الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب - كتاب الزكاة

( الفصل الأول )

1772 - عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذا إلى اليمن فقال : " إنك تأتي قوما أهل كتاب ، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد فرض صدقة ، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم ، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " ، متفق عليه .

التالي السابق


( كتاب الزكاة )

هي في اللغة الطهارة ، وقال تعالى قد أفلح من تزكى وإنما يقال زكى الزرع إذا نمى ، سمي بها نفس المال المخرج حقا لله - تعالى - في عرف الشارع ، قال تعالى وآتوا الزكاة ومعلوم أن متعلق الإيتاء هو المال ، وفي عرف الفقهاء هو نفس فعل الإيتاء ، لأنهم يصفونه بالوجوب ، ومتعلق الأحكام الشرعية هو أفعال المكلفين ، ومناسبة اللغوي أنه سبب له إذ يحصل به النماء بالإخلاف منه - تعالى - في الدارين ، قال تعالى وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه والطهارة للنفس من دنس البخل ووسخ المخالفة ، وللمال بإخراج حق الغير منه إلى مستحقه أعني الفقراء ، ثم هي فريضة محكمة وسببها المال المخصوص ، أعني النصاب النامي تحقيقا ، أو تقديرا ، ولذا تضاف إليه ، ويقال زكاة المال ، وشرطها الإسلام والحرية والبلوغ والعقل والفراغ من الدين ، ثم قيل : فرضت زكاة الفطر مع فرض الصوم في السنة الثانية من الهجرة ، وفرض غيرها بعد ذلك في تلك السنة ، والمعتمد أن الزكاة فرضت بمكة إجمالا ، وبينت بالمدينة تفصيلا جمعا بين الآيات التي تدل على فرضيتها بمكة ، وغيرها من الآيات والأدلة ، والله أعلم .

[ ص: 1261 ] ( الفصل الأول )

1772 - ( عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذا ) بضم الميم أي أرسل ( إلى اليمن ) أي أميرا أو قاضيا ( فقال : " إنك تأتي قوما أهل كتاب " ) يريد بهم اليهود والنصارى ، قال الطيبي : قيد قوله قوما بأهل الكتاب ، ومنهم أهل الذمة ، وغيرهم من المشركين تفضيلا لهم ، أو تغليبا على غيرهم ( فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ) لأن فيهم مشركين ( وأن محمدا رسول الله ) فإن موحديهم قد يكونون لرسالته منكرين ، قال ابن الملك : هذا يدل على وجوب دعوة الكفار إلى الإسلام قبل القتال ، لكن هذا إذا لم تبلغهم الدعوة ، أما إذا بلغتهم فغير واجبة ، لأنه صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أغار بني المصطلق وهم غافلون ( فإن هم أطاعوا لذلك ) أي انقادوا أي للإسلام ( فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ) قال الأشرف تبعا لزين العرب : يستدل به على أن الكفار غير مخاطبين بالفروع ، كما ذهب إليه بعض الأصوليين ، بل بالأصول فقط ، وذلك لتعليقه الإعلام بالوجوب على الطاعة للإيمان ، وقبول كلمتي الشهادة ، بفاء الجزاء ذكره الطيبي ، وفيه أنه لا إشعار لأن المترتب الإعلام بمعنى التكليف بالإتيان بتلك الأعمال في الدنيا ، وهذا لا يخاطب به الكفار ، لأن القائل بتكليفهم بها إنما يقول إنه بالنسبة للآخرة فقط ، حتى يعاقب عليها بخصوصها ، كما دل عليه قوله وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة ، قالوا لم نك من المصلين الآيتين ذكره ابن حجر ، وهو كلام حسن ، لكن قوله فيه دليل على أن الوتر ونحوه كالعيدين ليس بواجب ، ليس في محله ، إذ لا دلالة في الحديث نفيا وإثباتا على ما ذكره ، مع أنه لم يقل بفرضية الوتر والعيدين أحد إجماعا ، والمفهوم غير معتبر عندنا ، بل مفهوم العدد ساقط الاعتبار اتفاقا مع أن المقام يقتضي بيان الأحكام إجماعا ، ولهذا اقتصر من المؤمن به على الشهادتين اقتصارا ، ومن الصلوات على الخمس مع فرضية صلاة الجنازة كفاية ، في صورة وعينا في أخرى اتفاقا ، وأيضا صلاة الوتر من توابع صلاة العشاء ملحقة بها ، فذكرها مشعر بذكرها ، ويحتمل أنها وجبت بعد هذه القضية أو لم يذكرها ، كما لم يذكر الصوم مع أنه فرض قبل الزكاة ، والله أعلم ( فإن هم أطاعوا لذلك ) أي لوجوب الصلاة ( فأعلمهم ) ليكون الحكم تدريجيا على وفق ما نزل به التكليف الإلهي من أن العبادة البدنية أيسر من الإطاعة المالية أي فأخبرهم ( أن الله قد فرض عليهم ) أي بعد حولان الحول ، وشروطه المعتبرة في الوجوب ( صدقة ) أي زكاة لأموالهم ( تؤخذ من أغنيائهم ) قال الطيبي : فيه دليل على أن الطفل يجب في ماله الزكاة اهـ وزاد ابن حجر المجنون ، وفيه أن الضمير راجع إلى المكلفين ، وهو غير داخل فيهم ( فترد على فقرائهم ) أي إن وجدوا ، وكره النقل ، وسقط بالإجماع ، وفيه إشارة إلى براءة ساحته وصحابته - عليه السلام - من الطمع ، لدفع توهم اللئام لأنه خلاف دأب الكرام ، قال الطيبي : فيه دليل على أن المدفوع عين الزكاة ، وفيه أيضا أن نقل الزكاة عن بلد الوجوب لا يجوز مع وجود المستحقين فيه ، بل صدقة كل ناحية لمستحق تلك الناحية ، واتفقوا على أنه إذا نقلت وأديت يسقط الفرض ، إلا عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - فإنه رد صدقة نقلت من خراسان إلى الشام إلى مكانها من خراسان اهـ وفيه أن فعله هذا لا يدل على مخالفته للإجماع ، بل فعله إظهارا لكمال العدل ، وقطعا للأطماع ، ثم ظاهر الحديث أن دفع المال إلى صنف واحد جائز كما هو مذهبنا ، بل له أن يقتصر على شخص واحد ، فالحديث محمول على مقابلة الجمع بالجمع ، وفي الهداية : ولولا حديث معاذ لقلنا بجواز دفع الزكاة إلى الذمي ، أي كما قلنا بجواز دفع الصدقة إليهم ، لما روى ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير مرسلا قال [ ص: 1262 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " تصدقوا على أهل الأديان كلها " ، قال ابن الهمام : حديث " لا تحل الصدقة لغني " مع حديث معاذ يفيد منع غني الغزاة والغارمين عنها فهو حجة على الشافعي في تجويزه لغني مع حديث معاذ يفيد منع غني الغزاة ، والغارمين عنها ، فهو حجة على الشافعي في تجويزه لغني الغزاة إذا لم يكن له شيء في الديوان ، ولم يأخذ من الفيء ، ثم المعتبر في الزكاة مكان المال ، وفي صدقة الفطر مكان الرأس المخرج عنه ، في الصحيح مراعاة لإيجاب الحكم في محل وجود سببه ، ويكره نقلها إلى بلد آخر ، إلا إلى قريبه أو إلى أحوج من أهل بلده ، قال ابن الهمام : ووجهه ما قدمناه من دفع القيم من قول معاذ لأهل اليمن : ائتوني بعرض ثياب خميس أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم ، وخير لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ، ويجب كون محله كون من بالمدينة أحوج أو ذلك ما يفضل بعد إعطاء فقرائهم ، وأما النقل للقرابة فلما فيه من صلة الرحم ، زيادة على قربة الزكاة ( فإن هم أطاعوا لذلك ) أي للإنفاق ( فإياك وكرائم أموالهم ) جمع كريمة أي احترز من أخذ الأعلى من أصناف أموالهم ، إلا تبرعا منهم ، ففيه أمر بالعدل الوسط المرعي فيه جانب الأغنياء ، وحق الفقراء ، قال الطيبي - رحمه الله - : فيه دليل على أن تلف المال يسقط الزكاة ما لم يقصر في الأداء وقت الإمكان ، أي بعد الوجوب (واتق دعوة المظلوم ) أي في هذا وغيره بأن تأخذ ما ليس بواجب عليه أو تؤذيه بلسانك ( فإنه ) أي الشأن ( ليس بينها وبين الله ) أي قبوله لها ( حجاب ) أي مانع ، بل هي معروضة عليه - تعالى ، وقيل : هو كناية عن سرعة القبول ، قال الطيبي - رحمه الله - : هذا تعليل للاتقاء ، وتمثيل الدعوة لمن يقصد إلى السلطان متظلما فلا يحجب عنه ( متفق عليه ) ورواه الأربعة .




الخدمات العلمية