الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قاعدة في الخطاب بالاسم والخطاب بالفعل :

الاسم يدل على الثبوت والاستمرار ، والفعل يدل على التجدد والحدوث ، ولا يحسن وضع أحدهما موضع الآخر :

فمن ذلك قوله تعالى : وكلبهم باسط ذراعيه [ الكهف : 18 ] وقيل : ( يبسط ) لم يؤد الغرض ; لأنه يؤذن بمزاولة الكلب البسط ، وأنه يتجدد له شيء بعد شيء ، فباسط أشعر بثبوت الصفة .

وقوله : هل من خالق غير الله يرزقكم [ فاطر : 3 ] .

لو قيل : ( رازقكم ) لفات ما أفاده الفعل من تجدد الرزق شيئا بعد شيء ، ولهذا جاءت الحال في صورة المضارع ، مع أن العامل الذي يفيده ماض ، نحو : وجاءوا أباهم عشاء يبكون [ يوسف : 16 ] إذ المراد أن يفيد صورة ما هم عليه وقت المجيء ، وأنهم [ ص: 587 ] آخذون في البكاء يجددونه شيئا بعد شيء ، وهو المسمى حكاية الحال الماضية ، وهذا هو سر الإعراض عن اسم الفاعل والمفعول .

ولهذا أيضا عبر ب ( الذين ينفقون ) ولم يقل : ( المنفقون ) ، كما قيل : ( المؤمنون والمتقون ) ; لأن النفقة أمر فعلي ، شأنه الانقطاع والتجدد . بخلاف الإيمان ، فإن له حقيقة تقوم بالقلب ، يدوم مقتضاها ، وكذلك التقوى والإسلام والصبر والشكر والهدى والعمى والضلالة والبصر ; كلها لها مسميات حقيقية أو مجازية تستمر ، وآثار تتجدد وتنقطع ، فجاءت بالاستعمالين .

وقال تعالى : في سورة الأنعام : يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي [ الأنعام : 95 ] قال : الإمام فخر الدين : لما كان الاعتناء بشأن إخراج الحي من الميت أشد أتى فيه بالمضارع ، ليدل على التجدد ، كما في قوله : الله يستهزئ بهم [ البقرة : 15 ] .

تنبيهات :

الأول : المراد بالتجدد في الماضي الحصول : وفي المضارع أن من شأنه أن يتكرر ويقع مرة بعد أخرى . صرح بذلك جماعة ، منهم الزمخشري في قوله : الله يستهزئ بهم [ البقرة : 15 ] .

قال الشيخ بهاء الدين السبكي : وبهذا يتضح الجواب عما يورد من نحو : ( علم الله كذا ) فإن علم الله لا يتجدد ، وكذا سائر الصفات الدائمة التي يستعمل فيها الفعل .

وجوابه : أن معنى ( علم الله كذا ) وقع علمه في الزمن الماضي ، ولا يلزم أنه لم يكن قبل ذلك ، فإن العلم في زمن ماض أعم من المستمر على الدوام قبل ذلك الزمن وبعده وغيره ، ولهذا قال تعالى : حكاية عن إبراهيم : الذي خلقني فهو يهدين [ الشعراء : 78 ] ، الآيات ، فأتى بالماضي في الخلق ; لأنه مفروغ منه ، وبالمضارع في الهداية والإطعام والإسقاء والشفاء ، لأنها متكررة متجددة تقع مرة بعد أخرى .

الثاني : مضمر الفعل فيما ذكر كمظهره ، ولهذا قالوا : إن سلام الخليل أبلغ من سلام الملائكة حيث : فقالوا سلاما قال سلام [ هود : 69 ] فإن نصب ( سلاما ) إنما يكون على إرادة الفعل ، أي : سلمنا سلاما ، وهذه العبارة مؤذنة بحدوث التسليم منهم ، إذ الفعل متأخر عن وجود الفاعل . بخلاف سلام إبراهيم ; فإنه مرتفع بالابتداء ، فاقتضى الثبوت على الإطلاق ، وهو أولى مما يعرض له الثبوت ، فكأنه قصد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به .

الثالث : ما ذكرناه من دلالة الاسم على الثبوت ، والفعل على التجدد والحدوث ، هو [ ص: 588 ] المشهور عند أهل البيان : وقد أنكره أبو المطرف بن عميرة في كتاب " التمويهات " على " التبيان " لابن الزملكاني ، وقال : إنه غريب لا مستند له ، فإن الاسم إنما يدل على معناه فقط ; أما كونه يثبت المعنى للشيء فلا . ثم أورد قوله تعالى : ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون [ المؤمنون : 15 - 16 ] . وقوله : إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون [ المؤمنون : 57 - 58 ] .

وقال ابن المنير : طريقة العربية تلوين الكلام ، ومجيء الفعلية تارة والاسمية أخرى من غير تكلف لما ذكروه ، وقد رأينا الجملة الفعلية تصدر من الأقوياء الخلص ، اعتمادا على أن المقصود حاصل بدون التأكيد ، نحو : ربنا آمنا [ آل عمران : 53 ] . ولا شيء بعد آمن الرسول [ البقرة : 285 ] وقد جاء التأكيد في كلام المنافقين ، فقالوا : إنما نحن مصلحون [ البقرة : 11 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية