الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ) ( شيء ) نكرة في سياق النفي ، فتعم ، وهي دالة على كمال العلم بالكليات والجزئيات ، وعبر عن جميع العالم بالأرض والسماء ؛ إذ هما أعظم ما نشاهده ، والتصوير على ما شاء من الهيئات دال على كمال القدرة ، وبالعلم والقدرة يتم معنى القيومية ؛ إذ هو القائم بمصالح الخلق ومهماتهم ، وفي ذلك رد على النصارى ، إذ شبهتهم في ادعاء إلهية عيسى كونه يخبر بالغيوب ، وهذا راجع إلى العلم ، وكونه : يحيي الموتى ، وهو راجع إلى القدرة ، فنبهت الآية [ ص: 380 ] على أن الإله هو العالم بجميع الأشياء ، فلا يخفى عليه شيء ، ولا يلزم من كون عيسى عالما ببعض المغيبات أن يكون إلها ، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى لم يكن عالما بجميع المعلومات ، ونبهت على أن الإله هو ذو القدرة التامة ، فلا يمتنع عليه شيء ، ولا يلزم من كون عيسى قادرا على الإحياء في بعض الصور أن يكون إلها ، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى لم يكن قادرا على تركيب الصور وإحيائها ، بل إنباؤه ببعض المغيبات ، وخلقه وإحياؤه بعض الصور ، إنما كان ذلك بإنباء الله له على سبيل الوحي ، وإقداره تعالى له على ذلك ، وكلها على سبيل المعجزة التي أجراها وأمثالها على أيدي رسله ، وفي ذكر التصوير في الرحم رد على من زعم أن عيسى إله ؛ إذ من المعلوم بالضرورة أنه صور في الرحم .

وقيل : في قوله : ( لا يخفى عليه شيء ) تحذير من مخالفته سرا وجهرا ، ووعيد بالمجازاة ، وقيل : المعنى شيء مما يقولونه في أمر عيسى ، عليه السلام ، وقال الزمخشري : مطلع على كفر من كفر ، وإيمان من آمن ، وهو مجازيهم عليه ، وقال الماتريدي : لا يخفى عليه شيء من الأمور الخفية عن الخلق ، فكيف تخفى عليه أعمالكم التي هي ظاهرة عندكم ؟ وكل هذه تخصيصات ، واللفظ عام ، فيندرج فيه هذا كله ، وقال الراغب : لا يخفى عليه شيء أبلغ من ( يعلم ) في الأصل ، وإن كان استعمال اللفظين فيه يفيدان معنى واحدا .

وقال محمد بن جعفر بن الزبير ، والربيع ، في قوله : ( هو الذي يصوركم ) رد على أهل الطبيعة ، إذ يجعلونها فاعلة مستبدة ( كيف يشاء ) قال الماتريدي : فيه إبطال قول من يجعل قول القائف حجة في دعوى النسب ؛ لأنه جعل علم التصوير في الأرحام لنفسه ، فكيف يعرف القائف أنه صوره من مائه عند قيام التشابه في الصور ؟ انتهى ، والأحسن أن تكون هذه الجمل مستقلة ، فتكون الأولى إخبارا عنه تعالى بالعلم التام ، والثانية إخبارا بالقدرة التامة وبالإرادة ، والثالثة بالانفراد بالإلهية ، ويحتمل أن يكون خبرا عن : إن .

وقال الراغب ، هنا ( يصوركم ) بلفظ الحال ، وفي موضع آخر ( فصوركم ) لأنه لا اعتبار بالأزمنة في أفعاله ، وإنما استعملت الألفاظ فيه للدلالة على الأزمنة بحسب اللغات ، وأيضا ( فصوركم ) إنما هو على نسبة التقدير ، وإن فعله تعالى في حكم ما قد فرع منه ( ويصوركم ) على حسب ما يظهر لنا حالا فحالا ، انتهى .

وقرأ طاوس ( تصوركم ) أي : صوركم لنفسه ولتعبده ، كقولك : أثلت مالا ، أي : جعلته أثلة ، أي : أصلا ، وتأثلته إذا أثلته لنفسك وتأتي : تفعل بمعنى : فعل ، نحو : تولى ، بمعنى : ولى .

ومعنى ( كيف يشاء ) أي : من الطول والقصر ، واللون ، والذكورة والأنوثة ، وغير ذلك من الاختلافات ، وفي قوله : ( كيف يشاء ) إشارة إلى أن ذلك يكون بسبب وبغير سبب ؛ لأن ذلك متعلق بمشيئته فقط .

و ( كيف ) هنا للجزاء ، لكنها لا تجزم ، ومفعول ( يشاء ) محذوف لفهم المعنى ، التقدير : كيف يشاء أن يصوركم ، كقوله : ( ينفق كيف يشاء ) أي : كيف يشاء أن ينفق ، و ( كيف ) منصوب : بـ ( يشاء ) والمعنى : على أي حال شاء أن يصوركم صوركم ، ونصبه على الحال ، وحذف فعل الجزاء لدلالة ما قبله عليه ، نحو قولهم : أنت ظالم إن فعلت ، التقدير : أنت ظالم ، إن فعلت فأنت ظالم ، ولا موضع لهذه الجملة من الإعراب ، وإن كانت متعلقة بما قبلها في المعنى ، فتعلقها كتعلق إن فعلت ، كقوله : أنت ظالم .

وتفكيك هذا الكلام وإعرابه على ما ذكرناه ، لا يهتدى له إلا بعد تمرن في الإعراب ، واستحضار للطائف النحو .

وقال بعضهم : ( كيف يشاء ) في موضع الحال ، معمول ( يصوركم ) ومعنى الحال أي : يصوركم في الأرحام قادرا على تصويركم مالكا ذلك ، وقيل : التقدير في هذه الحال : يصوركم على مشيئته ، أي : مريدا ، فيكون حالا من ضمير اسم الله ، ذكره أبو البقاء ، وجوز أن يكون حالا من المفعول ، أي : يصوركم منقلبين على مشيئته .

وقال الحوفي : يجوز أن تكون الجملة في موضع المصدر ، المعنى : يصوركم في الأرحام تصوير المشيئة ، وكما يشاء .

( لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) كرر هذه [ ص: 381 ] الجملة الدالة على نفي الإلهية عن غيره تعالى ، وانحصارها فيه ، توكيدا لما قبلها من قوله : ( لا إله إلا هو ) وردا على من ادعى إلهية عيسى ، وناسب مجيئها بعد الوصفين السابقين من العلم والقدرة ، إذ من هذان الوصفان له هو المتصف بالإلهية لا غيره ، ثم أتى بوصف العزة الدالة على عدم النظير ، والحكمة الموجبة لتصوير الأشياء على الإتقان التام .

( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ) مناسبة هذا لما قبله أنه : لما ذكر تعديل البنية وتصويرها على ما يشاء من الأشكال الحسنة ، وهذا أمر جسماني ، استطرد إلى العلم ، وهو أمر روحاني ، وكان قد جرى لوفد نجران أن من شبههم قوله : ( وروح منه ) فبين أن القرآن منه محكم العبارة قد صينت من الاحتمال ، ومنه متشابه ، وهو ما احتمل وجوها .

ونذكر أقاويل المفسرين في المحكم والمتشابه ، وقد جاء وصف القرآن بأن آياته محكمة ، بمعنى كونه كاملا ، ولفظه أفصح ، ومعناه أصح ، لا يساويه في هذين الوصفين كلام ، وجاء وصفه بالتشابه بقوله : ( كتابا متشابها ) معناه يشبه بعضه بعضا في الجنس والتصديق ، وأما هنا فالتشابه ما احتمل وعجز الذهن عن التمييز بينهما ، نحو : ( إن البقر تشابه علينا ) ( وأتوا به متشابها ) أي : مختلف الطعوم متفق المنظر ، ومنه : اشتبه الأمران ، إذا لم يفرق بينهما ، ويقال لأصحاب المخاريق : أصحاب الشبه ، وتقول : الكلمة الموضوعة لمعنى لا يحتمل غيره نص ، أو يحتمل راجحا أحد الاحتمالين على الآخر ، فبالنسبة إلى الراجح ظاهر ، وإلى المرجوح مؤول ، أو يحتمل من غير رجحان ، فمشترك بالنسبة إليهما ، ومجمل بالنسبة إلى كل واحد منهما ، والقدر المشترك بين النص والظاهر هو المحكم ، والمشترك بين المجمل والمؤول هو المتشابه ؛ لأن عدم الفهم حاصل في القسمين .

قال ابن عباس ، وابن مسعود ، وقتادة ، والربيع ، والضحاك : المحكم الناسخ ، والمتشابه المنسوخ ، وقال مجاهد ، وعكرمة : المحكم ما بين تعالى حلاله وحرامه فلم تشتبه معانيه ، والمتشابه : ما اشتبهت معانيه ، وقال جعفر بن محمد ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، والشافعي : المحكم ما لا يحتمل إلا وجها واحدا ، والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجها ، وقال ابن زيد : المحكم ما لم تتكرر ألفاظه ، والمتشابه : ما تكررت . وقال جابر بن عبد الله ، وابن ذئاب ، وهو مقتضى قول الشعبي والثوري وغيرهما : المحكم ما فهم العلماء تفسيره ، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه : كقيام الساعة ، وطلوع الشمس من مغربها ، وخروج عيسى .

وقال أبو عثمان : المحكم الفاتحة . وقال محمد بن الفضل : سورة الإخلاص ؛ لأنه ليس فيها إلا التوحيد فقط . وقال محمد بن إسحاق : المحكمات ما ليس لها تصريف ولا تحريف . وقال مقاتل : المحكمات خمسمائة آية ؛ لأنها تبسط معانيها ، فكانت أم فروع قيست عليها وتولدت منها ، كالأم يحدث منها الولد ، ولذلك سماها أم الكتاب ، والمتشابه : القصص والأمثال .

وقال يحيي بن يعمر : المحكم الفرائض ، والوعد والوعيد ; والمتشابه : القصص والأمثال ، وقيل : المحكم ما قام بنفسه ولم يحتج إلى استدلال ، والمتشابه ما كان معاني أحكامه غير معقولة ، كأعداد الصلوات ، واختصاص الصوم بشهر رمضان دون شعبان . وقيل : المحكم ما تقرر من القصص بلفظ واحد ، والمتشابه ما اختلف لفظه ، كقوله : ( فإذا هي حية تسعى ) ( فإذا هي ثعبان مبين ) و ( قلنا احمل ) و ( فاسلك ) .

وقال أبو فاختة : المحكمات فواتح السور المستخرج منها السور : كـ ( الم ) و ( المر ) وقيل : المتشابه فواتح السور ، بعكس الأول . وقيل : المحكمات : التي في سورة الأنعام إلى آخر الآيات الثلاث ، والمتشابهات ( الم ) و ( المر ) وما اشتبه على اليهود من هذه ونحوها ، حين سمعوا ( الم ) فقالوا : هذه بالجمل : أحد وسبعون ، فهو غاية أجل هذه الأمة ، فلما سمعوا ( الر ) وغيرها ، اشتبهت عليهم ، أو ما اشتبه من النصارى من قوله : ( وروح منه ) .

وقيل : المتشابهات ما لا سبيل إلى معرفته ، كصفة الوجه ، واليدين ، واليد ، والاستواء . وقيل : المحكم ما أمر الله به في كل كتاب أنزله ، نحو قوله : [ ص: 382 ] ( قل تعالوا أتل ) الآيات ، ( وقضى ربك ) الآيات ، وما سوى المحكم متشابه ، وقال أكثر الفقهاء : المحكمات التي أحكمت بالإبانة ، فإذا سمعها السامع لم يحتج إلى تأويلها ؛ لأنها ظاهرة بينة ، والمتشابهات : ما خالفت ذلك . وقال ابن أبي نجيح : المحكم ما فيه الحلال والحرام . وقال ابن خويز منداد : المتشابه ما له وجوه واختلف فيه العلماء ، كالآيتين في الحامل المتوفى عنها زوجها ، علي وابن عباس يقولان : تعتد أقصى الأجلين ، وعمر وزيد وابن مسعود يقولون : وضع الحمل ، وخلافهم في النسخ . وكالاختلاف في الوصية للوارث هل نسخت أم لا ، ونحو تعارض الآيتين أيهما أولى أن يقدم إذا لم يعرف النسخ ؟ نحو : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) يقتضي الجمع بين الأقارب بملك اليمين ( وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ) يمنع من ذلك ؟

ومعنى ( أم الكتاب ) معظم الكتاب ، إذ المحكم في آيات الله كثير قد فصل ، وقال يحيى بن يعمر : هذا كما يقال لمكة : أم القرى ، ولمرو : أم خراسان ، وأم الرأس : لمجتمع الشئون ؛ إذ هو أخطر مكان .

وقال ابن زيد : جماع الكتاب ، ولم يقل : أمهات ؛ لأنه جعل المحكمات في تقدير شيء واحد ، ومجموع المتشابهات في تقدير شيء وآخر ، وأحدهما أم للآخر ، ونظيره ( وجعلنا ابن مريم وأمه آية ) ولم يقل : اثنين ، ويحتمل أن يكون ( هن ) أي : كل واحدة منهن ، نحو : ( فاجلدوهم ثمانين جلدة ) أي : كل واحد منهم . قيل : ويحتمل أنه أفرد في موضع الجمع ، نحو : ( وعلى سمعهم ) وقال الزمخشري : ( أم الكتاب ) أي : أصل الكتاب ، تحمل المتشابهات عليها ، وترد إليها ، ومثال ذلك : ( لا تدركه الأبصار ) ، ( إلى ربها ناظرة ) ، ( لا يأمر بالفحشاء ) ، ( أمرنا مترفيها ) انتهى ، وهذا على مذهبه الاعتزالي في أن الله لا يرى ، فجعل المحكم لا تدركه الأبصار ، والمتشابه قوله : ( إلى ربها ناظرة ) ، وأهل السنة يعكسون هذا ، أو يفرقون بين الإدراك والرؤية ، وذكر من المحكم : ( وما كان ربك نسيا ) ، ( لا يضل ربي ولا ينسى ) ومتشابهه : ( نسوا الله فنسيهم ) ظاهر النسيان ضد العلم ، ومرجوحه الترك ، وأرباب المذاهب مختلفون في المحكم والمتشابه ، فما وافق المذهب فهو عندهم محكم ، وما خالف فهو متشابه ، فقوله : ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) عند المعتزلة محكم ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله ) متشابه ، وغيرهم بالعكس .

وصرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل ، فإن كان لفظيا فلا يتم إلا بحصول التعارض ، وليس الحمل على أحدهما أولى من العكس ، ولا قطع في الدليل اللفظي ، سواء كان نصا أو أرجح لتوقفه على أمور ظنية ، وذلك لا يجوز في المسائل الأصولية ، فإذن المصير إلى المرجوح لا يكون بواسطة الدلالة العقلية القاطعة ، وإذا علم صرفه عن ظاهره فلا يحتاج إلى تعيين المراد ؛ لأن ذلك يكون ترجيح مجاز على مجاز ، وتأويل على تأويل .

ومن الملاحدة من طعن في القرآن لاشتماله على المتشابه وقال : يقولون إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى يوم القيامة ، ثم إنا نراه يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه ، فالجبري يتمسك بآيات الجبر : ( وجعلنا على قلوبهم أكنة ) ، ( وفي آذانهم وقرا ) ، والقدري يقول : هذا مذهب الكفار في معرض الذم لهم في قوله : ( وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ) وفي موضع آخر : ( وقالوا قلوبنا غلف ) .

ومثبتو الرؤية تمسكوا بقوله : ( إلى ربها ناظرة ) والآخرون ، بقوله : ( لا تدركه الأبصار ) ، ومثبتو الجهة بقوله : ( يخافون ربهم من فوقهم ) وبقوله : ( على العرش استوى ) والآخرون بقوله : ( ليس كمثله شيء ) فكيف يليق بالمحكم أن يرجع إلى المرجوح إليه هكذا ؟ انتهى كلام الفخر الرازي ، وبعضه ملخص .

وقد ذكر العلماء لمجيء المتشابه فوائد ، وأحسن ذلك ما ذكره الزمخشري ، قال : فإن قلت : فهلا كان القرآن كله محكما ؟ قلت : لو كان كله محكما لتعلق الناس به لسهولة مأخذه ، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال ، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله [ ص: 383 ] وتوحيده إلا به ، ولما في المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه ، ولما في تقادح العلماء وإتقانهم القرائح في استخراج معانيه ، ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة ، والعلوم الجمة ، ونيل الدرجات عند الله ، ولأن المؤمن - المعتقد أن لا مناقضة في كلام الله ولا اختلاف - إذا رأى فيه ما يتناقض في ظاهره ، وأهمه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد ، ففكر وراجع نفسه وغيره ، ففتح الله عليه ، وتبين مطابقة المتشابه المحكم ، ازداد طمأنينة إلى معتقده ، وقوة في إتقانه ، انتهى كلام الزمخشري ، وهو مؤلف مما قاله الناس في فائدة المجيء بالمتشابه في القرآن .

ولما ذكر تعالى أول السورة ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب ) ذكر هنا كيفية الكتاب ، وأتى بالموصول ، إذ في صلته حوالة على التنزيل السابق ، وعهد فيه ، وقوله : ( منه آيات محكمات ) إلى آخره ، في موضع الحال ، أي : تركه على هذين الوجهين محكما ومتشابها ، وارتفع ( آيات ) ، على الفاعلية بالمجرور ؛ لأنه قد اعتمد ، ويجوز ارتفاعه على الابتداء ، والجملة حالية ، ويحتمل أن تكون جملة مستأنفة ، ووصف الآيات بالإحكام صادق على أن كل آية محكمة ، وأما قوله : ( وأخر متشابهات ) فأخر صفة لآيات محذوفة ، والوصف بالتشابه لا يصح في مفرد أخر ، لو قلت : وأخرى متشابهة لم يصح إلا بمعنى أن بعضها يشبه بعضا ، وليس المراد هنا هذا المعنى ، وذلك أن التشابه المقصود هنا لا يكون إلا بين اثنين فصاعدا ، فلذلك صح هذا الوصف مع الجمع ؛ لأن كل واحد من مفرداته يشابه الباقي ، وإن كان الواحد لا يصح فيه ذلك ، فهو نظير ( رجلين يقتتلان ) وإن كان لا يقال : رجل يقتتل ، وتقدم الكلام على أخر في قوله : ( فعدة من أيام أخر ) فأغنى عن إعادته هنا .

وذكر ابن عطية أن المهدوي خلط في مسألة : أخر ، وأفسد كلام سيبويه ، فتوقف على ذلك من كلام المهدوي .

( فأما الذين في قلوبهم زيغ ) هم نصارى نجران لتعرضهم للقرآن في أمر عيسى ، قاله الربيع ، أو اليهود ، قاله ابن عباس ، والكلبي ؛ لأنهم طلبوا بقاء هذه الآية من الحروف المقطعة ، والزيغ : عنادهم .

وقال الطبري : هو الأشبه ، وذكر محاورة‍ حيي بن أخطب وأصحابه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مدة ملته ، واستخراج ذلك من الفواتح ، وانتقالهم من عدد إلى عدد إلى أن قالوا : خلطت علينا فلا ندري بكثير نأخذ أم بقليل ؟ ونحن لا نؤمن بهذا ، فأنزل الله تعالى : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب ) الآية ، وفسر الزيغ : بالميل عن الهدى ، ابن مسعود ، وجماعة من الصحابة ، ومجاهد ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، وغيرهم .

وقال قتادة : هم منكرو البعث ، فإنه قال في آخرها ( وما يعلم تأويله إلا الله ) وما ذاك إلا يوم القيامة ، فإنه أخفاه عن جميع الخلق ، وقال قتادة أيضا : هم الحرورية ، وهم الخوارج ، ومن تأول آية لا في محلها ، وقال أيضا : إن لم تكن الحرورية هم الخوارج السبائية ، فلا أدري من هم . وقال ابن جريج : هم المنافقون ، وقيل : هم جميع المبتدعة .

وظاهر اللفظ العموم في الزائغين عن الحق ، وكل طائفة ممن ذكر زائغة عن الحق ، فاللفظ يشملهم وإن كان نزل على سبب خاص ، فالعبرة لعموم اللفظ .

( فيتبعون ما تشابه منه ) قال القرطبي : متبعو المتشابه إما طالبو تشكيك وتناقض وتكرير ، وإما طالبو ظواهر المتشابه : كالمجسمة إذ أثبتوا أنه جسم وصورة ذات وجه وعين ويد وجنب ورجل وأصبع ، وإما متبعو إبداء تأويل وإيضاح معاينة ، كما سأل رجل ابن عباس عن أشياء اختلفت عليه في القرآن ، مما ظاهرها التعارض ، نحو : ( ولا يتساءلون ) ( وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ) ( ولا يكتمون الله حديثا ) ( والله ربنا ما كنا مشركين ) ونحو ذلك ، وأجابه ابن عباس بما أزال عنه التعارض ، وإما متبعوه وسائلون عنه سؤال تعنت ، كما جرى لأصيبغ مع عمر ، فضرب عمر رأسه حتى جرى دمه على وجهه ، انتهى كلامه ملخصا .

( ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ) علل اتباعهم للمتشابه بعلتين : إحداهما : ابتغاء [ ص: 384 ] الفتنة ، قال السدي ، وربيع ، ومقاتل ، وابن قتيبة : هي الكفر . وقال مجاهد : الشبهات واللبس . وقال الزجاج : إفساد ذات البين . وقيل : الشبهات التي حاج بها وفد نجران .

والعلة الثانية : ابتغاء التأويل ، قال ابن عباس : ابتغوا معرفة مدة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل : التأويل : التفسير ، نحو ( سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ) وقال ابن عباس أيضا : طلبوا مرجع أمر المؤمنين ، ومآل كتابهم ودينهم وشريعتهم ، والعاقبة المنتظرة ، وقال الزجاج : طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم ، فأعلم تعالى أن تأويل ذلك ، ووقته يوم يرون ما يوعدون من البعث والعذاب يقول الذين نسوه أي : تركوه قد جاءت رسل ربنا أي : قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل ، وقال السدي : أرادوا أن يعلموا عواقب القرآن ، وهو تأويله متى ينسخ منه شيء ، وقيل : ( تأويله ) طلب كنه حقيقته وعمق معانيه ، وقال الفخر الرازي كلاما ملخصه : إن المراد بالتأويل ما ليس في الكتاب دليل عليه ، مثل : متى الساعة ؟ ومقادير الثواب والعقاب لكل مكلف .

وقال : الزمخشري : ( الذين في قلوبهم زيغ ) هم أهل البدع ، فيتبعون ما تشابه منه ، فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ، ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق ، ( ابتغاء الفتنة ) طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم ، و ( ابتغاء تأويله ) طلب أن يؤولوه التأويل الذي يشتهونه ، انتهى كلامه ، وهو كلام حسن .

التالي السابق


الخدمات العلمية