الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          المسألة الرابعة : أولو الأمر هم أهل الإجماع :

                          بينا أن أصول الشريعة الإسلامية هي الأربعة المبينة في هذه الآية ، وطبق ذلك بعض المفسرين الأصوليين على الأصول الأربعة التي عليها مدار علم أصول الفقه ـ وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس ـ وجعلوا الآية حجة على مشروعية الإجماع ، وهي لعمري أقوى دلالة عليه من آية : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ( 4 : 115 ) ، الآية ، بل لا تدل هذه على الإجماع الأصولي كما سيأتي في تفسيرها من هذه السورة ، وجعلوا معنى رد المتنازع فيه إلى الله ورسوله هو القياس الأصولي ، واشترطوا أن يكون أهل الإجماع هم المجتهدين ، وكذلك أهل القياس ، وعلى هذا يشترط في أعضاء مجلس النواب الذين يسمون في عرف [ ص: 164 ] العثمانيين بالمبعوثين وفي أعضاء المحاكم والمجالس أن يكونوا من المجتهدين ، ولا يكون لهم صفة تشريعية بغير ذلك ، وهذا هو الذي يفهم من علم الأصول ، وقد علمت رأينا فيه وسنزيدك إيضاحا .

                          قال الرازي في تفسيره الكبير في المسألة الثانية من مسائل الآية : اعلم أن هذه الآية آية شريفة مشتملة على أكثر علم أصول الفقه ، وذلك لأن الفقهاء زعموا أن أصول الشريعة أربعة : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والقياس ، وهذه الآية مشتملة على تقرير الأصول الأربعة ، أما الكتاب والسنة فقد وقعت الإشارة إليهما بقوله تعالى : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، فإن قيل : أليس أن طاعة الرسول هي طاعة الله فما معنى هذا العطف ؟ قلنا : قال القاضي : الفائدة في ذلك بيان الدلالتين ، فالكتاب يدل على أمر الله ، ثم نعلم منه أمر الرسول لا محالة ، والسنة تدل على أمر الرسول ، ثم نعلم منه أمر الله لا محالة .

                          ثم قال في المسألة الثالثة : اعلم أن قوله : وأولي الأمر منكم يدل عندنا على أن إجماع الأمة حجة ، انتهى ، وقد تقدم تفصيل كلامه في إثبات ذلك ورد قول من قال : إن المراد بأولي الأمر الأئمة المعصومون ، ومن قال : إنهم الأمراء والسلاطين ، وجزمه بأن المراد من يمثل الأمة وهم أهل الحل والعقد .

                          ثم قال في المسألة الرابعة : اعلم أن قوله : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول يدل على أن القياس حجة ، والذي يدل على ذلك أن قوله : فإن تنازعتم في شيء إما أن يكون المراد ، فإن اختلفتم في شيء حكمه منصوص عليه في الكتاب أو السنة أو الإجماع ، أو المراد فإن اختلفتم في شيء حكمه غير منصوص عليه في شيء من هذه الثلاثة ، والأول باطل ؛ لأن على ذلك التقدير وجب عليه طاعته فكان ذلك داخلا تحت قوله : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم وحينئذ يصير قوله : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إعادة لعين ما مضى وإنه غير جائز ، وإذا بطل هذا القسم تعين الثاني ، وهو أن المراد فإن تنازعتم في شيء حكمه غير مذكور في الكتاب والسنة والإجماع ، وإذا كان كذلك لم يكن المراد من قوله : فردوه إلى الله والرسول طلب حكمه من نصوص الكتاب والسنة ، فوجب أن يكون المراد رد حكمه إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة له وذلك هو القياس ، فثبت أن الآية دالة على الأمر بالقياس .

                          ثم أورد الرازي على الأخير أنه يجوز أن يكون المراد برد المتنازع فيه إلى الله ورسوله تفويض أمره إليهما وعدم الحكم فيه بشيء ، أو إلى البراءة الأصلية ، وأجاب عنهما بإسهابه المعتاد ، وإنني أذكر عبارة النيسابوري في الإجماع والقياس ورد هذين الإيرادين ـ وإن تقدم بعضها ـ لأنه اختصر فيها ما طال به الرازي ، قال بعد ما قيل في مسألة أولي الأمر غير ما ادعاه : " وإذا ثبت أن حمل الآية على هذه الوجوه غير مناسب تعين أن يكون المعصوم [ ص: 165 ] كل الأمة ، أي : أهل الحل والعقد وأصحاب الاعتبار والآراء ، فالمراد ما اجتمعت عليه الأمة وهو المدعى .

                          قال : وأما القياس ، فذلك قوله : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ، إذ ليس المراد من رده إلى الله والرسول رده إلى الكتاب والسنة والإجماع وإلا كان تكرارا لما تقدم ، ولا تفويض علمه إلى الله ورسوله والسكوت عنه ; لأن الواقعة ربما كانت لا تحتمل الإهمال وتفتقر إلى قطع مادة الشغب والخصومة فيها بنفي أو إثبات ، ولا الإحالة على البراءة الأصلية فإنها معلومة بحكم العقل ، فالرد إليها لا يكون ردا إلى الله والرسول ، فإذا ردها إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة لها فهذا هو معنى القياس .

                          " فحاصل الآية الخطاب لجميع المكلفين بطاعة الله ، ثم لمن عدا الرسول بطاعته ، ثم لما سوى أهل الحل والعقد بطاعتهم ، ثم أمر أهل استنباط الأحكام من مداركها ـ إن وقع اختلاف واشتباه في الناس في حكم واقعة ما ـ أن يستخرجوا لها وجوها من نظائرها وأشباهها ، فما أحسن هذا الترتيب " ، انتهى كلام النيسابوري ، والأظهر المختار أن رد ما لا نص فيه إلى الله والرسول يتحقق بعرضه على ما فيهما من القواعد العامة كاليسر ، ورفع الحرج من الأمة ، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، وكمنع الضرر والضرار ، وكون المحظور لذاته يباح للضرورة ، والمحظور لسد الذريعة يباح للحاجة ، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا ، ويلي هذا عرض الجزئيات في المعاملات على أشباهها ، وتقدم أيضا أن المراد بالرد هنا : رد ما يتنازع فيه أولو الأمر ، وأما ما يتنازع فيه غيرهم في الأمور العامة فيرد إليهم عملا بآية الاستنباط [ 4 : 83 ] .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية