الأمة ، فكأن هذه الآية مع الآية قبلها يتواردان على معنى واحد .

                        ومنها قوله تعالى : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ) .

                        هذه الآية قد جاء تفسيرها في الحديث من طريق عائشة رضي الله عنها ، قالت :

                        قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ) من هم ؟

                        قلت : الله ورسوله أعلم .

                        قال : " هم أصحاب الأهواء ، وأصحاب البدع ، وأصحاب الضلالة; من هذه الأمة ، يا عائشة إن لكل ذنب توبة ، ما خلا أصحاب الأهواء والبدع ، ليس لهم توبة ، وأنا بريء منهم وهم مني برآء .
                        ؟ .

                        قال ابن عطية : " هذه الآية تعم أهل الأهواء والبدع والشذوذ في [ ص: 80 ] الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدال والخوض في الكلام ، هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد .

                        ويريد والله أعلم بأهل التعمق في الفروع ما ذكره أبو عمر بن عبد البر في فصل ذم الرأي من " كتاب العلم " له ، وسيأتي ذكره بحول الله .

                        وحكى ابن بطال في شرح البخاري عن أبي حنيفة أنه قال : لقيت عطاء بن أبي رباح بمكة ، فسألته عن شيء ؟ فقال : من أين أنت ؟ قلت : من أهل الكوفة ، قال : أنت من أهل القرية الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ؟ قلت : نعم ، قال : من أي الأصناف أنت ؟ ، قلت : ممن لا يسب السلف ، ويؤمن بالقدر ولا يكفر أحدا بذنب ، فقال عطاء : عرفت فالزم .

                        وعن الحسن ، قال : خرج علينا عثمان بن عفان رضي الله عنه يوما يخطبنا ، فقطعوا عليه كلامه ، فتراموا بالبطحاء ، حتى جعلت ما أبصر أديم السماء .

                        قال : وسمعنا صوتا من بعض حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فقيل : هذا صوت أم المؤمنين !

                        قال : فسمعتها وهي تقول : ألا إن نبيكم قد برئ ممن فرق دينه واحتزب ، وتلت : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء )
                        .

                        قال القاضي إسماعيل : " أحسبه يعني بقوله : أم المؤمنين : أم سلمة ، وأن ذلك قد ذكر في بعض الحديث ، وقد كانت عائشة في ذلك [ ص: 81 ] الوقت حاجة .

                        وعن أبي هريرة أنها نزلت في هذه الأمة .

                        وعن أبي أمامة : هم الخوارج .

                        قال القاضي : " ظاهر القرآن يدل على أن كل من ابتدع في الدين بدعة من الخوارج وغيرهم; فهو داخل في هذه الآية; لأنهم إذا ابتدعوا تجادلوا وتخاصموا وتفرقوا وكانوا شيعا .

                        ومنها قوله تعالى : ( ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ) . قرئ : " فارقوا دينهم " .

                        وفسر عن أبي هريرة أنهم الخوارج . ورواه أبو أمامة مرفوعا .

                        وقيل : هم أصحاب الأهواء والبدع .

                        قالوا : روته عائشة رضي الله عنها مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

                        وذلك لأن هذا شأن من ابتدع; حسبما قاله إسماعيل القاضي ، وكما تقدم في الآي الأخر .

                        ومنها قوله تعالى : ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ) .

                        [ ص: 82 ] فعن ابن عباس أن لبسكم شيعا هو الأهواء المختلفة .

                        ويكون على هذا قوله : ( ويذيق بعضكم بأس بعض ) : تكفير البعض للبعض حتى يتقاتلوا ، كما جرى للخوارج حين خرجوا على أهل السنة والجماعة .

                        وقيل : معنى ( أو يلبسكم شيعا ) : ما فيه إلباس من الاختلاف .

                        وقال مجاهد وأبو العالية : " إن الآية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم " .

                        قال أبو العالية : " هن أربع ، ظهر اثنتان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة : فألبسوا شيعا ، وأذيق بعضكم بأس بعض ، وبقيت اثنتان ، فهما ولا بد واقعتان ، الخسف من تحت أرجلكم ، والمسخ من فوقكم " .

                        وهذا كله صريح في أن اختلاف الأهواء مكروه غير محبوب ، ومذموم غير محمود .

                        وفيما نقل عن مجاهد في قول الله : ( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) :

                        قال في المختلفين : إنهم أهل الباطل .

                        ( إلا من رحم ربك ) ; قال : " فإن أهل الحق ليس فيهم اختلاف " .

                        وروي عن مطرف بن الشخير : أنه قال : " لو كانت الأهواء كلها [ ص: 83 ] واحدا; لقال القائل : لعل الحق فيه ! فلما تشعبت وتفرقت; عرف كل ذي عقل أن الحق لا يتفرق .

                        وعن عكرمة ( ولا يزالون مختلفين ) يعني في الأهواء ( إلا من رحم ربك ) هم أهل السنة .

                        ونقل أبو بكر ثابت الخطيب عن منصور بن عبد الله بن عبد الرحمن ; قال : كنت جالسا عند الحسن ورجل خلفي قاعد ، فجعل يأمرني أن أسأله عن قول الله : ( ولا يزالون مختلفين ) قال : نعم ( لا يزالون مختلفين ) على أديان شتى ( إلا من رحم ربك ) ، فمن رحم غير مختلف .

                        وروى ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز ، ومالك بن أنس : أن أهل الرحمة لا يختلفون .

                        ولهذه الآية بسط يأتي بعد إن شاء الله .

                        وفي البخاري عن عمرو عن مصعب ; قال : " سألت أبي عن قوله تعالى : ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ) ; هم الحرورية ؟ قال : لا ; هم اليهود والنصارى ، أما اليهود ; فكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم ، وأما النصارى فكذبوا بالجنة ، وقالوا : لا طعام فيها ولا شراب . والحرورية ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ) .

                        [ ص: 84 ] وكان شعبة يسميهم الفاسقين .

                        وفي تفسير سعيد بن منصور ، عن مصعب بن سعد ، قال : قلت لأبي : ( الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) ; أهم الحرورية ؟ قال : لا ! أولئك أصحاب الصوامع ، ولكن الحرورية الذين قال الله فيهم : ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) .

                        وخرج عبد بن حميد في ( تفسيره ) هذا المعنى بلفظ آخر عن مصعب بن سعد ، فأتى على هذه الآية : ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ) إلى قوله : ( يحسنون صنعا ) ، قلت : أهم الحرورية ؟ قال : لا ; هم اليهود والنصارى ، أما اليهود فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأما النصارى ; فكفروا بالجنة ، وقالوا : ليس فيها طعام ولا شراب ، ولكن الحرورية : ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض )

                        فالأول : لأنهم خرجوا عن طريق الحق بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنهم تأولوا التأويلات الفاسدة ، وكذا فعل المبتدعة وهو بابهم الذي دخلوا فيه .

                        والثاني : لأنهم تصرفوا في أحكام القرآن والسنة هذا التصرف .

                        فأهل حروراء وغيرهم من الخوارج قطعوا قوله تعالى : ( إن الحكم إلا لله ) [ ص: 85 ] عن قوله : ( يحكم به ذوا عدل ) وغيرهما ، وكذا فعل سائر المبتدعة حسبما يأتيك بحول الله .

                        ومنه [ ما ] روى عمرو بن مهاجر ; قال : " بلغ عمر بن عبد العزيز رحمه الله أن غيلان القدري يقول في القدر ، فبعث إليه ، فحجبه أياما ، ثم أدخله عليه فقال : يا غيلان ! ما هذا الذي بلغني عنك ؟ " .

                        قال عمرو بن مهاجر : " فأشرت إليه ألا يقول شيئا " .

                        قال : " فقال : نعم يا أمير المؤمنين : إن الله عز وجل يقول : ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ) .

                        قال عمر : اقرأ إلى آخر السورة : ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما ) .

                        ثم قال : ما تقول يا غيلان ؟

                        قال أقول : قد كنت أعمى فبصرتني ، وأصم فأسمعتني ، وضالا فهديتني .

                        [ ص: 86 ] فقال عمر : اللهم إن كان عبدك غيلان صادقا ، وإلا فاصلبه " .

                        قال فأمسك عن الكلام في القدر ، فولاه عمر بن عبد العزيز دار الضرب بدمشق ، فلما مات عمر بن عبد العزيز وأفضت الخلافة إلى هشام ; تكلم في القدر ، فبعث إليه هشام ، فقطع يده ، فمر به رجل والذباب على يده ، فقال : يا غيلان ! هذا قضاء وقدر . قال : كذبت - لعمر الله - ما هذا قضاء ولا قدر; فبعث إليه هشام فصلبه " .

                        والثالث : لأن الحرورية جردوا السيوف على عباد الله ، وهو غاية الفساد في الأرض ، وذلك كثير من أهل البدع شائع ، وسائرهم يفسدون بوجوه من إيقاع العداوة والبغضاء بين أهل الإسلام .

                        وهذه الأوصاف الثلاثة تقتضيها الفرقة التي نبه عليها الكتاب والسنة :

                        كقوله تعالى : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا ) وقوله تعالى : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ) .

                        وأشباه ذلك .

                        وفي الحديث : " إن الأمة تتفرق على بضع وسبعين فرقة " .

                        وهذا التفسير في الرواية الأولى لمصعب بن سعد أيضا ، فقد وافق أباه على المعنى المذكور .

                        ثم فسر سعد بن أبي وقاص في رواية سعيد بن منصور : أن ذلك بسبب [ ص: 87 ] الزيغ الحاصل فيهم ، وذلك قوله تعالى : ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) ، وهو راجع إلى آية آل عمران في قوله : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ) . الآية; فإنه رضي الله عنه أدخل الحرورية في الآيتين بالمعنى ، وهو الزيغ في إحداهما ، والأوصاف المذكورة في الأخرى; لأنها فيهم موجودة .

                        فآية الرعد تشمل [ الحرورية ] بلفظها; لأن اللفظ فيها يقتضي العموم لغة ، وإن حملناها على الكفار خصوصا; فهي تعطي أيضا فيهم حكما من جهة ترتيب الجزاء على الأوصاف المذكورة حسبما هو مبين في الأصول .

                        وكذلك آية الصف; لأنها خاصة بقوم موسى عليه السلام ، ومن هنا كان شعبة يسميهم الفاسقين أعني : الحرورية لأن معنى الآية واقع عليهم ، وقد جاء فيها : ( والله لا يهدي القوم الفاسقين ) ، والزيغ أيضا كان موجودا فيهم ، فدخلوا في معنى قوله : ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) ، ومن هنا يفهم أنها لا تختص من أهل البدعة بالحرورية ، بل تعم كل من اتصف بتلك الأوصاف التي أصلها الزيغ ، وهو الميل عن الحق اتباعا للهوى .

                        وإنما فسرها سعد رضي الله عنه بالحرورية ; لأنه إنما سئل عنهم على الخصوص ، والله أعلم; لأنهم أول من ابتدع في دين الله ، فلا يقتضي ذلك تخصيصا .

                        [ ص: 88 ] وأما المسئول عنها أولا وهي آية الكهف فإن سعدا نفى أن تشمل الحرورية .

                        وقد جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه فسر ( الأخسرين أعمالا ) بالحرورية أيضا .

                        فروى عبد بن حميد عن أبي الطفيل ; قال : " قام ابن الكواء إلى علي ، فقال : يا أمير المؤمنين ! من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ؟

                        قال : منهم أهل حروراء " .

                        وهو أيضا منقول في " تفسير سفيان الثوري " .

                        وفي " جامع ابن وهب " : " أنه سأله عن الآية ؟ فقال له : ارق إلي أخبرك وكان على المنبر فرقي إليه درجتين ، فتناوله بعصا كانت في يده ، فجعل يضربه بها ، ثم قال له علي : أنت وأصحابك " .

                        وخرج عبد بن حميد أيضا عن محمد بن جبير بن مطعم ; قال : أخبرني رجل من بني أود : " أن عليا خطب الناس بالعراق وهو يسمع ، فصاح به ابن الكواء من أقصى المسجد ، فقال : يا أمير المؤمنين ! من ( الأخسرين أعمالا ) ؟ قال : أنت ، فقتل ابن الكواء يوم الخوارج " .

                        ونقل بعض أهل التفسير : " أن ابن الكواء سأله ؟ فقال : أنتم أهل حروراء ، وأهل الرياء ، والذين يحبطون الصنيعة بالمنة " .

                        فالرواية الأولى تدل على أن أهل حروراء بعض من شملته الآية .

                        [ ص: 89 ] ولما قال سبحانه في وصفهم : ( الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ) ; وصفهم بالضلال مع ظن الاهتداء ، دل على أنهم المبتدعون في أعمالهم عموما ، كانوا من أهل الكتاب أولا ، من حيث قال النبي : كل بدعة ضلالة وسيأتي شرح ذلك بعون الله .

                        فقد يجتمع التفسيران في الآية ، تفسير سعد بأنهم اليهود والنصارى ، وتفسير علي بأنهم أهل البدعة; لأنهم قد اتفقوا على الابتداع ، ولذلك فسر كفر النصارى بأنهم تأولوا في الجنة غير ما هي عليه ، وهو التأويل بالرأي .

                        فاجتمعت الآيات الثلاث على ذم البدعة وأهلها ، وأشعر كلام سعد بن أبي وقاص بأن كل آية اقتضت وصفا من أوصاف المبتدعة ، فهم مقصدون بما فيها من الذم والخزي وسوء الجزاء ، إما بعموم اللفظ ، وإما بمعنى الوصف .

                        وروى ابن وهب أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بكتاب في كتف فقال : " كفى بقوم حمقا أو قال : ضلالا أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى غير نبيهم ، أو كتاب إلى غير كتابهم " فنزلت : ( أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ) .

                        وخرج عبد الحميد عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من [ ص: 90 ] رغب عن سنتي فليس مني " ، ثم تلا هذه الآية : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) إلى آخر الآية .

                        وخرج هو وغيره عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه في قول الله : ( علمت نفس ما قدمت وأخرت ) ; قال : " ما قدمت من عمل خير أو شر ، وما أخرت من سنة يعمل بها من بعده " .

                        وهذا التفسير قد يحتاج إلى تفسير ، فروي عن عبد الله ; قال : " ما قدمت من خير ، وما أخرت من سنة صالحة يعمل بها من بعدها ، فإن له مثل أجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، وما أخرت من سنة سيئة ، كان عليه مثل وزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا " .

                        خرجه ابن مبارك وغيره .

                        وجاء عن سفيان بن عيينة و أبي قلابة وغيرهما أنهم قالوا : " كل صاحب بدعة أو فرية ذليل " ، واستدلوا بقول الله تعالى : ( إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين ) .

                        وخرج ابن وهب عن مجاهد في قول الله : ( إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم ) ; يقول : " ما قدموا من خير ، وآثارهم التي [ ص: 91 ] أورثوا الناس بعدهم من الضلالة .

                        وخرج أيضا عن ابن عون ، عن محمد بن سيرين أنه قال : إني أرى أسرع الناس ردة ، أصحاب الأهواء " .

                        قال ابن عون : " وكان ابن سيرين يرى أن هذه الآية في أصحاب الأهواء : ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ) .

                        وذكر الآجري عن أبي الجوزاء أنه ذكر أصحاب الأهواء فقال : " والذي نفس أبي الجوزاء بيده; لأن تمتلئ داري قردة وخنازير أحب إلي من أن يجاورني رجل منهم ، ولقد دخلوا في هذه الآية : ( ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله ) إلى قوله : ( إن الله عليم بذات الصدور ) .

                        والآيات المصرحة والمشيرة إلى ذمهم والنهي عن ملابسة أحوالهم كثيرة ، فلنقتصر على ما ذكرنا ، ففيه إن شاء الله الموعظة لمن اتعظ ، والشفاء لما في الصدور .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية