الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 92 ] الثانية : أول مصنف في الصحيح المجرد ، صحيح البخاري ، ثم مسلم

        التالي السابق


        ( الثانية ) من مسائل الصحيح ( أول مصنف في الصحيح المجرد صحيح ) الإمام محمد بن إسماعيل ( البخاري ) ، والسبب في ذلك ما رواه عنه إبراهيم بن معقل النسفي قال : كنا عند إسحاق بن راهويه فقال : لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : فوقع ذلك في قلبي ، فأخذت في جمع الجامع الصحيح .

        وعنه أيضا قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذب عنه ، فسألت بعض المعبرين فقال لي : أنت تذب عنه الكذب ، فهو الذي [ ص: 93 ] حملني على إخراج الجامع الصحيح . قال : وألفته في بضع عشرة سنة .

        وقد كانت الكتب قبله مجموعة ممزوجا فيها الصحيح بغيره ، وكانت الآثار في عصر الصحابة وكبار التابعين غير مدونة ولا مرتبة ، لسيلان أذهانهم وسعة حفظهم ، ولأنهم كانوا نهوا أولا عن كتابتها ، كما ثبت في صحيح مسلم ؛ خشية اختلاطها بالقرآن ، ولأن أكثرهم كان لا يحسن الكتابة ، فلما انتشر العلماء في الأمصار وكثر الابتداع من الخوارج والروافض دونت ممزوجة بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين وغيرهم .

        فأول من جمع ذلك : ابن جريج بمكة ، وابن إسحاق أو مالك بالمدينة ، والربيع بن صبيح أو سعيد بن أبي عروبة أو حماد بن سلمة بالبصرة ، وسفيان الثوري بالكوفة ، والأوزاعي بالشام ، وهشيم بواسط ، ومعمر باليمن ، وجرير بن عبد الحميد بالري ، وابن المبارك بخراسان .

        قال العراقي وابن حجر : وكان هؤلاء في عصر واحد فلا ندري أيهم سبق .

        وقد صنف ابن أبي ذئب بالمدينة موطأ أكبر من موطأ مالك ، حتى قيل لمالك : ما الفائدة في تصنيفك ؟ قال : ما كان لله بقي .

        [ ص: 94 ] قال شيخ الإسلام : وهذا بالنسبة إلى الجمع بالأبواب ، أما جمع حديث إلى مثله في باب واحد فقد سبق إليه الشعبي ، فإنه روي عنه أنه قال : هذا باب من الطلاق جسيم ، وساق فيه أحاديث ، ثم تلا المذكورين كثير من أهل عصرهم إلى أن رأى بعض الأئمة أن تفرد أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، وذلك على رأس المائتين ، فصنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي مسندا ، وصنف مسدد البصري مسندا ، وصنف أسد بن موسى الأموي مسندا . وصنف نعيم بن حماد الخزاعي المصري مسندا ، ثم اقتفى الأئمة آثارهم ، فقل إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعثمان بن أبي شيبة وغيرهم . اهـ .

        قلت : وهؤلاء المذكورون في أول من جمع ، كلهم في أثناء المائة الثانية ، وأما ابتداء تدوين الحديث فإنه وقع على رأس المائة في خلافة عمر بن عبد العزيز بأمره ، ففي صحيح البخاري في أبواب العلم : وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم : انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء .

        وأخرجه أبو نعيم في تاريخ أصبهان بلفظ : كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق : انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاجمعوه .

        قال في فتح الباري : يستفاد من هذا ابتداء تدوين الحديث النبوي ، ثم أفاد أن أول من دونه بأمر عمر بن عبد العزيز : ابن شهاب الزهري .



        [ ص: 95 ] تنبيه

        قول المصنف : " المجرد " زيادة على ابن الصلاح ، احترز بها عما اعترض عليه به ، من أن مالكا أول من صنف الصحيح ، وتلاه أحمد بن حنبل وتلاه الدارمي ، قال العراقي : والجواب أن مالكا لم يفرد الصحيح بل أدخل فيه المرسل والمنقطع والبلاغات ، ومن بلاغاته أحاديث لا تعرف ، كما ذكره ابن عبد البر ، فلم يفرد الصحيح إذن ، وقال مغلطاي : لا يحسن هذا جوابا ، لوجود مثل ذلك في كتاب البخاري .



        قال شيخ الإسلام : كتاب مالك صحيح عنده وعند من يقلده على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع وغيرهما ، لا على الشرط الذي تقدم التعريف به . قال : والفرق بين ما فيه من المنقطع وبين ما في البخاري أن الذي في الموطأ هو كذلك مسموع لمالك غالبا ، وهو حجة عنده ، والذي في البخاري قد حذف إسناده عمدا لقصد التخفيف إن كان ذكره في موضع آخر موصولا ، أو لقصد التنويع إن كان على غير شرطه ليخرجه عن موضوع كتابه ، وإنما يذكر ما يذكر من ذلك تنبيها واستشهادا واستئناسا وتفسيرا لبعض آيات ، وغير ذلك مما سيأتي عند الكلام على التعليق .

        فظهر بهذا أن الذي في البخاري لا يخرجه عن كونه جرد فيه الصحيح بخلاف الموطأ ، وأما ما يتعلق بمسند أحمد والدارمي فسيأتي الكلام فيه في نوع الحسن عند ذكر المسانيد .

        [ ص: 96 ] ( ثم ) تلا البخاري في تصنيف الصحيح : ( مسلم ) بن الحجاج تلميذه ، قال العراقي : وقد اعترض هذا بقول أبي الفضل أحمد بن سلمة : كنت مع مسلم بن الحجاج في تأليف هذا الكتاب سنة خمس ومائتين ، وهذا تصحيف إنما هو خمسين بزيادة الياء والنون ؛ لأن في سنة خمس كان عمر مسلم سنة ، بل لم يكن البخاري صنف إذ ذاك ، فإن مولده سنة أربع وتسعين ومائة .




        الخدمات العلمية