الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          مزايا قصص القرآن في إعجازها العلمي :

                          إن وراء هذه الألوان والأشكال من الإعجاز الصوري ، لأشعة من ضياء العلم والهدى والإعجاز المعنوي ، هي أظهر وأجلى ، وأدق وأخفى ، وأجل وأعلى ، ومجيئها على لسان كهل أمي لم يكن منشئا ولا راوية ولا حافظا ، أدل على كونها من عند الله - تعالى - ، فتأمل ما أذكر به من مزاياها الدينية والعلمية وغيرها المتشعبة ، منها :

                          ( 1 ) بيان أصول دين الله العامة المشتركة بين جميع أنبيائه المرسلين ، من الإيمان بوجوده وتنزيهه وتوحيده وعلمه وحكمته ، ومشيئته وقدرته ، وعدله ورحمته ، وغير ذلك من صفاته ، والإيمان بالبعث والجزاء ، والأمر بالمعروف والبر والإحسان وسائر الأعمال الصالحات ، والنهي عن الفواحش والمنكرات العامة .

                          ( 2 ) بيان أن وظيفة الرسل تبليغ وحي الله - تعالى - لعباده ، وأنهم لا يملكون فيما وراء التبليغ نفعا للناس - لا دينيا كالإيمان والتقوى ، ولا دنيويا كالرزق والصحة ، ولا كشف ضر عنهم كذلك - فقد كان أبو إبراهيم وابن نوح وامرأته وامرأة لوط من الكافرين .

                          ( 3 ) شبهة الأقوام على رسلهم بأنهم بشر ، وأن آياتهم سحر ، واقتراحهم عليهم نزول الملائكة والآيات الكونية الحسية ، وردهم بأن آياتهم من فعل الله - تعالى - لا من كسبهم بقدرتهم .

                          ( 4 ) بيانهم لأقوامهم أن هداية الدين سبب لزيادة النعم في الدنيا وحفظها ، كما أنها هي التي تنال بها سعادة الآخرة ، وأن كلا منهما من كسبهم الاختياري .

                          [ ص: 36 ] ( 5 ) آيات الله وحججه على خلقه في تأييد رسله ، وطرق الإنذار والتحدي ، وما أكرم الله به أنبياءه من الخوارق الخاصة كالأولاد لإبراهيم وزكريا ومريم ، وما ابتلى الله - تعالى - به يوسف - عليه السلام - وما آتاه من العلم والحكمة وتأويل الأحاديث ( الرؤيا ) وما كان من عاقبة اصطفائه له ، ومن إدارته لملك مصر ، وقصته مع أبيه وإخوته وما فيها من العبرة والموعظة .

                          ( 6 ) نصائح الأنبياء ومواعظهم الخاصة بكل قوم بحسب حالهم كقوم نوح في غوايتهم وغرورهم ، وآل فرعون وملئه في ثروتهم وعتوهم ، وقوم لوط في فحشهم ، وعاد في قوتهم وبطشهم ، وثمود في أشرهم وبطرهم ، ومدين في تطفيفهم وإخسارهم لمكاييلهم وموازينهم ، وبني إسرائيل في تمردهم وجمودهم .

                          ( 7 ) بيان سنن الله - تعالى - في استعداد الناس النفسي والعقلي لكل من الإيمان والكفر ، والخير والشر ، والهدى والضلال ، واستكبار الرؤساء والزعماء المترفين والمقلدين للآباء عن الإيمان والإصلاح ، وكون أول من يهتدي به المستضعفين والفقراء ، وفي عاقبة الكفر والجحود ، والبغي والظلم والفسوق .

                          ( 8 ) ما في قصص الأقوام من المسائل التاريخية ، والموضعية والوطنية كفرعون وحال قومه معه في خنوعهم وخضوعهم ، وفنونهم وسحرهم ، وعمرانهم وعظمة ملكهم ، وحال بني إسرائيل معه في استعباده إياهم وظلمه لهم ، ثم في إرثهم الأرض المقدسة بصبرهم وصلاحهم ، ثم في سلبها منهم بكفرهم وفسادهم ، وحال عاد قوم هود في قوتهم وبسطة خلقهم وجبروتهم ، وثمود قوم صالح في استعمارهم الأرض ونحتهم الجبال واتخاذهم منها بيوتا حصينة أمينة ، ومن سهولها قصورا جميلة ، وغير ذلك ، وكون كل ذلك لا يغني عن هداية الوحي الإلهي في إصلاح أنفسهم وتزكيتها وإعدادها لسعادة الآخرة الباقية ، ولم ينج أولئك الأقوياء من عذاب الله لهم في الدنيا ، وتنجية رسله والذين آمنوا لهم واتبعوهم .

                          ( 9 ) بيان سنن الله - تعالى - في الطباع والاجتماع ، والتقدير والتدبير العام ، وما في خلقه للعالم من الحكمة والرحمة والنظام ، والعدل العام ، وعدم محاباة الأفراد ولا الأقوام في نعم الدنيا ونقمها ، ولا في الجزاء على الكفر والمعاصي والإيمان والطاعات في الآخرة ; فقد كان الرسل عليهم السلام يصرحون بكل ذلك . ومنه أن أحدهم لو عصى الله لعذبه ولما كان له من ناصر ينصره أو يمنعه من عقابه - تعالى - خلافا لتعاليم الأديان الوثنية التي جعلت الرؤساء آلهة أو أنصاف آلهة ، أو وكلاء للرب في تدبير خلقه وتقسيم رزقه .

                          ( 10 ) الاحتجاج بكل ذلك على قوم خاتم النبيين ثم على سائر من تبلغهم دعوته من حقية رسالته ، وكون العاقبة له ولمن اتبعه .

                          [ ص: 37 ] فقد علم من جملة هذه القصص في هذه السور ، أن هؤلاء الرسل كانوا خير البشر ، وأهداهم إلى أصح العقائد وأكمل الفضائل وأصلح الأعمال ، وأن آثارهم في الهدى كانت أجل الآثار ، وأنها كانت أفضل قدوة لأهل الأرض ، وعلم منها أن ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - في هذا القرآن هو عين ما جاءوا به من ذلك كله ، إلا أنه أتم وأكمل ، وأعم وأشمل ، فإنه مبعوث إلى جميع الأمم إلى نهاية بقاء الأحياء في هذا العالم . وكانت رسالة كل منهم إلى قومه خاصة .

                          فإن أمكن أن يكون هذا حديثا مفترى فإن مفتريه يكون أكمل منهم كلهم علما وعملا وهداية وإصلاحا ، سواء أكانوا رسلا من الله - تعالى - أم لا ، ويكون أجدر باتباع قومه وغيرهم له واهتدائهم بهديه ، ولن يكشف حقيقة أمره إلا من يستطيع أن يأتي بحديث مثله ، ولو مفترى في صورته وموضوعه ، فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ، فإن الاحتذاء والاتباع أهون من الابتداء والابتداع ، إذا كان لا يتجاوز القيل والقال ، ولكن افتراء الأمي لهذه العلوم الإلهية والنفسية والتشريعية والاجتماعية محال أي محال ، وقد عجز عن مثلها حكماء العلماء ، أفهكذا يكون الافتراء ، والحديث المفترى الذي ينهى عنه العقلاء حرصا على الشرك والجهل الذي كن عليه أولئك السفهاء ؟ ! .

                          ثم إنك تجد هذه المعاني أو المعارف التي أجملتها في عشرة أنواع كلية ( ويمكن تفصيلها والمزيد عليها بما قد يفتح الله - تعالى - على المتدبرين لكتابه ) متفرقة في جميع تلك القصص من تلك السور ، ولا نجد فيها على تكرارها تناقضا ولا تعارضا ، ولا في عباراتها اختلافا ولا تفاوتا ، على ما فيها من إيجاز وقبض ، ومساواة وبسط ، وهذا مما يعجز عنه البشر أيضا ولا يتحقق إلا بالتعدد ، وإذا كانت لا توجد كلها مجتمعة في سورة ولا سورتين ولا ثلاث مما ذكرنا فأحرى بمن يدعي أنها من علم البشر وكلامهم أن يفسح له في التحدي بأن يأتي بعشر سور مثلها ، تشتمل على هذه المزايا كلها ; فالتحدي بهذه السور توسيع على المنكرين إن تصدوا لمعارضتها لا تضييق عليهم ، كما زعم من لم يفقه ما قررته ; لزعمهم أن إعجاز القرآن إنما هو ببلاغته التي فسروها بمطابقة الكلام لمقتضى الحال فقط ، ولو صح هذا الزعم هنا لما كان للتحدي بالعشر بعد الواحدة وجه ، بل لكان مشكلا من أول وهلة ; لأنه يكون من قبيل التجربة من غير العالم بعجزهم عن سورة واحدة ، فضلا عن كونه لم يضرب له أجلا ، ولم ينقل أنه كان له أجل علم بالفعل ، ولا يرد شيء من هذا على قولنا ; فإن مثله كمثل من يكلف شاعرا أن ينظم قصصا مختلفة بقصيدة واحدة ، ومن يوسع عليه بتكليفه أن ينظمها بعدة قصائد مختلفة الروي والقوافي . وإني لأعجب لدهاقي البلاغة الفنية كيف سكتوا عن حكمة هذا العدد إلا قول بعضهم إنه انتهاء إلى آخر جمع القلة ؟ .

                          [ ص: 38 ] وإنني أجزم هنا - بعد التأمل في جميع آيات التحدي وتاريخ نزول سورها - أنها لم يكن مراعى بها الترتيب التاريخي في مخاطبة المشركين كما زعم جمهور المفسرين ، بل ذكر كل منها بمناسبة سياق سورته ، فسورة الطور التي فيها : ( أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ) ( 52 : 33 و 34 ) وهو تحد بجملته ، قد نزلت بعد سورتي يونس وهود اللتين تحداهم فيها بالعشر بعد الواحدة . وسورة الإسراء نزلت قبلهن ، وفيها ذكر عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثله ( 17 : 88 ) ولكنه لم يكن تحديا ، وكان آخر ما نزل في التحدي آية سورة البقرة ( 2 : 23 ) وهو تحد للمرتابين فيما نزله الله على عبده بأن يأتوا بسورة من مثله ; إذ كان نزولها في السنة الثانية للهجرة .

                          الخلاصة أن مشركي مكة المعاندين لم يجدوا شبهة على القرآن - بعد شبهة السحر القديمة التي لم تلق رواجا عند العرب ; لأنه كلام بلغتهم عرفوه وعقلوه وأدركوا علوه على سائر الكلام - إلا زعمهم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قد افتراه في جملته ، وما هو وحي من عند الله - تعالى - ، فتحداهم بالإتيان بمثله بالإجمال ، وبسورة مثله في جملة مزاياه من نظمه وأسلوبه ، وبلاغته وعلومه ، وتأثير هدايته ، وسلطانه الإلهي على الأرواح والعقول فعجزوا ، وبقيت لهم شبهة عليه في قصصه ; إذ ادعى أنها من أنباء الغيب أوحاه الله إليه ، فزعموا أنه إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ، وأنه أساطير الأولين اكتتبها لنفسه فهي تملى عليه ويلقنها لئلا ينساها ، وهذه شبهة خاصة موجهة إلى قصصه المتفرقة في سوره الكثيرة ، لا يدحضها عجزهم عن الإتيان بسورة واحدة مثله في بلاغتها التي حصروا الإعجاز فيها ، ولا إبداع نظمها ولا طرافة أسلوبها أيضا ، ولا سيما إذا كانت قصيرة ، فتحداهم بعشر سور مثله مفتريات ، أي مثل هذه القصص التي زعموا أنها أساطير الأولين ، وإنما تكون مثلها إذا كانت جامعة لمزاياها المعنوية العلمية التي بينا أظهرها في الجمل العشر آنفا .

                          وجملة القول أن التحدي بعشر سور مثله مفتريات قد كان لإبطال هذه التهمة الخاصة من الافتراء ، وقد بينا معناها ، والسور المفصلة فيها التي تمت عشرا بهذه السورة ( هود ) وكلفهم دعوة من استطاعوا من دون الله - تعالى - ليظاهروهم فعجزوا ، ولم يجدوا من آلهتهم ولا من فصحائهم ولا من أعداء النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكتاب من يستجيب لهم ، فقامت عليهم الحجة وعلى غيرهم إلى يوم القيامة ، فهذه حكمة هذا التحدي الظاهرة هنا .

                          وله حكمة أخرى باطنة لازمة للأولى هي التي تمت بها الفائدة ، وهي أنه يوجه الأنظار ويشغل الأفكار بالتأمل في القرآن ، وتدبر ما حواه من حكمة وعرفان ، وما لها في القلوب والعقول من تأثير وسلطان ، فيا حسرة على الغافلين الذين زعموا أن إعجازها محصور في فصاحة المفردات والجمل وبلاغة البيان ، على ما في دلالة الفصاحة والبلاغة على النبوة [ ص: 39 ] من الخلفاء على الأفكار والأذهان ، وقد اختلف المتكلمون في وجه دلالة المعجزة على الرسالة ، وقال الغزالي : إنه لا علاقة بينها وبين إبراء الأكمه والأبرص ، أو انقلاب العصا حية ، ودلالة القرآن ببلاغته مثلها بخلاف دلالته العلمية ، فإنها عقلية كدلالة مدعي علم الطب على علمه بكتاب ألفه فيه يعالج به المرضى فيبرءون . فالبلاغة تكون بالسليقة ، ولكن لا تظهر فجأة وكاملة في سن الكهولة ، والعلم لا يكون إلا بالتعلم قبل هذه السن ، وعلم الغيب خاص بالله - تعالى - ، فثبت بهذا أن علم محمد - صلى الله عليه وسلم - وحي برز بكلام معجز للخلق .

                          والحمد لله الذي آتى هذا العبد الضعيف المتأخر من هذه الكلمة والفهم في كتابه ما لم يؤت أولئك الجهابذة الأقوياء من أئمة العلم وفرسان الكلام ، إثباتا لما وصف به من كونه لا تنتهي عجائبه ، ولا يحيط أحد به علما ، وأن فضله على عباده لا ينحصر في زمان ولا مكان .

                          ويؤيد ما اخترته قوله عز وجل في تقرير هذا الاحتجاج من أن العجز عن المعارضة دليل على أن القرآن من العلم الإلهي قوله - تعالى - :

                          ( فإن لم يستجيبوا لكم ) في هذا الخطاب وجهان صحيحان : ( الوجه الأول ) أنه تتمة لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتحدى به المشركين ، فهو يقول لهم : فإن لم يستجب لكم من تدعونهم من دون الله ليظاهروكم على الإتيان بالعشر السور المماثلة لسور القرآن ، من آلهتكم الذين تدعون وتعبدون ، وهواجسكم الذين يلقنونكم الشعر كما تزعمون ، وقرنائكم من فحول الشعراء ومصاقع الخطباء ، ومن علماء أهل الكتاب العارفين بأخبار الأنبياء ; لعجز الجميع عن ذلك ( فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ) أي فاعلموا أنما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - بمقتضى علم الله ، ملابسا له ، مبينا لما أراد أن يبلغه لعباده من دينه على ألسنة رسله ، لا بعلم محمد ولا غيره ممن تدعون زورا أنهم أعانوه عليه ; لأنه في جملته من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا من أعلمه الله - تعالى - به ، كما قال : ( فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين ) ( 7 : 7 ) وكما تراه في آخر قصة نوح من هذه السورة هود ( الآية 49 ) ومثلها في آخر سورة يوسف ( 12 : 102 ) ومثلهما في سورة القصص ( 28 : 44 - 46 ) وقال في آية أخرى بعد ذلك : ( لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا ) ( 4 : 166 ) وقال : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ) ( 72 : 26 و 27 ) إلخ . وما فيها من العلم الكسبي لم يكسب منه محمد - صلى الله عليه وسلم - شيئا .

                          الاستجابة للداعي إلى الشيء كإجابته إليه ، وعدم الاستجابة لهم داحضة لدعواهم ، مثبتة لكون هذه العلوم التي فيه من علم الله لا من علم البشر ، وهو صريح في أن المراد إنما هو [ ص: 40 ] التحدي بما في هذه السور من العلم ; لأنه هو الذي دحض دعواهم أن محمدا افتراها و ( ( أنما ) ) المفتوحة الهمزة تدل على الحصر كالمكسورة على التحقيق ( وأن لا إله إلا هو ) أي واعلموا أنه لا إله يعبد بالحق إلا هو ; لأن من خصائص الإله أن يعلم ما لا يعلمه غيره ، وأن يعجز كل من عداه عن مثل ما يقدر هو عليه ، كما ظهر بهذا التحدي عجزكم وعجز آلهتكم وغيرهم عن الإتيان بعشر سور مثل سور كتابه بالتفصيل ، وعن سورة واحدة بالإجمال ( فهل أنتم مسلمون ) أي فهل أنتم بعد قيام هذه الحجة عليكم داخلون في الإسلام الذي أدعوكم إليه بهذا القرآن ، مؤمنون بعقائده وحقية أخباره ووعده ووعيده ، مذعنون لأحكامه ؟ أي لم يبق لكم محيص من الإسلام والانقياد ، وقد دحضت شبهتكم . وانقطعت معاذيركم ، إلا جحود العناد وإعراض الاستكبار ، فهذا الاستفهام يتضمن طلب الإسلام والإذعان بأبلغ عبارة ، فهو كقوله بعد وصف الخمر والميسر والأنصاب والأزلام بأنها رجس من عمل الشيطان ، لا يريد إلا إيقاع الشقاق والبغضاء بين الناس في الخمر والميسر وصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة ، وبعد هذا كله قال : ( فهل أنتم منتهون ) ( 5 : 91 ) أي عنهما بعد علمكم بهذا الرجس والمخازي التي فيها أم لا ؟ وأي إنسان يملك مسكة من عقل وشرف لا يقول عند نزول هذه الآية في سورة هود : أسلمنا أسلمنا ، كما قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم عند نزول تلك الآية : انتهينا انتهينا ؟ . ( الوجه الثاني في الآية ) أن الخطاب فيها للنبي - صلى الله عليه وسلم - وجمع الضمير في لكم للتعظيم ، بناء على أنه غير خاص بضمير المتكلم ، أو له ولمن معه من المؤمنين ، إذ كانوا كلهم دعاة إلى الإسلام معه - صلى الله عليه وسلم - وقيل : إنه لهم وحدهم ، وهذا مروي عن مجاهد . والمعنى : فإن لم يجبكم هؤلاء المشركون إلى ما تحديتموهم به من الإتيان بعشر سور مثله ولو مفتريات لا يتقيدون بكون أخبارها حقا كأخبار القرآن - وما هم بمستجيبين لكم لعجزهم وعجز من عسى أن يدعوهم لمظاهرتهم عليه - فاثبتوا على علمكم أنه إنما أنزل بعلم الله ، وازدادوا به إيمانا ويقينا بهذه الحجة ، وأنه لا إله إلا هو ، ولا يستحق العبادة سواه ، فهل أنتم ثابتون على إسلامكم والإخلاص فيه ؟ أي اثبتوا عليه ، والوجه الأول أظهر وأقوى ، وعليه الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري ، وأشار إلى ضعف الثاني ، ولكن رجحه كثيرون ، والحق أنه صحيح ولكنه خلاف الظاهر المتبادر .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية