الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 556 ] ثم دخلت سنة سبعين ومائة من الهجرة النبوية

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيها عزم الهادي على خلع أخيه هارون من الخلافة ، وولاية العهد من بعده ومبايعة ابنه جعفر ابن الهادي ، فانقاد هارون لذلك ، ولم يظهر المنازعة بل المطاوعة ، واستدعى الهادي جماعة من الأمراء ، فأجابوه إلى ذلك ، وأبت ذلك أم أمير المؤمنين الخيزران ، وكانت أميل إلى ابنها هارون الرشيد ، وكان الهادي قد منعها التصرف في شيء من المملكة ، بعد ما كانت قد استحوذت عليه في أول ولايته ، وانقلبت الدول إلى بابها ، والأمراء إلى جانبها فحلف الهادي لئن عاد أمير يلوذ ببابها ليضربن عنقه ، ولا يقبل لها شفاعة أبدا ، فامتنعت من الكلام في ذلك ، وحلفت لا تكلمه أبدا ، وانتقلت عنه إلى منزل آخر ، وألح هو على أخيه هارون في الخلع ، وبعث إلى يحيى بن خالد بن برمك - وكان من أكابر الأمراء الذين هم في صف الرشيد - فقال له : ماذا ترى فيما أريد من خلع الرشيد ، وتولية ابني جعفر؟ فقال له : يا أمير المؤمنين ، إني أخشى أن تهون الأيمان على الناس ، ولكن من المصلحة أن تجعل جعفرا ولي العهد من بعد هارون ، وأيضا يا أمير المؤمنين ، فإني أخشى أن لا يجيب أكثر الناس إلى البيعة لجعفر; وهو دون البلوغ ، فيتفاقم الأمر ويختلف الناس فينالها بعض أهلك ، لا هذا ولا هذا . [ ص: 557 ] فأطرق مليا - وكان ذلك ليلا - ثم أمر بسجنه ، ثم أطلقه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وجاء يوما إليه أخوه هارون الرشيد ، فجلس عن يمينه بعيدا عنه ، فجعل الهادي ينظر إليه مليا ثم قال : يا هارون ، أتطمع أن تكون رؤيا المهدي حقا؟ فقال : إي والله ، ووالله لئن كان ذلك لأصلن من قطعت ، ولأنصفن من ظلمت ، ولأزوجن بنيك من بناتي . فقال : ذاك الظن بك . فقام إليه هارون ليقبل يده ، فحلف الهادي ليجلسن معه على السرير ، فجلس معه ، ثم أمر له بألف ألف دينار ، وأن يدخل الخزائن فيأخذ منها ما أراد ، وإذا جاء الخراج فليدفع إليه نصفه . ففعل ذلك كله ، ورضي الهادي عن الرشيد . ثم سافر إلى حديثة الموصل بعد ذلك ، ثم عاد منها ، فمات بعيساباذ ليلة الجمعة للنصف من ربيع الأول - وقيل : الآخر - سنة سبعين ومائة . وله من العمر ثلاث وعشرون سنة ، وكانت خلافته سنة وشهرا وثلاثة وعشرين يوما . وكان طويلا جميلا أبيض بشفته العليا تقلص .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد توفي في هذه الليلة خليفة ، وهو الهادي ، وولي خليفة ، وهو الرشيد ، وولد خليفة ، وهو المأمون ابن الرشيد . وقد كانت الخيزران أم الخليفة قالت في أول الليل : إنه بلغني أنه يولد الليلة خليفة ، ويموت خليفة ، ويتولى خليفة . يقال : إنها سمعت ذلك من الأوزاعي قبل ذلك بمدة ، وقد سرها ذلك جدا . ويقال : إنها سمت ولدها الهادي خوفا على ابنها الرشيد منه ، وأيضا فإنه [ ص: 558 ] كان قد أبعدها وأقصاها ، وقرب حظيته خالصة وأدناها . فالله المستعان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية