الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وجه التحدي بعشر سور من قصص القرآن :

                          وأما قصص الرسل - عليهم السلام - فهي التي تظهر فيها حكمة التحدي بالسور العشر على أتمها وأكملها من الوجوه اللفظية والمعنوية المختلفة ، ويكون العجز عن معارضتها أقوى حجة وبرهانا على كونها من عند الله - تعالى - لا مفتراة من عند محمد - صلى الله عليه وسلم - وحده ، ولا مما أعانه غيره عليه كما تصوروا وزوروا ، لأن العجز عن مثلها عام كما سنفصله ، على أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - بدأ بهذه الدعوة بالقرآن وحده ، وكان يتبعه الواحد بعد الواحد من أصدق الناس وأسلمهم فطرة مستهدفين باتباعه للإيذاء والاضطهاد ، ولولا الإيمان بوعد الله لهم ووعيده لأعدائهم لما كان لأحد منهم أمل بالسلامة من الهلاك ، فأي باعث يبعثهم على التعاون معه على تزوير كتاب على الله - عز وجل - يعادون به كبراء قومهم وعصبية أمتهم بما يفرقون به كلمتها ويضعفونها ويذلونها ؟ ! وكيف يعرضون أنفسهم للهلاك ، ويعرض المتمول منهم ماله للزوال لتأييد الكذب والافتراء ، على فرض أنهم غير مؤمنين ، وأنهم قادرون على الإتيان بمثل هذا القرآن ؟ كل ذلك بديهي البطلان .

                          والفرق بين هذه القصص وسائر أخبار الغيب المستقبلة المكرر منها كوعيد الدنيا ووعدها وجزاء الآخرة ، وغير المكرر كالأمثال المضروبة لإيضاح الحقائق أو للعبرة في سور النحل والكهف والقلم وغيرهن أن موضوعها وقائع بشرية تاريخية لها روايات متواترة في جملتها ، بعضها مدون عند أهل الكتاب وغيرهم ، وبعضها محفوظ عند العرب كأخبار عاد وثمود [ ص: 33 ] وإبراهيم وإسماعيل ، فدعوى افترائها من أصلها مكابرة ظاهرة البطلان ، والكلام فيها بغير علم عرضة لضروب من الخطأ اللفظي ، وتكراره مزلة في مداحض التعارض والاختلاف المعنوي ، والتفاوت والخطل البياني ، ويظهر ذلك لكل أحد منهم ; لأنه من جنس معارفهم وما يعهدونه بينهم ، لا كأمور الغيب في غير عالمهم ، فتحديهم بعشر سور من جنسها كالتحدي بمعارضة مقامات الحريري لمقامات بديع الزمان وأمثالهما ، يمكن لأهل اللسان أن يحكموا فيه بالتفاضل بينهما في بيانهما وحكمتهما ومعانيهما .

                          وقد جاءت أخبار الأنبياء مكررة في السور المكية على درجات في قلتها وكثرتها ، تبتدئ بالآية والآيتين والثلاث لبعض هؤلاء الرسل في بعض السور ، وترتقي في بعضها إلى منتهى جمع القلة أو تزيد قليلا ، كما تراه في ( ( آل حمم ) ) من فصلت إلى الأحقاف ، وفي أثناء سور الفرقان و ( ( ق ) ) والذاريات والنجم ، وفي أول الحاقة والفجر وآخر البروج ، فهذه سور تزيد على عشر فيها جميع أنواع الإعجاز اللفظي والمعنوي ، ولكن هذه الأخبار فيها عبر لا تبلغ أن تكون قصصا .

                          وأما القصص فقد تبلغ في بعض سورها عشرات الآيات كيونس وإبراهيم والحجر والمؤمنون والعنكبوت ، وتعد في بعضها بالصفحات لا بالآيات ، ومنها ما أكثره في هذه القصص كالأعراف ومريم والنمل ، ومنها ما ليس فيه من غيرها إلا خاتمة مختصرة كيوسف [ ص: 34 ] وطه والأنبياء والشعراء والقصص ، أو فاتحة هي براعة مطلع وخاتمة هي براعة مقطع ، كهود والصافات و ( ( ص ) ) وفي قصة نوح - عليه السلام - سورة في المفصل خاصة به وبقومه سميت باسمه على تكرارها في السور المختلفة ، وكذلك سورة يوسف - عليه السلام - خاصة بقصته . كما أن سورتي طه والقصص في قصة موسى - عليه السلام - وحدها ، على كثرة تكرارها في غيرهما .

                          بيد أن التحدي بالسور التي فيها القصص إنما يراد به التحدي بها كلها ، لا بالقصص التي فيها دون غيرها ، وقد علمت أنه لا يوجد في القرآن عشر سور ولا خمس ليس فيها شيء سواها ، وأن أكثر السور التي فيها القصص الحقيقية وسط بين الطول والمفصل ، فالأولى منها في المصحف وهي الأعراف من السبع الطوال وآياتها 206 ، وآيات القصص فيها 112 آية ، وقبلها قصة النشأة الإنسانية وافتتاحها وختامها في دعوة الإسلام ، وبعدها فيه سورة يونس ، وهي 109 آيات وقصصها 23 آية ، وتتلوها سورة هود ، وآياتها 123 أكثرها في القصص ، وهي أشبه السور بها في فاتحتها وخاتمتها وتحديها في إبطال الافتراء ، والمأثور أنها نزلت بعدها متممة لها كما تقدم ، فجملة ما نزل قبل سورة هود من سور القصص : الأعراف ويونس ومريم وهي 98 آية ، وطه وهي 135 والطواسين : الشعراء وهي 227 والنمل وهي 93 والقصص وهي 88 وآياتهما أطول من آيات الشعراء ونزلن متعاقبات . ويليهن سورة القمر وهي 55 آية وسورة ( ( ص ) ) وهي 88 آية وقد نزلتا متعاقبتين بعد ما تقدم كله ، فهذه تسع سور ، وسورة هود هي العاشرة لهن .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية