الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ مضار زلة العالم ]

قلت : والمصنفون في السنة جمعوا بين فساد التقليد وإبطاله وبيان زلة العالم ليبينوا بذلك فساد التقليد ، وأن العالم قد يزل ولا بد ; إذ ليس بمعصوم ، فلا يجوز قبول كل ما [ ص: 133 ] يقوله ، وينزل قوله منزلة قول المعصوم ; فهذا الذي ذمه كل عالم على وجه الأرض ، وحرموه ، وذموا أهله وهو أصل بلاء المقلدين وفتنتهم ، فإنهم يقلدون العالم فيما زل فيه وفيما لم يزل فيه ، وليس لهم تمييز بين ذلك ، فيأخذون الدين بالخطأ - ولا بد - فيحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله ويشرعون ما لم يشرع ، ولا بد لهم من ذلك إذ كانت العصمة منتفية عمن قلدوه ، والخطأ واقع منه ولا بد . وقد ذكر البيهقي وغيره من حديث كثير هذا عن أبيه عن جده مرفوعا : { اتقوا زلة العالم ، وانتظروا فيئته } .

وذكر من حديث مسعود بن سعد عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أشد ما أتخوف على أمتي ثلاث : زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، ودنيا تقطع أعناقكم } .

ومن المعلوم أن المخوف في زلة العالم تقليده فيها ; إذ لولا التقليد لم يخف من زلة العالم على غيره .

فإذا عرف أنها زلة لم يجز له أن يتبعه فيها باتفاق المسلمين ، فإنه اتباع للخطأ على عمد ، ومن لم يعرف أنها زلة فهو أعذر منه ، وكلاهما مفرط فيما أمر به ، وقال الشعبي : قال عمر : يفسد الزمان ثلاثة : أئمة مضلون ، وجدال المنافق بالقرآن ، والقرآن حق ، وزلة العالم .

وقد تقدم أن معاذا كان لا يجلس مجلسا للذكر إلا قال حين يجلس : الله حكم قسط ، هلك المرتابون - الحديث ، وفيه : " وأحذركم زيغة الحكيم ; فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق " . قلت لمعاذ : ما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمة الحق ؟ قال لي : اجتنب من كلام الحكيم المشبهات التي يقال ما هذه ، ولا يثنيك ذلك عنه ، فإنه لعله يراجع ، وتلق الحق إذا سمعته ، فإن على الحق نورا .

وذكر البيهقي من حديث حماد بن زيد عن المثنى بن سعيد عن أبي العالية قال : قال ابن عباس : ويل للأتباع من عثرات العالم ، قيل : وكيف ذاك يا أبا العباس ؟ قال : يقول العالم من قبل رأيه ، ثم يسمع الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيدع ما كان عليه ، وفي لفظ : فيلقى من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منه فيخبره فيرجع ويقضي الأتباع بما حكم .

وقال تميم الداري : اتقوا زلة العالم ، فسأله عمر : ما زلة العالم ؟ قل : يزل بالناس فيؤخذ به ، فعسى أن يتوب العالم والناس يأخذون بقوله .

وقال شعبة : عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال : قال معاذ بن جبل : يا معشر [ ص: 134 ] العرب كيف تصنعون بثلاث : دنيا تقطع أعناقكم ، وزلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، فسكتوا ، فقال : أما العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم ، وإن افتتن فلا تقطعوا منه إياسكم ; فإن المؤمن يفتتن ثم يتوب ، وأما القرآن فله منار كمنار الطريق فلا يخفى على أحد ، فما عرفتم منه فلا تسألوا عنه ، وما شككتم فكلوه إلى عالمه ، وأما الدنيا فمن جعل الله الغنى في قلبه فقد أفلح ، ومن لا فليس بنافعته دنياه .

وذكر أبو عمر من حديث حسين الجعفي عن زائدة عن عطاء بن السائب عن أبي البختري قال : قال سلمان : كيف أنتم عند ثلاث : زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، ودنيا تقطع أعناقكم ؟ فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم ، وأما مجادلة المنافق بالقرآن فإن للقرآن منارا كمنار الطريق فلا يخفى على أحد ، فما عرفتم منه فخذوه ، وما لم تعرفوه فكلوه إلى الله ، وأما دنيا تقطع أعناقكم فانظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم .

قال أبو عمر : وتشبه زلة العالم بانكسار السفينة ; لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير .

قال أبو عمر : وإذا صح وثبت أن العالم يزل ويخطئ لم يجز لأحد أن يفتي ويدين بقول لا يعرف وجهه .

وقال غير أبي عمر : كما أن القضاة ثلاثة : قاضيان في النار وواحد في الجنة فالمفتون ثلاثة ، ولا فرق بينهما إلا في كون القاضي يلزم بما أفتى به ، والمفتي لا يلزم به .

وقال ابن وهب : سمعت سفيان بن عيينة يحدث عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود أنه كان يقول : اغد عالما أو متعلما ولا تغد إمعة فيما بين ذلك .

قال ابن وهب : فسألت سفيان عن الإمعة ، فحدثني عن أبي الزناد عن أبي الأحوص عن ابن مسعود قال : كنا ندعو الإمعة في الجاهلية الذي يدعى إلى الطعام فيأتي معه بغيره ، وهو فيكم المحقب دينه الرجال .

وقال أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو النصري : ثنا أبو مسهر ثنا سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبيد الله عن السائب بن يزيد ابن أخت نمر أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : إن حديثكم شر الحديث ، إن كلامكم شر الكلام ; فإنكم قد [ ص: 135 ] حدثتم الناس حتى قيل : قال فلان وقال فلان ، ويترك كتاب الله ، من كان منكم قائما فليقم بكتاب الله ، وإلا فليجلس ; فهذا قول عمر لأفضل قرن على وجه الأرض ، فكيف لو أدرك ما أصبحنا فيه من ترك كتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة لقول فلان وفلان ؟ ، فالله المستعان ، [ كلام علي لكميل بن زياد ]

قال أبو عمر : وقال علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه في الجنة - لكميل بن زياد النخعي - وهو حديث مشهور عند أهل العلم ، يستغني عن الإسناد لشهرته عندهم - : يا كميل ، إن هذه القلوب أوعية ، فخيرها أوعاها للخير ، والناس ثلاثة : فعالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع ، أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل صائح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق . ثم قال : آه إن ههنا علما - وأشار بيده إلى صدره - لو أصبت له حملة ، بل قد أصبت لقنا غير مأمون ، يستعمل آلة الدين الدنيا ، ويستظهر بحجج الله على كتابه وبنعمه على معاصيه ، أو حامل حق لا بصيرة له في إحيائه ، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة ، لا يدري أين الحق ، إن قال أخطأ ، وإن أخطأ لم يدر ، مشغوف بما لا يدري حقيقته ، فهو فتنة لمن فتن به ، وإن من الخير كله من عرفه الله دينه ، وكفى بالمرء جهلا أن لا يعرف دينه .

[ نهي الصحابة عن الاستنان بالرجال ]

وذكر أبو عمر عن أبي البختري عن علي قال : إياكم والاستنان بالرجال ، فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار ، فيموت وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار ، فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة ، فيموت وهو من أهل الجنة ، فإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات لا بالأحياء .

وقال ابن مسعود : لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر ، فإنه لا أسوة في الشر .

قال أبو عمر : وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يذهب العلماء ، ثم يتخذ الناس رءوسا جهالا ، يسألون فيفتون بغير علم ، فيضلون ويضلون } قال أبو عمر : وهذا كله نفي للتقليد ، وإبطال له لمن فهمه وهدى لرشده . [ ص: 136 ] ثم ذكر من طريق يونس بن عبد الأعلى ثنا سفيان بن عيينة قال : اضطجع ربيعة مقنعا رأسه وبكى ، فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال : رياء ظاهر ، وشهوة خفية ، والناس عند علمائهم كالصبيان في إمامهم : ما نهوهم عنه انتهوا ، وما أمروا به ائتمروا .

وقال عبد الله بن المعتمر : لا فرق بين بهيمة تنقاد وإنسان يقلد .

ثم ساق من حديث جامع بن وهب : أخبرني سعيد بن أبي أيوب عن بكر بن عمر عن عمرو بن أبي نعيمة عن مسلم بن يسار عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار ، ومن استشار أخاه فأشار عليه بغير رشده فقد خانه ، ومن أفتى بفتيا بغير ثبت فإنما إثمها على من أفتاه } وقد تقدم هذا الحديث من رواية أبي داود وفيه دليل على تحريم الإفتاء بالتقليد ، فإنه إفتاء بغير ثبت ; فإن الثبت الحجة التي يثبت بها الحكم باتفاق الناس كما قال أبو عمر [ الاحتجاج على من أجاز التقليد بحجج نظرية ]

وقد احتج جماعة من الفقهاء وأهل النظر على من أجاز التقليد بحجج نظرية عقلية بعد ما تقدم ، فأحسن ما رأيت من ذلك قول المزني ، وأنا أورده ، قال : يقال لمن حكم بالتقليد : هل لك من حجة فيما حكمت به ؟ فإن قال : " نعم " بطل التقليد ; لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد . وإن قال : " حكمت به بغير حجة " قيل له : فلم أرقت الدماء وأبحت الفروج وأتلفت الأموال وقد حرم الله ذلك إلا بحجة ؟ قال الله عز وجل : { إن عندكم من سلطان بهذا } أي من حجة بهذا . فإن قال : " أنا أعلم أني قد أصبت وإن لم أعرف الحجة لأني قلدت كبيرا من العلماء وهو لا يقول إلا بحجة خفيت علي " قيل له : إذا جاز تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عليك فتقليد معلم معلمك أولى ; لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلمك كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك ، فإن قال : " نعم " ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه ، وكذلك من هو أعلى حتى ينتهي الأمر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن أبى ذلك نقض قوله ، وقيل له : كيف تجوز تقليد من هو أصغر وأقل علما ولا تجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علما وهذا تناقض ؟ فإن قال : " لأن معلمي وإن كان أصغر فقد جمع علم من هو فوقه إلى علمه فهو أبصر بما أخذ وأعلم بما ترك " قيل له : وكذلك من تعلم من معلمك فقد جمع علم معلمك وعلم من فوقه إلى علمه ، فيلزمك تقليده وترك تقليد معلمك ، وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك ; لأنك جمعت علم معلمك وعلم من هو فوقه إلى علمك ، فإن قلد قوله جعل الأصغر ومن يحدث من [ ص: 137 ] صغار العلماء أولى بالتقليد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع ، والتابع من دونه في قياس قوله ، والأعلى للأدنى أبدا ، وكفى بقول يؤول إلى هذا تناقضا وفسادا .

وقال أبو عمر : قال أهل العلم والنظر حد العلم التبيين وإدراك المعلوم على ما هو به ، فمن بان له الشيء فقد علمه ، قالوا : والمقلد لا علم له ، ولم يختلفوا في ذلك ، ومن ههنا والله أعلم قال البختري :

عرف العالمون فضلك بالعلم وقال الجهال بالتقليد     وأرى الناس مجمعين
على فضلك من بين سيد ومسود



التالي السابق


الخدمات العلمية