الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 535 ] ثم دخلت سنة خمس وسبعين وخمسمائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها كانت وقعة مرج عيون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      استهلت هذه السنة والسلطان صلاح الدين نازل بجيشه على تل القاضي ببانياس ، ثم قصده الفرنج بجمعهم ، فنهض إليهم نهوض الأسد ، فما هو إلا أن تواجه الفريقان واصطدم الجندان ، حتى أنزل الله نصره وأعز جنده وهزم الأعداء وحده ، ففرت ألوية الصلبان ذاهبة ، وخيل الله لرقابهم راكبة ، فقتل منهم خلق كثير وجم غفير ، وأسر من ملوكهم جماعة ، وأنابوا إلى السمع والطاعة ، منهم مقدم الداوية ، ومقدم الإسبتارية وصاحب الرملة وصاحب طبرية وقسطلان يافا وآخرون من ملوكهم ، وخلق من شجعانهم وأبطالهم ، ومن فرسان القدس جماعة كثيرون قريبا من ثلاثمائة أسير من أشراف النصارى ، فصاروا يتهادون في قيودهم كأنهم سكارى وما هم بسكارى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال العماد الكاتب : فاستعرضهم السلطان في الليل حتى أضاء الفجر على الظلماء ، وصلى يومئذ الصبح بوضوء العشاء ، وكان السلطان جالسا ليلتئذ في [ ص: 536 ] نحو العشرين وهم في هذه العدة ، فسلمه الله تعالى منهم ، ثم أرسلهم إلى دمشق ; ليعتقلوا بقلعتها وليكونوا في كنف دولتها ، فافتدى ابن البارزاني صاحب الرملة نفسه بعد سنة بمائة ألف وخمسين ألف دينار صورية وإطلاق ألف أسير من بلاده ، فأجيب إلى ذلك ، وكذا افتدى جماعة منهم أنفسهم بأموال جزيلة وتحف جليلة ، ومنهم من مات في السجن ، فانتقل منه إلى سجين ، وهكذا يفعل الله بالكافرين . واتفق أنه في اليوم الذي ظفر فيه السلطان على الفرنج بمرج عيون ، ظهر أسطول المسلمين على بطسة للفرنج في البحر وأخرى معها فغنموا منها ألف رأس من السبي ، وعاد إلى الساحل مؤيدا منصورا ، وقد امتدح الشعراء السلطان في هذه الغزوة بمدائح كثيرة ، وكتب بذلك إلى بغداد فدقت البشائر بها فرحا وسرورا بظهور المسلمين على أعداء الله الملحدين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان الملك المظفر تقي الدين عمر غائبا عن هذه الوقعة مشتغلا بما هو أعجب منها ، وذلك أن ملك الروم قلج أرسلان بعث يطلب حصن رعبان ، وزعم أن نور الدين اغتصبه منه ، وأن ولده قد أغضى له عنه ، فلم يجبه السلطان تقي الدين عمر إلى ذلك ، فبعث صاحب الروم عشرين ألف مقاتل يحاصرونه ، فأرسل السلطان تقي الدين عمر في ثمانمائة فارس منهم [ ص: 537 ] سيف الدين علي بن أحمد المشطوب ، فالتقوا بهم فهزموهم بإذن الله ، واستقرت يد الملك صلاح الدين على حصن رعبان ، وقد كان مما عوض به ابن المقدم عن بعلبك وكان تقي الدين عمر يفتخر بهذه الوقعة ، ويرى أنه قد هزم عشرين ألفا ، وقيل : ثلاثين ألفا بثمانمائة فارس . وكان السبب في ذلك أنه بيتهم وأغار عليهم وهم غارون ، فما لبثوا أمامه بل فروا منهزمين عن آخرهم ، فأكثر فيهم القتل ، واستحوذ على جميع ما تركوه في خيامهم ، ويقال : إنه كسرهم يوم كسر السلطان الفرنج بمرج عيون . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية