الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              فصل

              كان المسلمون قبل الهجرة آخذين بمقتضى التنزيل المكي على ما أداهم إليه اجتهادهم واحتياطهم ، فسبقوا غاية السبق حتى سموا " السابقين " بإطلاق ، ثم لما هاجروا إلى المدينة ولحقهم في ذلك السبق من شاء الله من الأنصار ، وكملت لهم بها شعب الإيمان ومكارم الأخلاق ، وصادفوا ذلك وقد رسخت في أصولها أقدامهم ، فكانت المتممات أسهل عليهم ، فصاروا بذلك نورا حتى نزل مدحهم والثناء عليهم في مواضع من كتاب الله ، ورفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أقدارهم ، وجعلهم في الدين أئمة ، فكانوا هم القدوة العظمى في أهل الشريعة ، ولم يتركوا بعد الهجرة ما كانوا عليه ، بل زادوا في الاجتهاد ، وأمعنوا في الانقياد لما حد لهم في المكي والمدني معا .

              لم تزحزحهم الرخص المدنيات عن الأخذ بالعزائم المكيات ، ولا صدهم عن بذل المجهود في طاعة الله ما متعوا به من الأخذ بحظوظهم ، وهم منها في سعة : والله يختص برحمته من يشاء [ البقرة : 105 ] .

              فعلى تقرير هذا الأصل ، من أخذ بالأصل الأول واستقام فيه كما استقاموا فطوبى له ، ومن أخذ بالأصل الثاني فبها ونعمت ، وعلى الأول جرى [ ص: 242 ] الصوفية الأول ، وعلى الثاني جرى من عداهم ممن لم يلتزم ما التزموه ، ومن هاهنا يفهم شأن المنقطعين إلى الله فيما امتازوا به من نحلتهم المعروفة ، فإن الذي يظهر لبادئ الرأي منهم أنهم التزموا أمورا لا توجد عند العامة ، ولا هي مما يلزمهم شرعا ، فيظن الظان أنهم شددوا على أنفسهم ، وتكلفوا ما لم يكلفوا ، ودخلوا على غير مدخل أهل الشريعة .

              وحاش لله ما كانوا ليفعلوا ذلك ، وقد بنوا نحلتهم على اتباع السنة ، وهم باتفاق أهل السنة صفوة الله من الخليقة ، لكن إذا فهمت حالة المسلمين في التكليف أول الإسلام ، ونصوص التنزيل المكي المحكم الذي لم ينسخ ، وتنزيل أعمالهم عليه - تبين لك أن تلك الطريق سلك هؤلاء ، وباتباعها عنوا على وجه لا يضاد المدني المفسر .

              فإذا سمعت مثلا أن بعضهم سئل عما يجب من الزكاة في مائتي درهم ، فقال : أما على مذهبنا فالكل لله ، وأما على مذهبكم فخمسة دراهم ، وما أشبه ذلك علمت أن هذا يستمد مما تقدم ، فإن التنزيل المكي أمر فيه بمطلق إنفاق المال في طاعة الله ، ولم يبين فيه الواجب من غيره ، بل وكل إلى اجتهاد المنفق ، ولا شك أن منه ما هو واجب ومنه ما ليس بواجب ، والاحتياط في مثل هذا المبالغة في الإنفاق في سد الخلات ، وضروب الحاجات إلى غاية تسكن إليها نفس المنفق ، فأخذ هذا المسئول في خاصة نفسه بما أفتى به والتزمه [ ص: 243 ] مذهبا في تعبده ، وفاء بحق الخدمة ، وشكر النعمة ، وإسقاطا لحظوظ نفسه ، وقياما على قدم العبودية المحضة حتى لم يبق لنفسه حظا وإن أثبته له الشارع اعتمادا على أن لله خزائن السماوات والأرض ، وأنه قال : لا نسألك رزقا نحن نرزقك [ طه : 132 ] وقال : ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون [ الذاريات : 57 ] وقال : وفي السماء رزقكم وما توعدون [ الذاريات : 22 ] ونحو ذلك ، فهذا نحو من التعبد لمن قدر على الوفاء به ، ومثله لا يقال في ملتزمه : إنه خارج عن الطريقة ، ولا متكلف في التعبد ، لكن لما كان هذا الميدان لا يسرح فيه كل الناس قيد في التنزيل المدني حين فرضت الزكوات ، فصارت هي الواجبة انحتاما ، مقدرة لا تتعدى إلى ما دونها ، وبقي ما سواها على حكم الخيرة ، فاتسع على المكلف مجال الإبقاء جوازا ، والإنفاق ندبا ، فمن مقل في إنفاقه ومن مكثر ، والجميع محمودون ؛ لأنهم لم يتعدوا حدود الله ، فلما كان الأمر على هذا استفسر المسئول السائل ليجيبه عن مقتضى سؤاله .

              ومنهم من لا ينتهي في الإنفاق إلى إنفاذ الجميع ، بل يبقي بيده ما تجب في مثله الزكاة حتى تجب عليه ، وهو مع ذلك موافق في القصد لمن لم يبق شيئا ، علما بـ " أن في المال حقا سوى الزكاة " وهو لا يتعين تحقيقا ، وإنما فيه الاجتهاد ، فلا يزال ناظرا في ذلك ، مجتهدا فيه ما بقي بيده منه شيء ، [ ص: 244 ] متحملا منه أمانة لا ينفك عنها إلا بنفاذه ، أو كالوكيل فيه لخلق الله ، سواء عليه أعد نفسه منهم أم لا .

              وهذا كان غالب أحوال الصحابة ، ولم يكن إمساكهم مضادا لاعتمادهم على مسبب الأسباب سبحانه وتعالى ، إلا أن هذا الرأي أجري على اعتبار سنة الله تعالى في العاديات ، والأول ليس للعاديات عنده مزية في جريان الأحكام على العباد .

              وأما من أبقى لنفسه حظا ، فلا حرج عليه ، وقد أثبت له حظه من التوسع في المباحات على شرط عدم الإخلال بالواجبات ، وهكذا يجب أن ينظر في كل خصلة من الخصال المكية حتى يعلم أن الأمر كما ذكر ، فالصواب - والله أعلم - أن أهل هذا القسم معاملون حكما بما قصدوا من استيفاء الحظوظ ، فيجوز لهم ذلك ، بخلاف القسمين الأولين ، وهما من لا يأخذ بتسببه أو يأخذ به ، ولكن على نسبة القسمة ونحوها .

              فإن قيل : فلم لا تقع الفتيا بمقتضى هذا الأصل عند الفقهاء ؟

              فاعلم أن النظر فيه خاص لا عام ، بمعنى أنه مبني على حالة يكون المستفتي عليها ، وهو كونه يعمل لله ويترك لله في جميع تصاريفه ، فسقط له طلب الحظ لنفسه ، فساغ أن يفتي على حسب حاله ؛ لأنه يقول : هذه حالتي فاحملني على مقتضاها ، فلا بد أن يحمله على ما تقتضيه ، كما لو قال أحد للمفتي : إني عاهدت الله على ألا أمس فرجي بيميني ، أو عزمت على ألا أسأل أحدا شيئا ، وألا تمس يدي يد مشرك ، وما أشبه هذا ، فإنه عقد عقدا [ ص: 245 ] لله على فعل فضل ، وقد قال تعالى : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم [ النحل : 91 ] .

              ومدح الله في كتابه الموفين بعهدهم إذا عاهدوا ، وهكذا كان شأن المتجردين لعبادة الله ، فهو مما يطلب الوفاء به ما لم يمنع مانع .

              وفي الحديث : " إن خيرا لأحدكم ألا يسأل من أحد شيئا " فكان أحدهم يقع له سوطه من يده فلا يسأل أحدا أن يناوله إياه .

              وقال عثمان : ما مسست ذكري بيميني منذ بايعت بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

              وقصة حمى الدبر ظاهرة في هذا المعنى ؛ إذ عاهد الله ألا يمس مشركا ، فحمته الدبر حين استشهد أن يمسه مشرك ، الحديث كما وقع .

              [ ص: 246 ] غير أن الفتيا بمثل هذا اختصت بشيوخ الصوفية ، لأنهم المباشرون لأرباب هذه الأحوال ، وأما الفقهاء فإنما يتكلمون في الغالب مع من كان طالبا لحظه من حيث أثبته له الشارع ، فلا بد أن يفتيه بمقتضاه ، وحدود الحظوظ معلومة في فن الفقه ، فلو فرضنا أحدا جاء سائلا وحاله ما تقدم ، لكان على الفقيه أن يفتيه بمقتضاه ، ولا يقال : إن هذا خلاف ما صرح به الشارع ؛ لأن الشارع قد صرح بالجميع ، لكن جعل إحدى الحالتين وهي المتكلم فيها من مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم ، ولم يلزمها أحدا ؛ لأنها اختيارية في الأصل بخلاف الأخرى العامة ، فإنها لازمة ، فاقتضى ذلك الفتيا بها عموما كسائر ما يتكلم الفقهاء فيه .

              فإن قيل : فإذا كانت غير لازمة ، فلم تقع الفتيا بها على مقتضى اللزوم ؟

              قيل : لم يفت بها على مقتضى اللزوم الذي لا ينفك عنه السائل من حيث القضاء عليه بذلك ، وإنما يفتي بها ، وهو طالب أن يلزم نفسه ذلك حسبما استدعاه حاله ، وأصل الإلزام معمول به شرعا ، وأصله النذر والوفاء بالوعد في [ ص: 247 ] التبرعات ، ومن مكارم الأخلاق ما هو لازم ، كالمتعة في الطلاق ، وحديث : لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره .

              وكان - عليه الصلاة والسلام - يعامل أصحابه بتلك الطريقة ، ويميل بهم إليها ، كحديث الأشعريين إذا أرملوا .

              وقوله : من كان له فضل ظهر ، فليعد به على من لا ظهر له الحديث بطوله .

              وقوله : من ذا الذي تألى على الله لا يفعل الخير .

              [ ص: 248 ] وإشارته إلى بعض أصحابه أن يحط عن غريمه الشطر من دينه .

              وقد أنزل الله في شأن أبي بكر الصديق حين ائتلى ألا ينفق على مسطح : ولا يأتل أولو الفضل منكم الآية [ النور : 22 ] ، وبذلك عمل عمر بن الخطاب في حكمه على محمد بن مسلمة بإجراء الماء على أرضه ، وقال : والله ليمرن به ولو على بطنك .

              [ ص: 249 ] إلى كثير من هذا الباب .

              وأخص من هذا فتيا أهل الورع إذا علمت درجة الورع في مراتبه ، فإنه يفتي بما تقتضيه مرتبته كما يحكى عن أحمد بن حنبل أن امرأة سألته عن الغزل بضوء مشاعل السلطان ، فسألها : من أنت ؟ فقالت : أخت بشر الحافي ، فأجابها بترك الغزل بضوئها ، هذا معنى الحكاية دون لفظها .

              وقد حكى مطرف عن مالك في هذا المعنى أنه قال : كان مالك يستعمل في نفسه ما لا يفتي به الناس - يعني العوام - ويقول : لا يكون العالم عالما حتى يكون كذلك ، وحتى يحتاط لنفسه بما لو تركه لم يكن عليه فيه إثم ، هذا كلامه .

              وفي هذا من كلام الناس والحكايات عنهم كثير ، والله أعلم .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية