الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( بسط ما يصورون به الوحي النفسي لمحمد - صلى الله عليه وسلم - )

                          هأنذا قد بسطت جميع المقدمات التي استنبطوها من تاريخ محمد - صلى الله عليه وسلم - وحالته النفسية والعقلية ، وحالة قومه ووطنه ، وما تصوروا أنه استفاده من أسفاره ، وما كان من تأثير خلواته وتحنثه وتفكره فيها ، وقفيت عليها بأصح ما رواه المحدثون في الصحاح من صفة الوحي وكيف كان بدؤه وفترته ، ثم كيف أمر - صلى الله عليه وسلم - بتبليغه ودعوة الناس إلى الحق وكيف حمي وتتابع .

                          وأبين الآن كيف يستنبطون من ذلك أن هذا الوحي قد نبع من نفس محمد وأفكاره بتأثير ذلك كله في وجدانه وعقله ، بما لم أر ولم أسمع مثله في تقريبه إلى العقل ، ثم أقفي عليه بما ينقضه من أساسه بأدلة العقل والتاريخ والصحيح من وصف حالته - صلى الله عليه وسلم - فأقول :

                          يقولون : إن عقل محمد الهيولاني قد أدرك بنوره الذاتي بطلان ما كان عليه قومه من عبادة الأصنام كما أدرك ذلك أفراد آخرون من قومه - آمنا وصدقنا - وإن فطرته الزكية قد احتقرت ما كانوا يتنافسون فيه من جمع الأموال بالربا والقمار - آمنا وصدقنا - وإن فقره وفقر عمه ( أبي طالب ) الذي كفله صغيرا قد حال دون انغماسه فيما كانوا يسرفون فيه من الاستمتاع بالشهوات ، من السكر والتسري وعزف القيان - الصحيح أنه ترك ذلك احتقارا له لا عجزا عنه - وأنه طال تفكره في إنقاذهم من ذلك الشرك القبيح وتطهيرهم من تلك الفواحش والمنكرات - لا مانع من ذلك - ، وإنه استفاد من أسفاره وممن لقيه فيها وفي مكة نفسها من النصارى كثيرا من المعلومات عن النبيين والمرسلين الذين بعثهم الله في بني إسرائيل وغيرهم فأخرجوهم من الظلمات إلى النور - هذا ولم يصح عندنا ولا يضرنا - ، وإن تلك المعلومات لم تكن كلها مقبولة في عقله لما عرض للنصرانية من الوثنية بألوهية المسيح وأمه وغير ذلك وبما حدث فيها من البدع - هذا مبني على ما قبله فهو معقول غير منقول - وإنه كان قد سمع أن الله سيبعث نبيا مثل أولئك الأنبياء من العرب في الحجاز قد بشر به [ ص: 153 ] عيسى المسيح وغيره من الأنبياء - وإن هذا علق بنفسه فتعلق رجاؤه بأن يكون هو ذلك النبي الذي آن أوانه - وهذا استنباط لهم مما قبله وسيأتي ما فيه - ونتيجة ما تقدم أنه توسل إلى ذلك بالانقطاع إلى عبادة الله تعالى والتوجه إليه في خلوته بغار حراء فقوي هنالك إيمانه ، وسما وجدانه ، فاتسع محيط تفكره ، وتضاعف نور بصيرته ، فاهتدى عقله الكبير إلى الآيات البينات في ملكوت السماوات والأرض على وحدانية مبدع الوجود ، وسر النظام الساري في كل موجود ، بما صار به أهلا لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور ، وما زال يفكر ويتأمل ، وينفعل ويتململ ، ويتقلب بين الآلام والآمال ، حتى أيقن أنه هو النبي المنتظر ، الذي يبعثه الله لهداية البشر ، فتجلى له هذا الاعتقاد في الرؤى المنامية ، ثم قوي حتى صار يتمثل له الملك يلقنه في اليقظة .

                          وأما المعلومات التي جاءته في هذا الوحي فهي مستمدة الأصل من تلك المعلومات التي ذكرناها ، ومما هداه إليه عقله وتفكره في التمييز بين ما يصح منها وما لا يصح ، ولكنها كانت تتجلى له نازلة من السماء ، وأنها خطاب الخالق عز وجل بواسطة الناموس الأكبر ملك الوحي جبريل الذي كان ينزل على موسى بن عمران وعيسى ابن مريم وغيرهما من النبيين عليهم السلام .

                          وقال أحد ملاحدة المصريين : إن سولون الحكيم اليوناني وضع قانونا وشريعة لقومه فليس بدعا في العقل أن يضع محمد شريعة أيضا ، وسأبين فساد هذا الرأي .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية