الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 308 ] كيف يقول من روى بالمناولة وبالإجازة


516 - واختلفوا فيمن روى ما نوولا فمالك وابن شهاب جعلا      517 - إطلاقه حدثنا وأخبرا
يسوغ وهو لائق بمن يرى      518 - العرض كالسماع بل أجازه
بعضهم في مطلق الإجازه      519 - والمرزباني وأبو نعيم
أخبر ، والصحيح عند القوم      520 - تقييده بما يبين الواقعا
إجازة تناولا هما معا      521 - أذن لي ، أطلق لي ، أجازني
سوغ لي ، أباح لي ، ناولني      522 - وإن أباح الشيخ للمجاز
إطلاقه لم يكف في الجواز      523 - وبعضهم أتى بلفظ موهم
شافهني ، كتب لي ، فما سلم      524 - وقد أتى بخبر الأوزاعي
فيها ولم يخل من النزاع      525 - ولفظ " أن " اختاره الخطابي
وهو مع الإسناد ذو اقتراب      526 - وبعضهم يختار في الإجازه
أنبأنا كصاحب الوجازه      527 - واختاره الحاكم فيما شافهه
بالإذن بعد عرضه مشافهه      528 - واستحسنوا للبيهقي مصطلحا
أنبأنا إجازة فصرحا      529 - وبعض من تأخر استعمل " عن
" إجازة وهي قريبة لمن      530 - سماعه من شيخه فيه يشك
وحرف " عن " بينهما فمشترك      531 - وفي البخاري قال لي فجعله
حيريهم للعرض والمناوله

( كيف يقول من روى ) ما تحمله ( بالمناولة وبالإجازة ) الماضيين ( واختلفوا ) أي : الأئمة من المحدثين وغيرهم ( في ) ما يقول ( من روى ما نوولا ) المناولة المعتبرة مما تقدم ( فمالك ) ، هو ابن أنس ( وابن شهاب ) الزهري ( جعلا إطلاقه ) أي : الراوي .

( حدثنا وأخبرا ) أي : وأخبرنا ( يسوغ وهو ) أي : الإطلاق ( لائق ب ) مذهب ( من يرى ) كما تقدم في محله ( العرض ) في المناولة ( ك ) عرض ( السماع ) . وممن حكى هذا [ ص: 309 ] الإطلاق عن مالك الخطيب ، وإنه قال : قل ما شئت من ثنا وأنا .

وروي أيضا عن الحسن أنه قال : يسعه أن يقول : حدثني فلان عن فلان .

واجتمع ابن وهب وابن القاسم وأشهب على أنه يقول : أخبرني ، وعن أحمد بن حنبل فيمن روى الكتاب ، بعضه قراءة وبعضه تحديثا وبعضه مناولة وبعضه إجازة ، أنه يقول في كله : أنا ( بل أجازه ) أي : إطلاقهما ( بعضهم ) كابن جريج وجماعة من المتقدمين ، حسبما عزاه إليهم عياض ، وكمالك أيضا وأهل المدينة كما حكاه عنهم صاحب الوجازة ( في مطلق ) أي : في الرواية بمطلق ( الإجازه ) يعني : المجردة عن المناولة ، حتى قيل : إنه مذهب عامة حفاظ الأندلس ، ومنهم ابن عبد البر ، فيقولون فيما يجاز : حدثنا وأنا .

وعن عيسى بن مسكين قال : الإجازة رأس مال كبير ، وجائز أن يقول فيها : حدثني وأخبرني . واختاره بعض المتأخرين وقال : إن الإجازة كيف ما كانت إخبار وتحديث ، فيجوز ذلك فيها ، والاتصال السندي واقع به ; إذ كل واحد من نوعي الإجازة والسماع طريق تحمل ، والتعرض لتعيين النوع المتحمل به ليس بلازم ، ولا العمل متوقف عليه .

وقال أبو مروان الطبني : له أن يقول في الإجازة بالمعين : حدثني .

وذهب إلى جوازه كذلك إمام الحرمين ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، محتجا له بأن [ ص: 310 ] مدلول التحديث لغة : إلقاء المعاني إليك ، سواء ألقاه لفظا أو كتابة أو إجازة ، وقد سمى الله تعالى القرآن حديثا حدث به العباد وخاطبهم به ، فكل محدث أحدث إليك شفاها أو بكتاب أو بإجازة فقد حدثك به ، وأنت صادق في قولك : حدثني ، ويسمى الواقع في المنام حديثا ، كما قال تعالى : ( ولنعلمه من تأويل الأحاديث ) [ يوسف : 21 ] .

( و ) كذا أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى بن عبيد ( المرزباني ) بضم الزاي نسبة لجد له اسمه المرزبان البغدادي ، صاحب أخبار ورواية للأدب وتصانيف كثيرة ، وكان في داره خمسون ما بين لحاف ومحبرة لمن يبيت عنده ، مات سنة أربع وثمانين وثلاثمائة 348 ه .

( وأبو نعيم ) الأصبهاني الحافظ صاحب التصانيف الكثيرة في علم الحديث ، أطلقا في الإجازة لفظ ( أخبر ) أي : أخبرنا ، خاصة من غير بيان ، وممن حكاه عنهما الخطيب ، وعن ثانيهما فقط أبو الفضل بن طاهر ، وحكى الخطيب أن أولهما عيب بذلك ، وكذا نقل ابن طاهر ثم الذهبي في ميزانه عن الخطيب أنه عاب ثانيهما أيضا به ، فقال : رأيت لأبي نعيم أشياء يتساهل فيها ، مثل أن يقول في الإجازة : أنا ، من غير بيان . بل أدخله لذلك ابن الجوزي ثم الذهبي في الضعفاء ، وقال : إنه مذهب رآه هو وغيره ، قال : وهو ضرب من التدليس .

[ ص: 311 ] قلت : أما عيب الأول به فظاهر ; لكونه لم يبين اصطلاحه ، وأكثر مع ذلك منه ، بحيث أن أكثر ما أورده في كتبه بالإجازة لا السماع ، وانضم إلى ذلك أنه رمي بالاعتزال ، وبأنه كان يضع المحبرة وقنينة النبيذ ولا يزال يكتب ويشرب .

وأما ثانيهما فبعد بيان اصطلاحه لا يكون مدلسا ، ولذا قال ابن دحية : سخم الله وجه من يعيبه بهذا ، بل هو الإمام عالم الدنيا . وقال شيخنا : إنهم وإن عابوه بذلك فيجاب عنه بأنه اصطلاح له خالف فيه الجمهور ، فإنه كان يرى أن يقول في السماع مطلقا ، سواء قرأ بنفسه أو سمع من لفظ شيخه ، أو بقراءة غيره على شيخه : ثنا ، بلفظ التحديث في الجميع ، ويخص الإخبار بالإجازة ، يعني كما صرح هو باصطلاحه ; حيث قال : إذا قلت : أنا ، على الإطلاق من غير أن أذكر فيه إجازة أو كتابة أو كتب لي أو أذن لي ، فهو إجازة ، أو ثنا فهو سماع ، ويقوي التزامه لذلك أنه أورد في مستخرجه على علوم الحديث للحاكم عدة أحاديث رواها عن الحاكم بلفظ الإخبار مطلقا ، وقال في آخر الكتاب : الذي رويته عن الحاكم بالإجازة ، فإذا أطلق الإخبار على اصطلاحه عرف أنه أراد الإجازة ، فلا اعتراض عليه من هذه الحيثية ، بل ينبغي أن ينبه على ذلك ; لئلا يعترض عليه - انتهى .

ومع كونه بين اصطلاحه ، فقد قال ابن النجار : إنه إنما يفعله نادرا ; لاستغنائه بكثرة المسموعات التي عنده ، فقد قرأت مستخرجه على مسلم فما وجدت فيه شيئا بالإجازة ، إلا مويضعات يسيرة ، حديثا عن الأصم ، وآخر عن خيثمة ، وعن غيرهما ، وكذا اعتذر عنه غيره بالندور ، وكلام المنذري أيضا مشعر به ; فإنه قال : هذا لا ينقصه شيئا ; إذ هو يقول في معظم تصانيفه : أخبرنا فلان إجازة ، قال : [ ص: 312 ] وعلى تقدير أن يطلق في الإجازة أنا بدون بيان فهو مذهب جماعة ، فلا يبعد أن يكون مذهبا له أيضا ، على أن شيخنا جوز أن الحافظ أبا نصر أحمد بن عمر الغازي الأصبهاني ممن كان يفعل ذلك أيضا ، وذلك أن الحافظ بن السمعاني لما قال في ترجمته : إنه كان لا يفرق السماع من الإجازة ، قال الذهبي : يريد أن السماع والإجازة سواء في الاتصال أو الاحتجاج ، وإلا فمن له أدنى معرفة يريد - أي : يفهم - أن السماع شيء ، والإجازة شيء .

قال شيخنا : ما أظنه أراد ما فهمه الذهبي ، وإنما مراده أنه إذا حدث لا يميز هذا من هذا ، بل يقول مثلا في كل منهما : أنا ، ولا يعين في الإجازة كونها إجازة - انتهى .

وأغرب من هذا كله ما قيل من أن أبا نعيم كان يقول فيما لم يسمعه من مشايخه بل رواه إجازة : أخبرنا فلان فيما قرئ عليه ، ولا يقول : وأنا أسمع ، فيشتد الالتباس على من لم يعرف حقيقة الحال .

وفي تأريخ أصبهان له شيء من ذلك ، كقوله : أنا عبد الله بن جعفر فيما قرئ عليه . بل وكذا في ترجمة محمد بن يوسف الأصبهاني من الحلية له : أنا عبد الله بن جعفر فيما قرئ عليه ، زاد فيها : وحدثني عنه أبو محمد بن حيان . وهذه الزيادة مما يتضح بها المراد ; فإنها تشعر أنه رواه عاليا عن الأول إجازة ، وبنزول عن الثاني سماعا . وأصرح منه قوله في ترجمة عبد الرحمن بن مهدي من الحلية أيضا : أنا عبد الله بن جعفر فيما قرئ عليه وأذن لي فيه ، ولكن قد حكى ابن طاهر في أطراف الأفراد هذا المذهب أيضا عن شيخه الدارقطني ، وهو اصطلاح لهما غريب ، وكأن النكتة في التصريح عن شيخه بذلك اعتماده المروي ، [ ص: 313 ] ( والصحيح ) المختار ( عند ) جمهور ( القوم ) ، وهو مذهب علماء الشرق ، واختار أهل التحري والورع المنع من إطلاق كل من ثنا وأنا ونحوهما في المناولة والإجازة ؛ خوفا من حمل المطلق على الكامل ، و ( تقييده ) أي : المذكور منها ( بما يبين ) أي : يوضح ( الواقعا ) في كيفية التحمل من السماع ، أو الإجازة ، أو المناولة ، بلفظ لا إشكال فيه ، بحيث يتميز كل واحد منها عن الآخر ، كأن يقول : أنا أو ثنا فلان ( إجازة ) ، أو أنا أو ثنا ( تناولا ) ، أو ( هما معا ) أي : إجازة مناولة ، أو فيما ( أذن لي ) ، أو فيما ( أطلق لي ) روايته عنه ، أو فيما ( أجازني ) ، أو فيما ( سوغ لي ) ، أو فيما ( أباح لي ) ، أو فيما ( ناولني ) .

قال الخطيب : وقد كان غير واحد من السلف يقول في المناولة : أعطاني فلان أو دفع إلي كتابه ، وشبيها بهذا القول ، وهو الذي نستحسنه ، هذا مع أنه اختلف في ذلك أيضا ، فحكى ابن الحاجب في مختصره قولا أنه لا يجوز مع التقييد أيضا ، وإليه ميل ابن دقيق العيد ؛ فإنه قال : والذي أراه أن لا يستعمل فيها ؛ أي : في الإجازة ، أنا لا بالإطلاق ولا بالتقييد ; لبعد دلالة لفظ الإجازة عن الإخبار ؛ إذ معناها في الوضع الإذن في الرواية - انتهى ، وليس ما قاله متفقا عليه كما قاله في أول ثالث أقسام التحمل .

وممن كان يسلك التقييد الحسن بن محمد بن الحسن الخلال ; فإنه يقول في كتابه ( اشتقاق الأسماء ) : أنا فلان إجازة ، وكذا أجاز لنا محمد بن أحمد الواعظ أن عبد الله بن محمد البغوي أخبرهم .

[ ص: 314 ] وقال أبو بكر الحازمي : مما يحسن الاستشهاد به للتقييد هنا أيضا ، إن ألجأت ضرورة من يريد تخريج حديث في باب ولم يجد مسلكا سواه ، أعني الرواية بالإجازة العامة ، استخار الله تعالى وحرر ألفاظه نحو أن يقول : أخبرني فلان إجازة عامة ، أو فيما أجاز من أدرك حياته ، أو يحكي لفظ المجيز في الرواية ، فيتخلص عن غوائل التدليس والتشبع بما لم يعط ، ويكون حينئذ مقتديا ، ولا يعد مفتريا - انتهى .

وإذا كان الإطلاق في العامة مع الاضطرار للرواية بها يعد فاعله مفتريا ، فما بالك بمن الوقت في غنية عن تحديثه لو سمع لفظا ، فضلا عن كونه مقلا من المسموع والشيوخ ، ويروي بالإجازة العامة من غير بيان ولا إفصاح ( وإن أباح الشيخ ) المجيز ( للمجاز ) له ( إطلاقه ) ثنا أو أنا في المناولة أو الإجازة الخاصة فضلا عن العامة كما فعله قوم من المشايخ في إجازاتهم ؛ حيث قالوا لمن أجازوا له : إن شاء قال : ثنا ، وإن شاء قال : أنا . ووجد ذلك كما حكي عن شيخنا ، وجزم به ابن الجزري في إجازات المغاربة ( لم يكف ) ذلك ( في الجواز ) ، وإن علل ابن الصلاح كما تقدم في أثناء التفريعات التالية لثاني أقسام التحمل المنع من إبدال ثنا بأخبرنا وعكسه ، باحتمال أن يكون مذهب الراوي عدم التسوية بين الصيغتين ؛ لتعقب المصنف له هناك من نكته ، بأنه ليس بجيد من حيث إن الحكم لا يختلف في الجائز والممتنع بكون الشيخ يرى الجائز ممتنعا ، والممتنع جائزا .

فرع : لو قرأ على شيخ شيئا بالإجازة إن لم يكن سماعا من شيخه ، ثم تبين أنه [ ص: 315 ] سمعه ، فالأحسن حكاية الواقع بأن يقول : إجازة إن لم يكن سماعا ، ثم ظهر سماعه ، كما وقع لأبي زرعة المقدسي في سنن ابن ماجه ، وللصلاح بن أبي عمر في بعض المسانيد من مسند أحمد ؛ حيث أخبر فيها كذلك ، لعدم الوقوف على الأصل فيها ، ثم ظهر سماعه لها ، بل قال بعض الحفاظ : إنه لا بد من التصريح بذلك ، ولكن اتفق رأي المحققين على عدم اشتراطه ، وأن إطلاق السماع كاف ، وهذا ما صححه ابن تيمية والمزي وغيرهما ممن عاصرهما ; كابن المحب شيخ شيوخنا ، ونحوه إخبار الزين ابن الشيخة بالإجازة العامة من الحجار ، ثم بان أن له منه إجازة خاصة . ( وبعضهم ) أي : وبعض المحدثين ، لم يقتصر على ما مضى كالحاكم ؛ حيث ( أتى بلفظ موهم ) تجوزا فيما أجازه فيه شيخه بلفظه شفاها ، وهو أنا فلان مشافهة ، أو ( شافهني ) فلان ، وفيما أجازه به شيخه بكتابه أنا فلان كتابة ، أو مكاتبة ، أو في كتابه ، أو ( كتب لي ) ، أو إلي ، وحكى الشق الثاني عن أبي نعيم ، فقال ابن النجار : إنه كان يقول في الإجازة : حدثني فلان في كتابه .

[ ص: 316 ] وقال غيره : إنه كثيرا ما يقول : أنا أبو الميمون بن راشد في كتابه ، وكتب إلي جعفر الخلدي ، وكتب إلي أبو العباس الأصم .

وهذه الألفاظ ، وإن كثر استعمالها لذلك بين المتأخرين من بعد الخمسمائة وهلم جرا ( فما سلم ) من استعملها مطلقا من الإيهام وطرف من التدليس ، أما المشافهة فتوهم مشافهته بالتحديث ، وأما الكتابة فتوهم أنه كتب إليه بذلك الحديث بعينه ، كما يفعله المتقدمون ، على ما سيأتي في القسم الذي يليه .

ولذا نص الحافظ أبو المظفر الهمداني في جزء له في الإجازة على المنع من هذا معللا بالإيهام المذكور ( وقد أتى بخبر ) بالتشديد أبو عمرو ( الأوزاعي فيها ) أي : في الإجازة خاصة ، وجعل " أنا " بالهمزة للقراءة ( ولم يخل ) أيضا ( من النزاع ) من جهة أن معنى خبر وأخبر في اللغة وكذا الاصطلاح واحد ، بل قيل : إن خبر أبلغ . وكان للأوزاعي أيضا في الرواية بالمناولة اصطلاح ، قال عمرو بن أبي سلمة : قلت له في المناولة : أقول فيها : ثنا ؟ فقال : إن كنت حدثتك فقل : ثنا ، فقلت : فما أقول ؟ قال : قل : قال أبو عمرو ، أو عن أبي عمرو .

[ ص: 317 ] ( ولفظ " أن " ) بالفتح والتشديد ( اختاره ) ، أو حكاه الإمام أبو سليمان حمد ( الخطابي ) نسبة لجده خطاب ، فكان يقول فيما حكي عنه في الرواية بالسماع عن الإجازة : أنا فلان أن فلانا حدثه أو أخبره ، قال صاحب الوجازة : وكأنه جعل دخول " أن " دليلا على الإجازة في مفهوم اللغة ، وقد تأملته فلم أجد له وجها صحيحا ؛ لأن " أن " المفتوحة أصلها التأكيد ، ومعنى أنا فلان أن فلانا حدثه ، أي : بأن فلانا حدثه ، فدخول الباء أيضا للتأكيد ، وإنما فتحت لأنها صارت اسما ، فإن صح هذا المذهب عنه كانت الإجازة أقوى عنده من السماع ؛ لأنه خبر قارنه التأكيد ، وهذا لا يقوله أحد - انتهى .

وليس بجيد ، فقد سبق حكاية تفضيل الإجازة عن بعضهم ، بل لم ينفرد الخطابي بهذا الصنيع ؛ فقد حكاه القاضي عياض عن اختيار أبي حاتم الرازي ، قال : وأنكره بعضهم ، وحقه أن ينكر ، فلا معنى له يتفهم منه المراد ، ولا اعتيد هذا الوضع لغة ولا عرفا ولا اصطلاحا ؛ ولذا قال ابن الصلاح : إنه اصطلاح بعيد ، بعيد عن مقاصد أهل الأفكار القومية من أهل الاصطلاح ؛ لبعده عن الإشعار بالإجازة ، إلا أنه قال : ( وهو مع ) سماع ( الإسناد ) خاصة لشيخه من شيخه ، وكون الإجازة له فيما وراء الإسناد ، أي : من حديث ونحوه ( ذو اقتراب ) ؛ فإن في هذه الصيغة إشعارا بوجود أصل الإخبار ، وإن أجمل الخبر ولم يذكره تفصيلا ، ونحوه قول ابن دقيق العيد في الاقتراح : إذا أخرج الشيخ الكتاب وقال : أنا فلان ، [ وساق السند ، فهل يجوز لسامع ذلك منه أن يقول : أنا فلان ] ، ويذكر الأحاديث كلا أو بعضا ؟ الذي أراه أنه [ ص: 318 ] يجوز من جهة الصدق ؛ فإنه تصريح بالإخبار بالكتاب ، وغاية ما فيه أنه إخبار جملي ، ولا فرق في معنى الصدق بين الإجمال والتفصيل . نعم ، فيه نظر من حيث إن العادة جارية بأن لا يطلق الإخبار إلا فيمن قرئ ، ويسمى مثل هذا مناولة ، وليس هذا عندي بالمتعين من جهة الصدق ، فإن أوقع تهمة فقد يمنع من هذا الوجه - انتهى .

ومع القرب الذي قاله ابن الصلاح فهو يلتبس باصطلاح ابن المديني في أنه إذا زاد في نسب شيخ شيخه على ما سمعه من شيخ يأتي بلفظ : " أن " ( وبعضهم يختار في الإجازه ) لفظ ( أنبأناك ) الوليد بن بكر بن مخلد بن أبي زياد الغمري بالمعجمة المفتوحة ، وقيل : المضمومة ، والميم الساكنة ، نسبة إلى الغمر ، بطن من غافق ، الأندلسي المالكي الأديب الشاعر ( صاحب الوجازه ) وشيخ الحاكم ، بل حكى عياض عن شعبة أنه قال مرة فيها : قال . وروي عنه أيضا : " أنا " ، واستبعد ذلك المصنف عنه ؛ فإنه لم يكن ممن يرى الإجازة ، كما سبق في محله . نعم ، اصطلح قوم من المتأخرين على إطلاقها فيها ( واختاره ) أي : لفظ أنبأنا ( الحاكم ) أبو عبد الله ( فيما شافهه ) شيخه ( بالإذن ) في روايته ( بعد عرضه ) له عرض المناولة ( مشافهه ) ، قال : وعليه عهدت أكثر مشايخي وأئمة عصري ( واستحسنوا ) كما أشعره صنيع ابن الصلاح ومن بعده ( للبيهقي ) الحافظ ( مصطلحا ) ، وهو ( أنبأنا إجازة فصرحا ) بالإجازة ، ولم يطلق الإنباء ؛ لكونه عند القوم فيما تقدم بمنزلة الإخبار ، وراعى في التعبير به عن الإجازة اصطلاح المتأخرين ، لا سيما ولم يكن الاصطلاح بذلك انتشر ، بل قال ابن دقيق العيد : إن إطلاقها في الإجازة بعيد من الوضع اللغوي ، إلا أن يوضع [ ص: 319 ] اصطلاحا .

( وبعض من تأخر ) من المحدثين ( استعمل ) كثيرا اللفظ ( عن ) فيما سمعه من شيخه الراوي عمن فوقه ( إجازة ) ، فيقول : قرأت على فلان عن فلان ( وهي ) أي : عن ( قريبة لمن ) أي : لشيخ ( سماعه من شيخه فيه يشك ) مع تحقق إجازته منه ( وحرف عن بينهما ) أي : السماع والإجازة ( فمشترك ) ، وأدخلت الفاء على الخبر على حد قوله : ويحدث ناس والصغير فيكبر . وهو رأي الأخفش خاصة ، لا الكسائي ، وهذا الفرع - وإن سبق في العنعنة ، وإنه لا يخرج بذلك عن الحكم له بالاتصال - فإعادته هنا لما فيه من الزيادة ، وليكون منضما لما يشبهه من الاصطلاح الخاص ( وفي ) صحيح ( البخاري قال لي ) فلان ( فجعله حيريهم ) أي : المحدثين ، وهو بالمهملة أبو جعفر أحمد بن حمدان بن علي النيسابوري الحيري ، أحد الحفاظ الزهاد المجابي الدعوة ، فيما رواه الحاكم عن ولده أبي عمرو عنه ( للعرض ) أي : لما أخذه البخاري على وجه العرض ( والمناوله ) ، وانفرد أبو جعفر بذلك ، وخالفه غيره فيه ، بل الذي استقرأه شيخنا - كما أسلفته في آخر أول أقسام التحمل - أنه إنما يستعمل هذه الصيغة في أحد أمرين : أن يكون موقوفا ظاهرا وإن كان له حكم الرفع ، أو يكون في إسناده من ليس على شرطه ، وإلا فقد أورد أشياء بهذه الصيغة هي مروية عنده في موضع آخر بصيغة التحديث .

التالي السابق


الخدمات العلمية