الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : والراسخون في العلم يقولون آمنا به الآية [ 3 \ 7 ] ، لا يخفى أن هذه الواو محتملة للاستئناف ، فيكون قوله : والراسخون في العلم مبتدأ ، وخبره يقولون ، وعليه فالمتشابه لا يعلم تأويله إلا الله وحده ، والوقف على هذا تام على لفظة الجلالة ومحتملة لأن تكون عاطفة ، فيكون قوله : والراسخون معطوفا على لفظ الجلالة ، وعليه فالمتشابه يعلم تأويله : الراسخون في العلم أيضا ، وفي الآية إشارات تدل على أن الواو استئنافية لا عاطفة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 192 ] قال ابن قدامة في روضة الناظر ما نصه : ولأن في الآية قرائن تدل على أن الله سبحانه متفرد بعلم المتشابه ، وأن الوقف الصحيح عند قوله تعالى : وما يعلم تأويله إلا الله لفظا ومعنى ، أما اللفظ فلأنه لو أراد عطف الراسخين لقال : ويقولون آمنا به بالواو ، أما المعنى فلأنه ذم مبتغي التأويل ، ولو كان ذلك للراسخين معلوما لكان مبتغيه ممدوحا لا مذموما ; ولأن قولهم آمنا به يدل على نوع تفويض وتسليم لشيء لم يقفوا على معناه سيما إذا تبعوه بقولهم : كل من عند ربنا فذكرهم ربهم هاهنا يعطي الثقة به والتسليم لأمره ، وأنه صدر من عنده ، كما جاء من عنده المحكم ; ‌‌‌‌‌‌‌‌‌ولأن لفظة أما لتفصيل الجمل فذكره لها في الذين في قلوبهم زيغ مع وصفه إياهم باتباع المتشابه وابتغاء تأويله يدل على قسم آخر يخالفهم في هذه الصفة ، وهم الراسخون . ولو كانوا يعلمون تأويله لم يخالفوا القسم الأول في ابتغاء التأويل ، وإذ قد ثبت أنه غير معلوم التأويل لأحد فلا يجوز حمله على غير ما ذكرنا . اهـ من " الروضة " بلفظه .

                                                                                                                                                                                                                                      ومما يؤيد أن الواو استئنافية لا عاطفة ، دلالة الاستقراء في القرآن أنه تعالى إذا نفى عن الخلق شيئا وأثبته لنفسه ، أنه لا يكون له في ذلك الإثبات شريك كقوله : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله [ 27 \ 65 ] ، وقوله : لا يجليها لوقتها إلا هو [ 7 \ 187 ] ، وقوله : كل شيء هالك إلا وجهه [ 28 \ 88 ] ، فالمطابق لذلك أن يكون قوله : وما يعلم تأويله إلا الله ، معناه : أنه لا يعلمه إلا هو وحده كما قاله الخطابي وقال : لو كانت الواو في قوله : والراسخون في العلم للنسق ، لم يكن لقوله : كل من عند ربنا فائدة : والقول بأن الوقف تام على قوله : إلا الله ، وأن قوله : والراسخون ابتداء كلام هو قول جمهور العلماء للأدلة القرآنية التي ذكرنا .

                                                                                                                                                                                                                                      وممن قال بذلك عمر ، وابن عباس ، وعائشة ، وعروة بن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب ، نقله عنهم القرطبي وغيره ، ونقله ابن جرير عن يونس ، عن أشهب ، عن مالك بن أنس ، وهو مذهب الكسائي والأخفش والفراء وأبي عبيد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو نهيك الأسدي : إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم : آمنا به كل من عند ربنا ، والقول بأن الواو عاطفة مروي [ ص: 193 ] أيضا عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد والربيع ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، والقاسم بن محمد وغيرهم . وممن انتصر لهذا القول وأطال فيه ابن فورك ونظير الآية في احتمال الاستئناف والعطف قول الشاعر :

                                                                                                                                                                                                                                      [ مرفل الكامل ]

                                                                                                                                                                                                                                      الريح تبكي شجوها والبرق يلمع في الغمامه



                                                                                                                                                                                                                                      فيحتمل أن يكون والبرق مبتدأ ، والخبر يلمع كالتأويل الأول ، فيكون مقطوعا مما قبله ، ويحتمل أن يكون معطوفا على الريح ، ويلمع في موضع الحال على التأويل الثاني أي : لامعا .

                                                                                                                                                                                                                                      واحتج القائلون بأن الواو عاطفة بأن الله - سبحانه وتعالى - مدحهم بالرسوخ في العلم فكيف يمدحهم بذلك وهم جهال .

                                                                                                                                                                                                                                      قال القرطبي : قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمرو : هذا القول هو الصحيح فإن تسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب ، وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع . انتهى منه بلفظه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه : يجاب عن كلام شيخ القرطبي المذكور بأن رسوخهم في العلم هو السبب الذي جعلهم ينتهون حيث انتهى علمهم ويقولون فيما لم يقفوا على علم حقيقته من كلام الله جل وعلا : آمنا به كل من عند ربنا بخلاف غير الراسخين فإنهم يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، وهذا ظاهر .

                                                                                                                                                                                                                                      وممن قال بأن الواو عاطفة الزمخشري في تفسيره " الكشاف " . والله تعالى أعلم ونسبة العلم إليه أسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض العلماء : والتحقيق في هذا المقام أن الذين قالوا : هي عاطفة جعلوا معنى التأويل التفسير وفهم المعنى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم علمه التأويل " ، أي : التفسير وفهم معاني القرآن ، والراسخون يفهمون ما خوطبوا به وإن لم يحيطوا علما بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه . والذين قالوا : هي استئنافية جعلوا معنى التأويل حقيقة ما يئول إليه الأمر وذلك لا يعلمه إلا الله ، وهو تفصيل جيد ولكنه يشكل عليه أمران :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول قول ابن عباس رضي الله عنهما : التفسير على أربعة أنحاء : تفسير : لا [ ص: 194 ] يعذر أحد في فهمه ، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلا الله . فهذا تصريح من ابن عباس أن هذا الذي لا يعلمه إلا الله بمعنى التفسير لا ما تئول إليه حقيقة الأمر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله هذا ينافي التفصيل المذكور .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أن الحروف المقطعة في أوائل السور لا يعلم المراد بها إلا الله إذ لم يقم دليل على شيء معين أنه هو المراد بها من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع ولا من لغة العرب . فالجزم بأن معناها كذا على التعيين تحكم بلا دليل .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية