الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1 - عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لامرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ، ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها ، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " . متفق عليه .

التالي السابق


1 - ( عن عمر بن الخطاب ) : وهو الناطق بالصواب ، المسمى بالفاروق على ما دل عليه الكتاب ، وأول من سمي بأمير المؤمنين فيما بين الأصحاب ( رضي الله عنه ) : وهو . عدوي قرشي يجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في كعب بن لؤي ، كناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي حفص ، وهو لغة : الأسد ، ولقبه بالفاروق لفرقانه بين الحق ، والباطل . قال القاضي في تفسيره عند قوله تعالى : ( يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن منافقا خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ، ثم إنهما احتكما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحكم لليهودي ، فلم يرض المنافق ، وقال : نتحاكم إلى عمر ، فقال اليهودي لعمر : قضى لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يرض بقضائه ، وخاصم إليك ، فقال عمر للمنافق : أكذلك ؟ قال : نعم ، فقال : مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل فأخذ سيفه ، ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى برد ، وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله ، فنزلت . وقال جبريل : إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمي : الفاروق . وقيل بإسلامه ، إذ أمر المسلمين قبله كان في غاية من الخفاء ، وبعده على غاية من الظهور ، والجلاء ، أسلم بعد أربعين رجلا وعشرة سنة ست من النبوة . وقيل : أسلم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة وثلاثون رجلا ، وست نسوة ، ثم أسلم عمر ; فنزلت : ( يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) . بويع له بالخلافة بعد موت الصديق بعهده إليه ، ونصه عليه سنة ثلاث عشرة من الهجرة ، ففتح البلاد الكثيرة ، والفتوح الشهيرة ، واستشهد على يد نصراني اسمه أبو لؤلؤة غلام مغيرة بن شعبة بالمدينة في صلاة الصبح من يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة عام ثلاث وعشرين من الهجرة ، وهو ابن ثلاث وستين على الأصح ، وكانت خلافته عشر سنين ونصفا ، وصلى عليه صهيب ، روى عنه أبو بكر ، وباقي العشرة ، وخلق كثير من الصحابة ، والتابعين ، أحاديثه المرفوعة خمسمائة وسبعة وثلاثون ، له في الصحيحين أحد وثمانون انفرد البخاري منها بأربعة وثلاثين ، ومسلم بأحد وعشرين ، نقش خاتمه : كفى بالموت [ ص: 41 ] شديدا في أمر الله ، عاقلا مجتهدا صابرا محتسبا ، جعل الحق على لسانه ، وأعز الدين به ، واستبشر أهل السماء بإسلامه ، وله فضائل لا تحد ، وشمائل لا تعد ( قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :

( 1 ) [ ( إنما الأعمال بالنيات ) ] قيل : كلمة : ( إنما ) بسيطة . وقيل : مركبة من : أن ، وما الكافة ، أو الزائدة للتأكيد . وقيل : مركبة من أن ، وما النافية فهي عاملة بركنيها إيجابا ، ونفيا فبحرف التحقيق يثبت الشيء ، وبحرف النفي ينفى ما عداه ، وما اعتراض عليه من لزوم اجتماع الضدين على شيء واحد ، ومن : أن ، وما كلاهما يقتضي الصدارة - مدفوع بأن هذا إنما هو قبل التركيب ، وأما بعده فقد صار علما مفردا على إفادة الحصر ، وتضاعيفه يفيد القصر ، لأنه ليس إلا تأكيدا للحكم على تأكيد ، واتفق أهل العربية ، والأصول على أنها موضوعة للحصر خلافا لما نقل عن أكثر النحاة لصحة : إنما قام زيد في جواب هل قام عمرو ؟ كما يجاب بـ : ما قام إلا زيد ، ولورود قوله تعالى ( فإنما على رسولنا البلاغ المبين ) و ( ما على الرسول إلا البلاغ ) وإذا تقرر أنها للحصر فتثبت المذكور ، وتنفي الحكم عن غيره في نحو : إنما قام زيد أي : لا عمرو ، أو غير الحكم عن المذكور في نحو : إنما زيد قائم أي : لا قاعد ، ومما يدل له حديث : ( إنما الماء من الماء ) فإن الصحابة الآخذين بقضيته لم يعارضهم جمهورهم القائلون بوجوب الغسل ، وإن لم ينزل بأن إنما لا تفيده ، وإنما عارضوهم بأدلة أخرى كحديث : ( إذا التقى الختانان وجب الغسل " ، وقد استدل ابن عباس - لما تفرد به قيل : ورجع عنه لما اشتد إنكار أبي سعيد الخدري عليه - بخبر : ( إنما الربا في النسيئة ) ، ولم ينازعه الصحابة فيه ، بل عارضوه في الحكم بأدلة أخرى ، فدل على اتفاقهم على أنها للحصر فالتقدير : إن الأعمال تعتبر إذا كانت بنية ، ولا تعتبر إذا كانت بلا نية ; فتصير إنما بمعنى ما وإلا . وقيل : الحصر مستفاد من الجمع المحلى باللام ; فإنه مفيد للاستغراق ، وهو مستلزم للحصر ، فالمعنى ليست الأعمال حاصلة بالنية ، ولا يمكن هنا نفي نفس الأعمال لثبوتها حسا ، وصورة من غير اقتران النية بها ، فلا بد من إضمار شيء يتوجه إليه النفي ، ويتعلق به الجار . فقيل : التقدير صحيحة ، أو تصح كما هو رأي الشافعي ، وأتباعه . وقيل : كاملة ، أو تكمل على رأي أبي حنيفة ، وأصحابه ، والأظهر أن المقدر : معتبرة ، أو تعتبر ; ليشمل الأعمال كلها سواء كانت عبادات مستقلات كالصلاة ، والزكاة فإن النية تعتبر لصحتها إجماعا ، أو شروطا في الطاعات كالطهارة ، وستر العورة فإنها تعتبر لحصول ثوابها اتفاقا ; لعدم توقف الشروط على النية في الصحة ، خلافا للشافعي في الطهارة فعليه بيان الفرق ، أو أمورا مباحة فإنها قد تنقلب بالنيات حسنات كما أنها قد تنقلب سيئات بلا خلاف . غاية ما في الباب أن متعلق الصحة ، والكمال يعرف من الخارج ، ولا محذور فيه ، ويدل على ما قلنا أن الأعمال جمع محلى باللام فيستغرق كل عمل سواء أكان من العبادات ، أو غيرها ، ويشمل المتروكات أيضا ، فإنه لا ثواب في ترك الزنا ، والغصب ، ونحوها إلا بالنية ، وإن كانت صحيحة بدونها ، وكان هذا ملحظ من قال : المراد أعمال المكلفين . ويؤيده ما قال ابن دقيق العيد : ولا تردد عندي أن الحديث يشمل الأقوال ، ثم الباء للاستعانة . وقيل للمصاحبة ليعلم منه وجوب المقارنة لكنها تشعر بوجوب استصحابها إلى آخر العمل ; لأنه الظاهر من المعية ، ولا قائل به . نعم ، يشترط اتفاقا استصحابها مع العمل حكما بأن لا ينشئ منافيا ، وأيضا تشير إلى عدم جواز تقدمها على العمل ، وهو منقوض بنية الزكاة فإنها جائزة عند أفراد مال الزكاة ، وبنية الصوم في الليل فإنها أفضل بلا خلاف فالأولى هي الأولى ، وأوقات النيات في العبادات مختلفة ، محل بسطها الكتب الفقهية ، والنية بتشديد الياء ، وقد تخفف لغة : القصد ، وشرعا : توجه القلب نحو الفعل ابتغاء لوجه الله ، والقصد بها تمييز العبادة عن العادة فإن قيل : النية عمل من أعمال القلب ، فيحتاج إلى النية ، وبتسلسل أجيب : بأن المراد أعمال الجوارح بدلالة العقل ، وبدليل الخبر المعتبر : ( نية المؤمن خير من عمله ) ، وبدليل أن في العرف لا يطلق العمل على فعل الناوي اهـ .

[ ص: 42 ] وفيه : أن سائر أعمال القلوب لا تعتبر شرعا إلا بالنية ، وأن معنى الحديث عمل النية خير من عمل الجارحة لوجوه ذكرها الحجة في الإحياء . وأنه لا عبرة بالعرف مع أنه يختلف ، فالأظهر في الجواب استثناء النية ، وكذا الأمور الاعتقادية للدلالة العقلية . ثم لا يخفى أن النية باللسان مع غفلة الجنان غير معتبرة لما ورد من أن الله لا ينظر إلى صوركم ، ولا إلى أموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم ، وأعمالكم . وفي رواية : ولكن ينظر إلى قلوبكم ، ونياتكم ، فلو نوى الظهر بقلبه في وقته ، وتلفظ بنية العصر لا يضره بخلاف العكس ، وهذا معنى قولهم ، ولا معتبر باللسان . واختلفوا في التلفظ بما يدل على النية بعد اتفاقهم أن الجهر بالنية غير مشروع سواء يكون إماما ، أو مأموما ، أو منفردا فالأكثرون على أن الجمع بينهما مستحب ليسهل تعقل معنى النية ، واستحضارها . قال صاحب الهداية : ويحسن لاجتماع عزيمته . قال المحقق الإمام ابن الهمام : قال بعض الحفاظ : لم يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق صحيح ، ولا ضعيف أنه كان - عليه الصلاة والسلام - يقول عند الافتتاح : أصلي كذا ، ولا عن أحد من الصحابة ، والتابعين ، بل المنقول أنه كان - عليه الصلاة والسلام - إذا قام إلى الصلاة كبر ، وهذه بدعة اهـ . قال : وقد يفهم من قول المصنف لاجتماع عزيمته أنه لا يحسن لغير هذا القصد ، وهذا لأن الإنسان قد يغلب عليه تفرق خاطره فإذا ذكر بلسانه كان عونا على جمعه ، ثم رأيته في التجنيس . قال : والنية بالقلب لأنه عمله ، والتكلم لا معتبر به ، ومن اختاره لتجتمع عزيمته اهـ . كلامه . وقيل : لا يجوز التلفظ بالنية فإنه بدعة ، والمتابعة كما تكون في الفعل تكون في الترك أيضا ، فمن واظب على فعل لم يفعله الشارع ، فهو مبتدع . وقد يقال : نسلم أنها بدعة لكنها مستحسنة استحبها المشايخ للاستعانة على استحضار النية لمن احتاج إليها ، وهو - عليه الصلاة والسلام - ، وأصحابه لما كانوا في مقام الجمع والحضور لم يكونوا محتاجين إلى الاستحضار المذكور ، وقيل : التلفظ شرط لصحة الصلاة ، ونسبوه إلى الغلط ، والخطأ ، ومخالفة الإجماع ، لكن له محمل عندنا مختص بمن ابتلي بالوسوسة في تحصيل النية ، وعجز عن أدائها فإنه قيل في حقه إذا تلفظ بالنية سقط عنه الشرط دفعا للحرج . وأغرب ابن حجر ، وقال : إنه - عليه الصلاة والسلام - نطق بالنية في الحج فقسنا عليه سائر العبادات . قلنا له : ثبت العرش ، ثم انقش من جملة الواردات فإنه ما ورد نويت الحج ، وإنما ورد اللهم إني أريد الحج إلخ ، وهو دعاء ، وإخبار لا يقوم مقام النية إلا بجعله إنشاء ، وهو يتوقف على العقد ، والقصد الإنشائي غير معلوم ، فمع الاحتمال لا يصح الاستدلال ، مع عدم صحته جعله مقيسا عليه محال ، ثم قال : وعدم وروده لا يدل على عدم وقوعه . قلنا : هذا مردود بأن الأصل عدم وقوعه حتى يوجد دليل وروده ، وقد ثبت أنه - عليه الصلاة والسلام - قام إلى الصلاة فكبر فلو نطق بشيء آخر لنقلوه ، وورد في حديث المسيء صلاته أنه قال له : ( إذا قمت إلى الصلاة فكبر ) فدل على عدم وجود التلفظ . وذكر أبو داود أنه قال : قلت للبخاري : هل تقول شيئا قبل التكبير فقال : لا . انتهى .

وبما ذكرناه يتبين فساد بقية كلام ابن حجر من قوله : وأيضا فهو - عليه الصلاة والسلام - لا يأتي إلا بالأكمل ، وهو أفضل من تركه إجماعا ، والنقل الضروري حاصل بأنه لم يواظب على ترك الأفضل طول عمره فثبت أنه أتى في نحو الوضوء ، والصلاة بالنية مع النطق ، ولم يثبت أنه تركه ، والشك لا يعارض اليقين اهـ .

وقد علمت أن الأفضل المكمل عدم النطق بالنية مع أن دعوى الإجماع غير صحيحة ، فإن المالكية قالوا : بكراهته ، والحنبلية نصوا على أنه بدعة غير مستحب ، وإن أراد به الاتفاق بين الشافعية ، والحنفية فليس على الإطلاق بل محله إن احتاج إليه بالاستعانة عليه ، وقد ثبت تركه عند الحفاظ المحدثين بلا ريب فقوله : والشك لا يعارض اليقين مجازفة عظيمة من أعجب العجائب الذي يتحير فيه أولو الألباب حيث جعل الوهم يقينا ، وثبوت الحفاظ ريبا ، لا يقال :

[ ص: 43 ] المثبت مقدم على النافي لأنا نقول : محله إذا تعارض دليلان أحدهما على النفي ، والآخر على الإثبات ، والخصم هنا سواء جعلناه مثبتا ، أو نافيا ، ليس معه دليل ، ودليلنا على النفي ثابت بنقل المحدثين المؤيد بالأصل الذي هو عدم الوقوع فتأمل فإنه موضع زلل ، ومحل خطل ، ثم رأيت ابن القيم ذكر في زاد المعاد في هدي خير العباد ، وهذا لفظه كان - عليه الصلاة والسلام - إذا قام إلى الصلاة قال : ( الله أكبر ) ، ولم يقل شيئا قبلها ، ولا تلفظ بالنية ، ولا قال : ( أصلي لله صلاة كذا مستقبل القبلة أربع ركعات إماما ، أو مأموما ) ، ولا قال : أداء ، ولا قضاء ، ولا فرض الوقت ، وهذه عشر بدع لم ينقل عنه - عليه الصلاة والسلام - أحد قط بإسناد صحيح ، ولا ضعيف ، ولا مسند ، ولا مرسل لفظة واحدة منها البتة ، بل ولا عن أحد من الصحابة ، ولا استحبه أحد من التابعين ، ولا الأئمة الأربعة ، وإنما غر بعض المتأخرين قول الشافعي في الصلاة أنها ليست كالصيام لا يدخل فيها أحد إلا بذكر فظن أن الذكر تلفظ المصلي بالنية ، وأن مراد الشافعي بالذكر تكبيرة الإحرام ليس إلا ، وكيف يستحب الشافعي أمرا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة واحدة ، ولا أحد من خلفائه ، وأصحابه ، وهذا هديهم ، وسيرتهم ; فإن أوجدنا أحد حرفا واحدا عنهم في ذلك قبلناه ، وقابلناه بالقبول ، والتسليم ، ولا هدي أكمل من هديهم ، ولا سنة إلا ما تلقوه عن صاحب الشرع - صلى الله عليه وسلم - اهـ .

وصرح السيد جمال الدين المحدث بنفي رواية التلفظ بالنية عن المحدثين ، وكذا ذكره الفيروزأبادي صاحب القاموس في كتابه المسمى بالصراط المستقيم . وقال القسطلاني في المواهب : وبالجملة فلم ينقل أحد أنه - عليه الصلاة والسلام - تلفظ بالنية ، ولا أعلم أحدا من أصحابه التلفظ بها ، ولا أقره على ذلك بل المنقول عنه في السنن أنه قال : ( مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم ) . نعم اختلف العلماء في التلفظ بها ، فقال قائلون : هو بدعة ؛ لأنه لم ينقل فعله ، وقال آخرون : هو مستحب ؛ لأنه عون على استحضار النية القلبية ، وعبادة للسان كما أنها عبودية للقلب ، والأفعال المنوية عبادة الجوارح ، وبنحو ذلك أجاب الشيخ تقي الدين السبكي ، والحافظ عماد الدين ابن كثير ، وأطنب ابن القيم في الهدي في رد الاستحباب ، وأكثر من الاستدلال بما في ذكره طول يخرجنا عن المقصود ، لاسيما والذي استقر عليه أصحابنا استحباب النطق بها ، وقاسه بعضهم على ما في الصحيحين من حديث أنس أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبي بالحج ، والعمرة جميعا يقول : ( لبيك عمرة ، وحجة ) ، وهذا تصريح باللفظ ، والحكم كما يثبت بالنص يثبت بالقياس لكنه تعقب هذا بأنه - عليه الصلاة والسلام - قال ذلك في ابتداء إحرامه تعليما للصحابة ما يهلون به ، ويقصدونه من النسك ، ولقد صلى - عليه الصلاة والسلام - ثلاثين ألف صلاة فلم ينقل عنه أنه قال : نويت أصلي صلاة كذا ، وكذا ، وتركه سنة كما أن فعله سنة فليس لنا أن نسوي بين ما فعله ، وتركه فنأتي من القول في الموضع الذي تركه بنظير ما أتي له في الموضع الذي فعله ، والفرق بين الحج ، والصلاة أظهر من أن يقاس أحدهما بالآخر ، ثم اللام في النيات عوض عن المضاف إليه أي : إنما الأعمال بنياتها ، أو الحديث من باب مقابلة الجمع بالجمع على حد ركب القوم دوابهم . قال ابن الهمام : هذا حديث مشهور متفق على صحته ، وأما ألفاظه فإنما الأعمال بالنيات ، وبالنية ، والأعمال بالنية ، والعمل بالنية كلها في الصحيح ، وأما الأعمال بالنيات كما في الكتاب يعني الهداية فقال النووي في كتابه بستان العارفين ، ولم يكمله نقلا عن الحافظ أبي موسى الأصفهاني : أنه لا يصح إسناده ، وأقره ، ونظر بعضهم فيه ، إذ قد رواه كذلك ابن حبان في صحيحه ، والحاكم في أربعينه ، ثم حكم بصحته . قلت : وهو رواية عن إمام المذهب في مسند أبي حنيفة - رحمه الله - رواه عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة عن أبي وقاص الليثي عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( الأعمال بالنيات ) الحديث . ورواه ابن الجارود في المنتقى : ( إن الأعمال بالنيات ، وإن لكل امرئ ما نوى ) اهـ .

وروي عن الشافعي في فضل هذا الحديث أنه يدخل فيه نصف العلم ، ووجهه : أن النية عبودية القلب ، والعمل عبودية القالب ، أو أن الدين إما ظاهر ، وهو العمل ، أو باطن ، وهو النية ، فهو كقوله - عليه الصلاة والسلام - : ( تعلموا الفرائض فإنها نصف العلم ) لتعلقها بالموت المقابل للحياة ، وروي عنه ما يدل على أنه ربع العلم كما قال :


عمدة الخير عندنا كلمات أربع قالهن خير البرية

اتق الشبهات ، وازهد ، ودع ما
ليس يعنيك ، واعمل بنية



[ ص: 44 ] إشارة إلى الأحاديث الأربعة فكأنه اعتبر اتقاء السيئات ، والزهد في المباحات ، وترك الفضولات ، والعمل بالنيات في جميع الحالات . وروي عنه ، وعن أحمد أنه ثلث الإسلام ، أو ثلث العلم ، ووجهه البيهقي بأن كسب العبد إما بقلبه كالنية ، أو بلسانه ، أو ببقية جوارحه ، والأول أحد الثلاثة بل أرجحها ؛ لأنه عبادة بانفرادها ، وهذا وجه خير ( نية المؤمن خير من عمله ) ، وفي رواية أبلغ ، وفي أخرى زيادة : ( إن الله عز وجل ليعطي العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله ) ، وذلك أن النية لا رياء فيها ، والعمل يخالطه الرياء ، وله طرق ضعيفة يتقوى بمجموعها ، ولا يعارضه حديث : ( من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له واحدة ، ومن عملها كتبت له عشرة ) الموهم أن العمل خير منها لأن كتابة العشر ليست على العمل وحده بل معها ؛ لأنها شرط لصحته ، وهو ليس شرطا لصحتها ، ولهذا يثاب على النية المجردة فانقلب هذا الحديث دليلا على خيريتها ، وظهر فساد ما قيل : المراد أن النية خير من العمل بلا نية لا معها لئلا يلزم أن الشيء خير من نفسه مع غيره ، والعجب من ابن حجر حيث ذكر هذا القيل ، وقرره بالتعليل ، وأما قوله : ومن خيريتها على العمل أنها تقتضي التخليد في الجنة ، أو النار إذ المؤمن ناو الإيمان دائما ، والكافر ناو الكفر دائما فقوبل التأبيد بالتأبيد ، ولو نظر للعمل لكان الثواب ، أو العقاب لقدر مدته فمدخول ومعلول فإنه لا يقال نية الكافر خير من عمله ، بل مفهوم الحديث أن عمل الكافر خير من نيته ، نعم ذكروا في جانب الجنة أن دخولها بالإيمان ، ودرجاتها بالأعمال ، وخلودها بالنية ، أو من باب الإفضال فلا إشكال ، وأما دخول الكفار في النار فلكفرهم ، ودركاتها على قدر أعمالهم السيئة فكان مقتضى العقل في ظاهر العدل أن الكافر الذي عاش في الدنيا مائة سنة مثلا أن يعذب قدرها ، فقالوا : التخليد في مقابلة نيته من التأبيد فإنه لو فرض أنه عاش أبد الآباد لاستمر على كفره المعتاد ، ثم قيل : ضمير عمله الكافر معهود ، وهو السابق كبناء قنطرة عزم مسلم على بنائها ، والقول بأن خير ليست بمعنى أفعل التفضيل : والمعنى النية خير من جملة الخيرات ساقط عن الاعتبار من جميع الجهات . قال ابن حجر : واختلفوا في النية السيئة ، والحق أنه لا عقاب عليها إلا إن انضم إليها عزم ، أو تصميم أي : عزم على الفعل بالفعل ، أو تصميم على أنه سيفعل ، وفيه أن النية لا تكون إلا مع العزيمة : وإلا فمع التردد تسمى خطرة ، وهي مرفوعة بالإجماع . قال في المدارك عند قوله تعالى : ( وإن تبدوا ما في أنفسكم ) الآية ، ولا تدخل الوساوس ، وحديث النفس فيما يخفيه الإنسان لأن ذلك مما ليس في وسعه الخلو عنه ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، ولكن ما اعتقده ، وعزم عليه ، والحاصل أن عزم الكفر كفر ، وخطرة الذنوب من غير عزم معفو عنها ، وعزم الذنب إذا ندم عليه ، ورجع عنه معفو عنه بل يثاب ، فأما إذا هم بسيئة ، وهو ثابت على ذلك إلا أنه منع عنه بمانع لا باختياره فإنه لا يعاقب على ذلك عقوبة فعله أي : بالعزم على الزنا لا يعاقب عقوبة الزنا ، وهل يعاقب عقوبة عزم الزنا ؟ قيل : لا ، لقوله - عليه الصلاة والسلام - : ( إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به أنفسهم ما لم تعمل ، أو تتكلم به ) . والجمهور على أن الحديث في الخطرة دون العزم ، وأن المؤاخذة في العزم ثابتة ، وإليه مال الشيخ أبو منصور ، وشمس الأئمة الحلواني ، والدليل عليه قوله تعالى : ( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة ) الآية . وقال ابن حجر : فإن قلت : ونية الحسنة كذلك قلت : فرق بأن ناوي الحسنة يثاب عليها ، وعلى نيتها ، وناوي السيئة إنما يعاقب على نيتها فقط . قلت : لا حاجة إلى الفرق فإن لكل امرئ ما نوى ، ثم ما ذكره من الفرق غير صحيح ؛ لأنه إن أراد التعدد الحقيقي ، فهو غير ثابت ، وإن أراد التعدد الحكمي ، وهو الزيادة في الكيفية دون الكمية كما أشار إليه بقوله : ومعنى ثوابه على الأولين أنه يكتب له حسنة عظيمة لكن باعتبارين ، فهذا جار في السيئة أيضا . ومن جملة الفروع المتعلقة بهذا الحديث أن من سبق لسانه بمكفر يدين خلافا لبعض المالكية إذ لا نية له ، ويؤيدنا خبر مسلم في الذي ضلت راحلته ، ثم وجدها ، فقال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي ، وأنا ربك قال - عليه الصلاة والسلام - : ( أخطأ من شدة الفرح ) .

[ ص: 45 ] قال ابن حجر : فإن قلت : ظاهر كلام بعضهم قبول دعواه سبق اللسان هنا ، ولو من غير قرينة فينافيه ما مر في نحو الطلاق أنه لا بد من قرينة فما الفرق ؟ قلت : أما بالنسبة إلى الباطن فهما على حد سواء فلا شيء عليه باطنا فيهما حيث سبق لسانه ، وأما ظاهرا فلا بد من قرينة في الطلاق ، وكذا الكفر كما هو ظاهر ، ويحتمل قبوله فيه ظاهرا مطلقا ، ويفرق بأنه يغتفر في حق الله ما لا يغتفر في حق غيره لبناء حقه تعالى على المسامحة ، وحق الآدمي على المشاحة ، ومنها أن من وطئ ، أو شرب ، أو قتل يظن الحليلة [ ونحو الماء ، وغير المعصوم ] فبان محرما لا يأثم ، وفي عكسه يأثم اعتبارا بالنية فيها . وقال بعض العلماء : استثنى بعض الأعمال من هذا العموم كصريح الطلاق ، والعتاق لأن تعيين الشارع هذه الألفاظ لأجل هذه المعاني بمنزلة النية ، ولا يخفى أن هذا إنما هو بالنسبة إلى الصحة ، والجواز ، وأما بالنسبة إلى الثواب فلا بد من تصحيح النية ، والله أعلم .



[ ( وإنما لامرئ ) ] أي : الشخص . وفي رواية : وإنما لكل امرئ [ ( ما نوى ) ] أي : جزاء الذي نواه من خير ، أو شر ، أو جزاء عمل نواه ، أو نيته دون ما لم ينوه ، أو نواه غيره له ، ففيهبيان لما تثمره النية من القبول ، والرد ، والثواب ، والعقاب ، وغير ذلك كإسقاط القضاء ، وعدمه ، إذ لا يلزم من صحة العمل قبوله ، ووجود ثوابه لقوله تعالى : ( إنما يتقبل الله من المتقين ) ففهم من الجملة الأولى أن الأعمال لا تكون محسوبة إلا بالنية ، ومن هذه أنها إنما تكون مقبولة بالإخلاص ، وحاصل الفرق أن النية في الأول متعلقة بنفس العمل ، وفي الثاني متوجهة إلى ما لأجله العمل من الأمل ، وقيل : هذه مؤكدة للأولى تنبيها على سر الإخلاص ، ونوقش بأن تنبيهها على ذلك يمنع إطلاق كونها مؤكدة ، وقيل : المراد بالأعمال العبادات ، وبالثاني الأمور المباحات فإنها لا تفيد المثوبات إلا إذا نوى بها فاعلها القربات كالمآكل ، والمشارب ، والمناكح ، وسائر اللذات إذا نوى بها القوة على الطاعات لاستيفاء الشهوات ، وكالتطيب إذا قصد إقامة السنة ، ودفع الرائحة المؤذية عن عباد الله تعالى ، ففي الجملة كل عمل صدر عنه لداعي الحق ، فهو الحق ، وكذا المتروكات لا يترتب عليها المثوبات إلا بالنيات . روي أن رجلا من بني إسرائيل مر بكثبان رمل في مجاعة ، فقال في نفسه : لو كان هذا الرمل طعاما لقسمته بين الناس فأوحى الله إلى نبيهم : قل إن الله قد صدقك ، وشكر حسن صنيعك ، وأعطاك ثواب ما لو كان طعاما فتصدقت به . وقال الخطابي في إعلام الحديث ، واختاره النووي أن هذه إشارة إلى إيجاب تعيين المنوي فلا بد أن ينوي في الفائتة من كونها ظهرا ، أو عصرا ، ولولاه لدل إنما الأعمال على الصحة بلا تعيين ، أو أوهم ذلك اهـ .

وكذلك إذا عمل عملا ذا وجهين أو وجوه من القربات كالتصديق على القريب الذي يكون جارا له ، وفقيرا ، أو غير ذلك من الأوصاف التي يستحق بها الإحسان ، ولم ينو إلا وجها واحدا لم يحصل له ذلك بخلاف ما إذا نوى جميع الجهات فعلم سر تأخير هذه الجملة ، وأنهما متغايرتان ، قيل : المفهوم منه أن نية الخاص في ضمن نية العام غير معتبرة كما قال به بعض ، وقال بعضهم : إنها معتبرة ، ويدل عليه حديث : ( الخيل لثلاثة ) إلخ . والله أعلم . وقيل : النية في الحديث محمولة على معناها اللغوي ليحسن تطبيقه على ما بعده ، وتقسيمه بقوله : [ ( فمن كانت هجرته إلى الله ، و ) ] : إلى [ ( رسوله ) ] : فإنه تفصيل ما أجمله ، واستنباط المقصود عما أصله ، وتحريره أن قوله : إنما لامرئ ما نوى دل على أن الأعمال تحسب بحسب النية إن كانت خالصة لله فهي له تعالى ، وإن كانت للدنيا فهي لها ، وإن كانت لنظر الخلق فهي لذلك ، فالتقدير إذا تقرر أن لكل إنسان منويه من طاعة ، أو مباح ، أو غيرهما فمن كانت هجرته من الهجر ، وهو الترك الذي هو ضد الوصل ، والمراد هنا ترك الوطن الذي بدار الكفر إلى دار الإسلام كهجرة الصحابة لما اشتد بهم أذى أهل مكة منها إلى الحبشة ، وإلى المدينة قبل هجرته - عليه الصلاة والسلام - ، وبعدها ، ولما احتاجوا إلى تعلم العلوم من أوطانهم إلى المدينة ، وقد تطلق كما في أحاديث على هجرة ما نهى الله عنه ، وفي معناها [ ص: 46 ] هجر المسلم أخاه ، وهجر المرأة مضجع زوجها ، وعكسه ، ومنها الهجرة من ديار البدعة إلى بلاد السنة ، والهجرة لطلب العلم ، وترك الوطن لتحصيل الحج ، وفي معناه الاعتزال عن الناس ، وأما قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( لا هجرة بعد الفتح ) محمول على خصوص الهجرة من مكة إلى المدينة ؛ لأن عموم الانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان باق على حاله ، وكذا الهجرة من المعاصي ثابتة لقوله - عليه الصلاة والسلام - : ( المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ) . والمراد المهاجر الكامل . وهذا معنى حديث : ( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ) قيل : المراد منها هاهنا إلى المدينة لذكر المرأة ، وحكاية أم قيس ، لكن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، والمعنى من قصد بهجرته وجه الله ، والتقرب إلى رضاه لا يخلطها بشيء من الأعراض الدنيوية ، فهو كناية عن تخليص النية ، أو ذكر الله توطئة لذكر الرسول تخصيصا له بالله ، وتعظيما للهجرة إليه ، أو ذكر الله للتزيين ، والإيماء إلى أن الهجرة إليه - عليه الصلاة والسلام - كالهجرة إلى الله تعالى . كقوله : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) في الثابت في النسخ المصححة إعادة الجار في الشرط ، والجزاء ، وهي تفيد الاستقلال في الحكم بمعنى أن كلا من الهجرتين يقوم مقام الأخرى في مرتبة القبول : [ ( فهجرته إلى الله ، و ) ] : إلى [ ( رسوله ) ] : لم يقل إليهما استلذاذا بتكرير اسمهما ، " وإلى " متعلقة بهجرته إن قدرت " كانت " تامة ، وبمحذوف هو خبرها إن كانت ناقصة أي : منتسبة إليهما ، والمراد أصل الكون لا بالنظر إلى زمن مخصوص ، أو وضعه الأصلي من المضي ، أو هنا من الاستقبال لوقوعها في حيز الشرط لفظا ، أو معنى للإجماع على استواء الأزمنة في الأحكام الشرعية إلا لمانع ، ثم من القواعد المقررة أنه لا بد من المغايرة بين الشرط ، والجزاء لحصول الفائدة فقيل : التقدير فمن كانت هجرته إلى الله ، ورسوله قصدا ، ونية فهجرته إلى الله ، ورسوله ثمرة ، ومنفعة ، فهو تمييز للنسبة ، ويجوز حذفه للقرينة ، وقيل : فمن كانت هجرته إلى الله ، ورسوله في الدنيا فهجرته إلى الله ورسوله في العقبى ، وقيل : الجملة الجزائية كناية عن قوله : فهجرته مقبولة ، أو صحيحة فأقيم السبب مقام المسبب ، وقيل : خبره مقدر من طرف الجزاء أي : فهجرته إلى الله ، ورسوله مقبولة أي : فهي كما نواها ، وقد وقع أجره على الله سواء مات في الطريق ، أو وصل إلى الفريق كقوله تعالى : ( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ) وقيل : اتحاد الشرط ، والجزاء لقصد التعظيم ، ولإرادة التحقير فيما سيأتي فيكون التغاير معنى بدليل قرائن السياق بأن يراد بالأول ما وجد خارجا ، وبالثاني ما عهد ذهنا على حد : أنت أنت أي : الصديق الخالص ، وهم هم أي : الذين لا يعرف قدرهم ، ومنه : أنا أبو النجم ، وشعري شعري . أي : الآن هو شعري الذي كان ، والكبر ما غير اللسان ، والحاصل أن يقال : فهجرته عظيمة ، ونتيجتها جسيمة . [ ( ومن كانت هجرته إلى دنيا ) ] : بضم الدال ، ويكسر ، وهي فعلى من الدنو ، وهو القرب لدنوها إلى الزوال ، أو لقربها من الآخرة منا ، ولا تنون لأن ألفها مقصورة للتأنيث ، أو هي تأنيث أدنى ، وهي كافية في منع الصرف ، وتنوينها في لغة شاذ ، ولإجرائها مجرى الأسماء ، ولخلعها عن الوصفية نكرت كرجعى ، ولو بقيت على وصفيتها لعرفت كالحسنى ، واختلفوا في حقيقتها مع أنه لا حقيقة لها فقيل : وهي اسم مجموع هذا العالم المتناهي ، ففي القاموس الدنيا نقيض الآخرة ، ولو قال ضدها لكان أولى إيماء إلى أنهما لا يجتمعان مع جواز أنهما يرتفعان ، وقيل : هي ما على الأرض من الجو ، والهواء ، أو هي كل المخلوقات من الجواهر ، والأعراض الموجودة قبل الآخرة . قال النووي : وهذا هو الأظهر ، ويطلق على كل جزء منها مجازا ، وأريد هاهنا شيء من الحظوظ النفسانية كمال أو جاه ، وقد تكون إشارة إلى العاجل ، والمرأة إيماء إلى الآجل ، وهو الآخرة لانضمام الروحانية إلى الجسمانية في كل منهما فيفيد حينئذ أن قصد ما سوى الله تعالى فيه انحطاط تام عمن لم يقصد غير وجهه تعالى ، وقليل ما هم ، وعند محققي القوم ما تعلق دركه بالحس ، فهو دنيا ، وما تعلق دركه بالعقل ، فهو أخرى ، وفي رواية : ومن كانت هجرته لدنيا أي : لأجل عرضها ، وغرضها فاللام للتعليل ، أو بمعنى ( إلى ) لتقابل المقابل [ ص: 47 ] [ ( يصيبها ) ] ، أي : يحصلها لكن لسرعة مبادرة النفس إليها بالجبلة الأصلية شبه حصولها بإصابة السهم للغرض ، والأظهر أنه حال مقدرة أي : يقصد إصابتها ، وفيه إيماء إلى أنه لو طلب الدنيا لأن يستعين بها على الأخرى فلا يذم مع أن تركها أولى لقول عيسى - عليه الصلاة والسلام - : يا طالب الدنيا لتبر تركك الدنيا أبر . [ ( أو امرأة يتزوجها ) ] : خصت بالذكر تنبيها على سبب الحديث ، وإن كانت العبرة بعموم اللفظ كما رواه الطبراني بسند رجاله ثقات عن ابن مسعود : كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها : أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها . قال : فكنا نسميه مهاجر أم قيس ، وفيه إشارة إلى أنه مع كونه قصد في ضمن الهجرة سنة عظيمة أبطل ثواب هجرته فكيف يكون غيره ; أو دلالة على أعظم فتن الدنيا لقوله تعالى : ( زين للناس حب الشهوات من النساء ) . ولقوله عليه السلام : ( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ) لكن المرأة إذا كانت صالحة تكون خير متاعها ، ولقوله - عليه الصلاة والسلام - : ( الدنيا كلها متاع ، وخير متاعها المرأة الصالحة ) .

[ ( فهجرته إلى ما هاجر إليه ) ] أي : منصرفة إلى الغرض الذي هاجر إليه فلا ثواب له لقوله تعالى : ( من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ) أو المعنى فهجرته مردودة ، أو قبيحة . قيل : إنما ذم لأنه طلب الدنيا في صورة الهجرة فأظهر العبادة للعقبى ، ومقصوده الحقيقي ما كان إلا الدنيا فاستحق الذم لمشابهته أهل النفاق ، ولذا قال الحسن البصري لما رأى بهلوانا يلعب على الحبل : هذا أحسن من أصحابنا فإنه جمل الدنيا بالدنيا ، وأصحابنا يأكلون الدنيا بالدين . وقال ابن عبد السلام : متى اجتمع باعث الدنيا ، والآخرة فلا ثواب مطلقا للخبر ، وفي الصحيح : ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء هو للذي أشرك ) . قال الغزالي : يعتبر الباعث فإن غلب باعث الآخرة أثيب ، أو باعث الدنيا ، أو استويا لم يثب . قال ابن حجر : يؤخذ من قول الشافعي ، وأصحابه من حج بنية التجارة كان ثوابه دون ثواب المتخلي عنها أن القصد المصاحب للعبادة إن كان محرما كالرياء أسقطها مطلقا ، وهو محمل الحديث المذكور كما يصرح به لفظه ، أو غير محرم أثيب بقدر قصده الآخرة أخذا بعموم قوله تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ) اهـ .

وهو تفصيل حسن ، وتعليل مستحسن هذا بلسان العلماء أرباب العبارة ، وأما بلسان العرفاء أصحاب الإشارة فمعناه مجملا أن أعمال ظاهر القالب متعلق بما يقع في القلوب من أنوار الغيوب ، والنية جمع الهم في تنفيذ العمل للمعمول له ، وأن لا يسنح في السر ذكر غيره ، وللناس فيما يعشقون مذاهب ، ثم نية العوام في طلب الأعراض مع نسيان الفضل ، والإعواض ، ونية الجاهل التحصين عن سوء القضاء ، ونزول البلاء ، ونية أهل النفاق التزين عند الناس مع إضمار الشقاق ، ونية العلماء إقامة الطاعات ، ونية أهل التصوف ترك الاعتماد على ما يظهر منهم من العبادات ، ونية أهل الحقيقة ربوبية تولت عبودية . وإنما لكل امرئ ما نوى من مطالب السعداء ، وهي الخلاص عن الدركات السفلى من الكفر ، والشرك ، والجهل ، والمعاصي ، والسمعة ، والرياء ، والأخلاق الذميمة ، وحجب الأوصاف ، والفوز بالدرجات العلا وهي المعرفة ، والتوحيد ، والعلم ، والطاعات ، والأخلاق المحمودة ، وجذبات الحق ، والفناء عن إنابته ، والبقاء بهويته ، أو من مقاصد الأشقياء ، وهي إجمالا ما يبعد [ ص: 48 ] عن الحق ، فمن كانت هجرته أي : خروجه من مقامه الذي هو فيه سواء كان استعداده الذي جبل عليه ، أو منزلا من منازل النفس ، أو مقاما من مقامات القلب إلى الله لتحصيل مراضيه ، وتحسين الأخلاق ، والتوجه إلى توحيد الذات ، ورسوله باتباع أعماله ، واقتفاء أخلاقه ، والتوجه إلى طلب الاستقامة في توحيد الصفات ، فهجرته إلى الله ورسوله فتخرجه العناية الإلهية من ظلمات الحدوث والفناء إلى أنوار الشهود ، والبقاء ، وتجذبه من حضيض العبودية إلى ذروة العندية ، ويفنى في عالم اللاهوت ، ويبقى بالحي الذي لا يموت ، ورجع إليه الأنس ، ونزل محلة القدس بدار القرار في جوار الملك الغفار ، وأشرقت عليه سبحات الوجه الكريم ، وحل بقلبه روح الرضا العميم ، ووجد فيها الروح المحمدي ، وأحبابا ، وعرف أن له مثوى ، ومآبا . ومن كانت هجرته لدنيا أي : لتحصيل شهوة الحرص على المال ، والجاه ، أو تحصيل لذة شهوة الفرج فيبقى مهجورا عن الحق في أوطان الغربة ، وديار الظلمة له نار الفرقة ، والقطيعة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة ، وأنشد بعض المخلصين لبعض المخلطين :


يا غافل القلب عن ذكر المنيات عما قليل ستثوى بين أموات

إن الحمام له وقت إلى أجل
فاذكر مصائب أيام ، وساعات

لا تطمئن إلى الدنيا ، وزينتها
قد حان للموت يا ذا اللب أن يأتي

وكن حريصا على الإخلاص في عمل
فإنما العمل الزاكي بنيات



قد ورد في مسند أبي يعلى الموصلي مرفوعا : ( إن الله تعالى يقول للحفظة يوم القيامة : اكتبوا لعبدي كذا وكذا من الأجر فيقولون ربنا لم نحفظ ذلك عنه ، ولا هو في صحيفتنا فيقول إنه نواه ) . ونقل الأستاذ أبو القاسم القشيري قدس الله سره العلي ، أن زبيدة رؤيت في المنام فقيل لها : ما فعل الله بك ؟ فقالت : غفر لي ، فقيل لها : بكثرة عمارتك الآبار ، والبرك ، والمصانع في طريق مكة ، وإنفاقك فيها ؟ فقالت : هيهات هيهات ذهب ذلك كله إلى أربابه ، وإنما نفعنا منه النيات فغفر لي بها ، اللهم فأحسن نياتنا ، ولا تؤاخذنا بنياتنا ، واختم بالخير منياتنا . ( متفق عليه ) أي : اتفق البخاري ، ومسلم على روايته ، ويعبر عن هذا القسم بالمتفق عليه أي : بما اتفق عليه الشيخان لا بما اتفقت عليه الأمة ، لكن اتفاقها عليه لازم ذلك لاتفاقها على تلقي ما اتفق عليه بالقبول ، وكذلك أخرجه الأربعة بقية الستة . وقيل : لم يبق من أصحاب الكتب المعتمد عليها من لم يخرجه سوى مالك ، ففي الجملة حديث مشهور مجمع على صحته ، ومما ذكره ابن ماكولا ، وغيره من التكلم فيه لا يلتفت إليه ، وما قيل إنه متواتر غير صحيح فإنه لم يروه من طريق صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عمر ، ولم يروه عن عمر إلا علقمة ، ولم يروه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي ، ولم يروه عنه إلا يحيى بن سعيد الأنصاري ، ثم تواتر عنه بحيث رواه عنه أكثر من مائة إنسان أكثرهم أئمة . وقال جماعة من الحفاظ : إنه رواه عنه سبعمائة إنسان من أعيانهم مالك ، والثوري ، والأوزاعي ، وابن المبارك ، والليث بن سعد ، وحماد بن زيد ، وسعيد ، وابن عيينة . وقد روى هذا الحديث عن عمر تسعة غير علقمة ، وعن علقمة اثنان غير التيمي ، وعن التيمي خمسة غير يحيى ، فالحديث مشهور بالنسبة إلى آخره غريب بالنسبة إلى أوله ، ثم اعلم أن جمعا من المحدثين ، وغيرهم ذهبوا إلى أن جميع ما وقع مسندا في الصحيحين ، أو أحدهما من الأحاديث يقطع بصحته لتلقي الأمة له بالقبول من حيث الصحة ، وكذا العمل ما لم يمنع منه نحو نسخ ، أو تخصيص ، وإجماع هذه الأمة معصوم عن الخطأ كما قال - عليه الصلاة والسلام - ، فقبولها للخبر الغير المتواتر يوجب العلم النظري ، وعبارة الأستاذ ، أبي إسحاق الإسفراييني : أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بصحة أصولها ، ومتونها ، ولا يحصل الخلاف فيها بحال ، وإن حصل اختلاف فذلك اختلاف في طرقها ، ورواتها ، فمن خالف حكمه خبرا منهما [ ص: 49 ] وليس له تأويل سائغ نقضنا حكمه . وقال إمام الحرمين : أجمع علماء المسلمين على صحتهما ، وقد قال عطاء : الإجماع أقوى من الإسناد فإذن أفاد العلم ، وقال الأكثرون ، والمحققون : صحتهما ظنية ؛ لأن أخبارهما آحاد ، وهي لا تفيد إلا الظن ، وإن تلقتها الأئمة بالقبول ؛ لأنهم تلقوا بالقبول ما ظنت صحته من غيرهما ، ولأن تصحيح الأئمة للخبر المستجمع لشروط الصحة إنما هو باعتبار الظاهر ؛ ولأن فيهما نحو مائتي حديث مسند طعن في صحتها ، فلم تتلق الأمة كلها ما فيهما بالقبول لكن بعض القائلين بالأول استثنوا هذه . قال شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني : والتحقيق أن الخلاف لفظي ؛ لأن من أطلق عليهما العلم بالصحة جعله نظريا ، وهو الناشئ عن الاستدلال ، ومن أبى هذا الإطلاق خص لفظ العلم بالمتواتر ، وما عداه عنده ظن ، واختلفوا هل يمكن التصحيح ، والتحسين ، والتضعيف في الأعصار المتأخرة ؟ واختار ابن الصلاح أنه لا يمكن بل يقتصر على ما نص عليه الأئمة في تصانيفهم المعتمدة ، ورده النووي ، وتبعوه ، وأطالوا في بيان رده ، ومن ثم صحح جماعة من معاصريه كالقطان ، والضياء المقدسي ، ثم المنذري ، والدمياطي طبقة بعد طبقة . قيل : ولعله إنما اختار حسم المادة لئلا يتطفل على ذلك بعض الجهلة . قلت : ومن هذا القبيل اختلافهم هل يمكن لأحد الاجتهاد المطلق في الأزمنة المتأخرة ; فقيل : يمكن ، وقيل : لا . والخلاف لفظي لأن الإمكان أمر عقلي ، ومنعه أمر عادي ، والله تعالى أعلم .




الخدمات العلمية