الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
476 [ ص: 263 ] حديث رابع لزيد بن أسلم

مسند يجري مجرى المتصل

مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسير في بعض أسفاره ، وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا ، فسأله عمر عن شيء فلم يجبه ، ثم سأله فلم يجبه ( ثم سأله فلم يجبه ) فقال عمر : ثكلتك أمك يا عمر ، نزرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات ، كل ذلك لا يجيبك ، قال عمر : فحركت بعيري حتى إذا كنت أمام الناس ، وخشيت أن ينزل في قرآن ، فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي قال : فقلت : لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن قال : فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلمت عليه فقال : أنزل علي هذه الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ، ثم قرأ إنا فتحنا لك فتحا مبينا .

التالي السابق


هذا الحديث عندنا على الاتصال ; لأن أسلم رواه عن عمر ، [ ص: 264 ] وسماع أسلم من مولاه عمر رضي الله عنه صحيح لا ريب فيه ، وقد رواه محمد بن حرب ، عن مالك كما ذكرنا اهـ .

أخبرنا خلف بن القاسم ، وعلي بن إبراهيم قالا : ( حدثنا الحسن بن رشيق قال : حدثنا محمد بن زريق بن جامع ، وحدثنا عبد الرحمن بن مروان قال : ) حدثنا الحسن بن علي بن داود قال : حدثنا محمد بن زيان قالا : حدثنا عبدة بن عبد الرحيم المروزي قال : أخبرنا محمد بن حرب ، عن مالك بن أنس ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسير في بعض أسفاره ، وعمر يسير معه ليلا ، فسأله عمر عن شيء فلم يجبه ، ثم سأله فلم يجبه ( ثم سأله فلم يجبه ) ثلاثا فقال عمر : ثكلتك أمك ، عمر ، نزرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات ، كل ذلك لا يجيبك ، قال عمر : فحركت بعيري حتى تقدمت أمام الناس ، وخشيت أن ينزل في قرآن ، فما نشبت أن سمعت [ ص: 265 ] صارخا يصرخ بي ، قال : فقلت له : لقد خشيت أن يكون ينزل في قرآن ، فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلمت عليه فقال لي : لقد أنزل الله علي الليلة سورة ، لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ، ثم قرأ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله .

وهكذا رواه مسندا روح بن عبادة ، ومحمد بن خالد بن عثمة ( جميعا أيضا عن مالك كرواية محمد بن حرب سواء ، ذكره النسائي ، عن محمد بن عبد الله بن المبارك ) .

في هذا الحديث السفر بالليل ، والمشي على الدواب بالليل ، وذلك عند الحاجة ، مع استعمال الرفق ; لأنها بهائم عجم ، وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرفق بها ، والإحسان إليها .

وفيه أن العالم إذا سئل عن شيء لا يجب الجواب فيه أن يسكت ، ولا يجيب بنعم ، ولا بلا ، ورب كلام جوابه السكوت .

وفيه من الأدب أن سكوت العالم عن الجواب يوجب على المتعلم ترك الإلحاح عليه .

وفيه الندم على الإلحاح على العالم خوف غضبه ، وحرمان فائدته فيما يستأنف ، وقلما أغضب عالم إلا احترمت فائدته .

قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : لو رفقت بابن عباس لاستخرجت منه علما اهـ .

وفيه ما كان عمر عليه من التقوى والوجل ; لأنه خشي أن يكون عاصيا بسؤاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات ، [ ص: 266 ] كل ذلك لا يجيبه ; إذ المعهود أن سكوت المرء عن الجواب ، وهو قادر عليه عالم به ، دليل على كراهية السؤال .

وفيه ما يدل على أن السكوت عن السائل يعز عليه ، وهذا موجود في طباع الناس ، ولهذا أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمر يؤنسه ، ويبشره - والله أعلم - .

وفيه أوضح الدليل على منزلة عمر من قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وموضعه منه ، ومكانته عنده .

وفيه أن غفران الذنوب خير للإنسان مما طلعت عليه الشمس لو أعطي ذلك ، وذلك تحقير منه - صلى الله عليه وسلم - للدنيا ، وتعظيم للآخرة ، وهكذا ينبغي للعالم أن يحقر ما حقر الله من الدنيا ، ويزهد فيها ، ويعظم ما عظم الله من الآخرة ، ويرغب فيها .

وإذا كان غفران الذنوب للإنسان خيرا مما طلعت عليه الشمس ، ومعلوم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكفر عنه إلا الصغائر من الذنوب ; لأنه لم يأت قط كبيرة ، لا هو ولا أحد من أنبياء الله ; لأنهم معصومون من الكبائر صلوات الله عليهم ، فعلى هذا ، الصلوات الخمس خير للإنسان من الدنيا وما فيها ; لأنها تكفر الصغائر ، وبالله التوفيق .

وفيه أن نزول القرآن كان حيث شاء الله من حضر ، وسفر ، وليل ، ونهار .

والسفر المذكور في هذا الحديث الذي نزلت فيه سورة الفتح منصرفه من الحديبية ، لا أعلم بين أهل العلم في ذلك خلافا .

[ ص: 267 ] قال أبو عمر :

قال معمر ، عن قتادة نزلت عليه إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر مرجعه من الحديبية فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : قد نزلت علي آية أحب إلي ( مما على الأرض ) ، ثم قرأ عليهم فقالوا : هنيئا مريئا يا رسول الله ، قد بين الله لك ما يفعل بك ، فماذا يفعل بنا ؟ فنزلت ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار إلى قوله فوزا عظيما .

وقال ابن جريج نحو ذلك ، وزاد فنزل ما في الأحزاب وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ، وأنزل ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار الآيتين إلى قوله غفورا رحيما .

وقال غير ابن جريج : فقال المنافقون : وماذا يفعل بنا ؟ فنزلت بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ، ونزلت ويعذب المنافقين والمنافقات إلى قوله وكان الله غفورا رحيما فقال عبد الله بن أبي ، وأصحابه : يزعم محمد أنه غفر له ذنبه ، وأن يفتح الله عليه ، وينصره نصرا عزيزا ، هيهات هيهات ، الذي بقي له أكثر فارس والروم ، أيظن محمد أنهم مثل من نزل بين ظهريه ؟ فنزلت ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء بأنه لا ينصر ، فبئس ما ظنوا ، ونزلت ولله جنود السماوات والأرض الآية .

[ ص: 268 ] قال أبو عمر : اختلف أهل العلم في قوله : فتحا مبينا .

فقال قوم : خيبر .

وقال قوم : الحديبية منحره ، وحلقه .

وقال ابن جريج : فتحنا لك : حكمنا لك حكما ( بينا ، حين ارتحل ) من الحديبية راجعا قال : وقد كان شق عليهم أن صدوا عن البيت .

وقال : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر وقال : أوله ، وآخره .

وينصرك الله نصرا عزيزا ، قال : يريد بذلك فتح مكة ، والطائف ، وحنين العرب ، ولم يكن بقي في العرب غيرهم .

وقال قتادة ، ومجاهد : فتحنا لك : قضينا لك قضاء مبينا منحره وحلقه بالحديبية ، ذكره معمر ، عن قتادة ، وذكره ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد .

وروى شعبة ، عن قتادة ، عن أنس : فتحا مبينا قال : الحديبية .

( وذكر وكيع ، عن أبي جعفر الرازي ، عن قتادة ، عن أنس قال : خيبر ، وكذلك اختلف في ذلك قول مجاهد أيضا ) .

[ ص: 269 ] وأما قوله في الحديث : نزرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ابن وهب : معناه : أكرهت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمسألة ، أي : أتيته بما يكره .

وقال ابن حبيب : معناه : ألححت ، وكررت السؤال ، وأبرمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وذكر حبيب ، عن مالك قال : نزرت راجعته .

وقال الأخفش : نزرت ، وأنزرت البئر ( أكثرت الاستقاء منها حتى يقل ماؤها ، قاله أبو عمر ) ، ( ودفع نزور أي يأتي منها الشيء منقطعا قال : ومعنى هذا الحديث أنه سأله حتى قطع عنه كلامه لأنه تبرم به )




الخدمات العلمية