الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 504 ] ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وستمائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      في خامس المحرم وصل الظاهر دمشق من بلاد السواحل التي فتحها وقد مهدها ، وركب في أواخر المحرم إلى القاهرة ، فأقام بها سنة ، ثم عاد فدخل دمشق في رابع صفر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي المحرم منها وصل صاحب النوبة إلى عيذاب ، فنهب تجارها ، وقتل خلقا من أهلها ، منهم الوالي والقاضي ، فسار إليه الأمير علاء الدين أيدغدي الخزندار ، فقتل خلقا من بلاده ، ونهب وحرق وهدم ودوخ البلاد ، وأخذ بالثأر ، ولله الحمد والمنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي ربيع الأول توفي الأمير سيف الدين محمد بن مظفر الدين عثمان بن ناصر الدين منكورس صاحب صهيون ، ودفن في تربة والده في عشر السبعين ، وكان له في ملك صهيون وبرزيه إحدى عشرة سنة ، وتسلمها بعده ولده سابق الدين ، وأرسل إلى الملك الظاهر يستأذنه في الحضور ، فأذن له ، فلما [ ص: 505 ] حضر أقطعه خبزا ، وبعث إلى البلدين نوابا من جهته .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي خامس جمادى الأولى وصل السلطان بعسكره إلى الفرات; لأنه بلغه أن طائفة من التتار هنالك ، فخاض إليهم الفرات بنفسه وجنده ، وقتل من أولئك مقتلة كبيرة وخلقا كثيرا ، وكان أول من اقتحم الفرات يومئذ الأمير سيف الدين قلاوون وبدر الدين بيسري ، وتبعهما السلطان ، ثم فعل بالتتار ما فعل ، ثم ساق إلى ناحية البيرة ، وقد كانت محاصرة بطائفة من التتار أخرى ، فلما سمعوا بقدومه هربوا وتركوا أموالهم وأثقالهم ، ودخل السلطان إلى البيرة في أبهة عظيمة ، وفرق في أهلها أموالا كثيرة ، ثم عاد إلى دمشق في ثالث جمادى الآخرة ومعه الأسرى . وخرج منها في سابعه إلى الديار المصرية ، وخرج ولده الملك السعيد لتلقيه ، ودخلا إلى القاهرة وكان يوما مشهودا . ومما قاله القاضي شهاب الدين محمود الكاتب - وأولاده يقال لهم : بنو الشهاب محمود - في خوض السلطان الفرات بالجيش :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      سر حيث شئت لك المهيمن جار واحكم فطوع مرادك الأقدار     لم يبق للدين الذي أظهرته
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يا ركنه عند الأعادي ثار     لما تراقصت الرءوس تحركت
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      من مطربات قسيك الأوتار     خضت الفرات بسابح أفضى به
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      موج الصبا من فعله الآثار      [ ص: 506 ] حملتك أمواج الفرات ومن رأى
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بحرا سواك تقله الأنهار     وتقطعت فرقا ولم يك طودها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذ ذاك إلا جيشك الجرار

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض من شاهد ذلك :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما تراءينا الفرات بخيلنا     سكرناه منا بالقنا والصوارم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فأوقفت التيار عن جريانه     إلى حين عدنا بالغنى والغنائم

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر ولا بأس به :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الملك الظاهر سلطاننا     نفديه بالأموال والأهل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      اقتحم الماء ليطفي به     حرارة القلب من المغل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الثلاثاء ثالث رجب خلع على جميع الأمراء من حاشيته ومقدمي الحلقة وأرباب الدولة ، وأعطى كل إنسان ما يليق به من الخيل والذهب والحوائص ، وكان مبلغ ما أنفق بذلك نحو ثلاثمائة ألف دينار .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي شعبان أرسل السلطان إلى منكوتمر هدايا عظيمة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الاثنين ثاني عشر شوال استدعى السلطان شيخه الشيخ خضرا الكردي إلى بين يديه إلى القلعة ، وحوقق على أشياء كثيرة رمي بها ، وعلى منكرات كثيرة ارتكبها ، فأمر السلطان عند ذلك باعتقاله وحبسه ثم باغتياله ، وكان آخر العهد به .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 507 ] وفي ذي القعدة سلمت الإسماعيلية ما كان بقي بأيديهم من الحصون ، وهي الكهف والقدموس والمينقة ، وعوضوا عن ذلك بإقطاعات ، ولم يبق بالشام شيء لهم من القلاع ، واستناب السلطان فيها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها أمر السلطان بعمارة جسورة في السواحل ، وغرم عليها مالا كثيرا ، وحصل للناس بذلك رفق كبير .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية