الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 142 ] المسألة التاسعة

              فيعرض فيه أن يعتقد في صاحبه أو يعتقد هو في نفسه أنه من أهل الاجتهاد وأن قوله معتد به ، وتكون مخالفته تارة في جزئي ، وهو أخف ، وتارة في كلي من كليات الشريعة وأصولها العامة ، كانت من أصول الاعتقادات أو الأعمال; فتراه آخذا ببعض جزئياتها في هدم كلياتها حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادئ رأيه من غير إحاطة بمعانيها ، ولا راجع رجوع الافتقار إليها ، ولا [ ص: 143 ] مسلم لما روي عنهم في فهمها ، ولا راجع إلى الله ورسوله في أمرها كما قال : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية [ النساء : 59 ] .

              ويكون الحامل على ذلك بعض الأهواء الكامنة في النفوس ، الحاملة على ترك الاهتداء بالدليل الواضح ، واطراح النصفة ، والاعتراف بالعجز فيما لم يصل إليه علم الناظر ، ويعين على هذا الجهل بمقاصد الشريعة وتوهم بلوغ درجة الاجتهاد باستعجال نتيجة الطلب; فإن العاقل قلما يخاطر بنفسه في اقتحام المهالك مع العلم بأنه مخاطر .

              وأصل هذا القسم مذكور في قوله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات الآية [ آل عمران : 7 ] .

              وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ، ثم قال : فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه; فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم .

              والتشابه في القرآن لا يختص بما نص عليه العلماء من الأمور الإلهية [ ص: 144 ] الموهمة للتشبيه ، ولا العبارات المجملة ، ولا ما يتعلق بالناسخ والمنسوخ ، ولا غير ذلك مما يذكرون ، بل هو من جملة ما يدخل تحت مقتضى الآية إذ لا دليل على الحصر ، وإنما يذكرون من ذلك ما يذكرون على عادتهم في القصد إلى مجرد التمثيل ببعض الأمثلة الداخلة تحت النصوص الشرعية; فإن الشريعة إذا كان فيها أصل مطرد في أكثرها مقرر واضح في معظمها ثم جاء بعض المواضع فيها مما يقتضي ظاهره مخالفة ما اطرد; فذلك من المعدود في المتشابهات التي يتقى اتباعها; لأن اتباعها مفض إلى ظهور معارضة بينها وبين الأصول المقررة والقواعد المطردة ، فإذا اعتمد على الأصول وأرجئ أمر النوادر ووكلت إلى عالمها أو ردت إلى أصولها ، فلا ضرر على المكلف المجتهد ، ولا تعارض في حقه .

              [ ص: 145 ] ودل على ذلك قوله تعالى : منه آيات محكمات هن أم الكتاب [ آل عمران : 7 ] فجعل المحكم - وهو الواضح المعنى الذي لا إشكال فيه ، ولا اشتباه - هو الأم والأصل المرجوع إليه ، ثم قال : وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] يريد : وليست بأم ، ولا معظم; فهي إذا قلائل ، ثم أخبر أن اتباع المتشابه منها شأن أهل الزيغ والضلال عن الحق والميل عن الجادة ، وأما الراسخون في العلم فليسوا كذلك ، وما ذاك إلا باتباعهم أم الكتاب وتركهم الاتباع للمتشابه .

              وأم الكتاب يعم ما هو من الأصول الاعتقادية أو العملية إذ لم يخص الكتاب ذلك ، ولا السنة ، بل ثبت في الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : افترقت اليهود على إحدى أو اثنين وسبعين فرقة ، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنين وسبعين فرقة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة [ ص: 146 ] وفي الترمذي تفسير هذا بإسناد غريب عن غير أبي هريرة; فقال في حديثه : وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة ، كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا : من هي يا رسول الله ؟ قال : " ما أنا عليه وأصحابي " .

              والذي عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ظاهر في الأصول الاعتقادية والعملية على الجملة ، لم يخص من ذلك شيء دون شيء .

              وفي أبي داود : وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ، ثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة ، وهي الجماعة وهي بمعنى الرواية [ ص: 147 ] التي قبلها .

              وقد روي ما يبين هذا المعنى ، ذكره ابن عبد البر بسند لم يرضه ، وإن كان غيره قد هون الأمر فيه ، أنه قال : ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال فهذا نص على دخول الأصول العملية تحت قوله : " ما أنا عليه وأصحابي " وهو [ ص: 148 ] ظاهر; فإن المخالف في أصل من أصول الشريعة العملية لا يقصر عن المخالف في أصل من الأصول الاعتقادية في هدم القواعد الشرعية .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية