الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 162 ] وقد نظرت في القرآن فوجدته ينقسم إلى أقسام : أحدها الثناء على الإله ، والثاني : الأحكام ، والثالث : توابع الأحكام ومؤكداتها وهي أنواع :

أحدها : مدح الأفعال وذمها ترغيبا في ممدوحها ، وتزهيدا في مذمومها وهذا ضرب من التأكيد .

النوع الثاني : مدح الفاعلين ترغيبا للعباد في الدخول في مدحة رب العالمين التي هي زين للطائعين .

النوع الثالث : ذم الغافلين تنفيرا من الدخول في مذمة الله التي هي شين للعاصين . وقد قال بعضهم لسيد المرسلين وخاتم النبيين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين : { يا محمد اعطني فإن مدحي زين وهجوي شين ، فقال صلى الله عليه وسلم : ذلك رب العالمين } .

النوع الرابع : الوعد بأنواع الثواب الآجل ترغيبا في تحصيل مصالح الطاعات .

النوع الخامس : الوعيد بأنواع العقاب الآجل تنفيرا من المعاصي والمخالفات .

النوع السادس : الوعد بأنواع الثواب العاجل ، فإن النفوس قد جبلت على حب العاجلة وذلك كقوله تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب } ، { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا } .

وكذلك بيان ما في الفعل من المصلحة العاجلة كقوله : { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } ، وكقوله : { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } ، فإن في مصلحة الفعل حثا عليه وترغيبا فيه . [ ص: 163 ]

النوع السابع : الوعيد بأنواع العقاب العاجل ، فإن النفوس قد جبلت على الخوف من المكروه الآجل وذلك كقوله : { كتب عليكم القصاص في القتلى } ، وكقوله : { السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } ، وكقوله : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } .

وكذلك بيان ما في الفعل من المفسدة العاجلة كقوله : { فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى أن لا تعولوا } ، وكقوله : { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } ، فإن في بيان مفسدة الفعل زجرا عنه وتزهيدا فيه .

النوع الثامن : الأمثال وهي ضربان : أحدهما ما ذكر ترغيبا في الخيور وله مثالان . أحدهما قوله : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء } ، ذكر ذلك ترغيبا في النفقات وحثا على التبرعات .

المثال الثاني في مثل قوله تعالى : { كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها } ، ذكر ذلك ترغيبا في كلمة التوحيد .

الضرب الثاني من الأمثال : ما ذكر تنفيرا من الشرور وله مثالان . أحدهما قوله : { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } ، ذكره تنفيرا من النفاق . [ ص: 164 ]

الثاني قوله تعالى : { ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار } ، ذكره تنفيرا من كلمة الكفر .

النوع التاسع : قصص المرسلين وما فيها من ذكر إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين ، ذكره ترغيبا في اتباع المرسلين ، وتنفيرا من عصيان النبيين ، وكذلك اللوم والتقريع والتوبيخ على بعض الأفعال .

النوع العاشر : تمننه علينا بما خلقه لأجلنا لنشكره على إحسانه إلينا وإنعامه علينا ، وله أمثلة : أحدها قوله : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا ، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون } ، ذكر ذلك لنشكره على هذه النعم الجسام التي لا يكاد أحد يذكرها إلا عند اختلالها أو فقدها ، ثم صرح بالسبب فقال : { لعلكم تشكرون } .

المثال الثاني : قوله : { والله جعل لكم مما خلق ظلالا ، وجعل لكم من الجبال أكنانا ، وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم ، كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون } .

المثال الثالث : قوله : { الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } ، وأعم من ذلك كله قوله : { وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا } ، وكل شيء ذكره تمننا علينا كان ذلك مقتضيا لأمرين ، أحدهما : شكره على ذلك كما ذكرناه .

والثاني : إباحته لنا ، إذ لا يصح التمنن علينا بما نهينا عنه ، وقد تمنن علينا في كتابه بالمآكل والمشارب ، والملابس والمناكح ، والمراكب والفواكه ، والتجمل والتزين والتحلي بالجواهر ، فذكر تمننه بالضروريات والحاجيات ، والتتمات والتكملات ، وهو كثير في القرآن ، فمنه ما هو جالب للمصالح كقوله : [ ص: 165 ] { لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون } ، ومنه ما هو دارئ للمفاسد كقوله : { وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم } . ومن مدح الإله نفسه ما لا يخرج مخرج المدح بل يخرج مخرج تأكيد الأحكام كقوله : { والله بصير بما تعملون } ، ذكر ذلك ترغيبا في الطاعات ، وتنفيرا من المعاصي والمخالفات ، وكقوله : { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } ، فإنا إذا تأملنا نظره إلينا واطلاعه علينا استحيينا منه أن يرانا حيث نهانا ، أو يفقدنا حيث اقتضانا .

وكذلك قوله : { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } ، لم يذكر ذلك تمدحا بسمعه ، وإنما ذكره تهديدا لقائليه بخلاف قوله : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } ، إنما يتحقق الترغيب والترهيب بصفة السمع والبصر والعلم والقدرة والإرادة دون الحياة والكلام ، فإنهما لا يذكران إلا تمدحا ، أما الحياة ففي مثل قوله : هو الحي القيوم لا إله إلا هو .

وفي مثل قوله : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } وأما الكلام ففي قوله : { هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل } يريد بمن يأمر بالعدل : نفسه سبحانه وتعالى . فإن قيل كيف يتمدح بالحياة ولا يصح تمدح غيره بها لاشتراك الحيوانات فيها ؟ . قلنا : إنما يتمدح بحياة يختص بها بأزليتها وأبديتها وكونها غير مستفادة من أحد ، ولا شريك له في ذلك ، فلما انفردت به الصفات عن كل حياة ، صح التمدح بها لاختصاصها بما ذكرناه ، ولأنها تذكر تفرقة بينه وبين الأصنام التي هي أموات غير أحياء ، وإنما تمدح بالكلام في قوله : { هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل } ، وهو لأنه قابل به الأبكم الذي لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه ، فقابل الأمر بالعدل بالبكم الذي هو الخرس [ ص: 166 ] المانع من الكلام

وهذه الأحكام كلها والأنواع بأسرها شاهدة لما ذكرته من أن التأكيد والتكرير أنفع وأنجع من ذكر الشيء مرة واحدة ، فإن ما ذكرناه من توابع الأمر يتنزل منزلة تكريره . والله يسمع من يشاء من عباده ، فطوبى لمن فهم خطابه ، وتبع كتابه ، وقبل نصائحه ، فمن أفضل منائحه تفهم كتابه ، وتعقل خطابه ، ليتقرب بذلك إليه شكرا على ما أولاه من إبلائه ومنحه وإعطائه ، وشكره هو طاعته واجتناب معصيته ، ومن جملة شكره الثناء عليه والانقطاع إليه ، وقد يقع في هذا الكتاب من التكرير ما يدخل في بابين من المصالح فيذكر في أحد البابين لأجل النوع الذي يليق بذلك الباب ويكرر في الباب الآخر لأجل النوع الآخر المتعلق بالباب الآخر ، فما وقع من هذا كان تكريره في بابين لأجل أن فيه دلالتين على معنيين مختلفين ، فمعظم حقوق العباد ترجع إلى الدماء والأموال والأعراض ، وقد أوحى بذلك عليه السلام في حجة الوداع وصية مؤكدة بقوله : { دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا } ، وإنما شبهه بذلك لأنه كان عندهم في أعلى غايات الاحترام ، ثم أمر بتبليغ ذلك عنه بقوله : { ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب } ، ثم اعتذر إلى ربه بقوله : { اللهم هل بلغت ؟ فقالوا نعم . فقال : اللهم اشهد } أي اشهد عليهم باعترافهم أني بلغتهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية