الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                6145 6146 6147 ص: حدثنا يونس ، قال : ثنا سفيان ، عن الزهري ، سمع سهل بن سعد الساعدي يقول : " شهدت النبي -عليه السلام - فرق بين المتلاعنين ، فقال : يا رسول الله كذبت عليها إن أمسكتها " .

                                                حدثنا يونس ، قال : ثنا ابن وهب ، قال : ثنا مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، أن سهل بن سعد الساعدي أخبره : "أن عويمر العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري ، فقال له : أرأيت يا عاصم لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا ، أيقتله

                                                [ ص: 497 ] فتقتلونه ، أم كيف يفعل ؟ سل لي عن ذلك يا عاصم رسول الله -عليه السلام - ، فقال عاصم ، لعويمر : لم تأت بخير ; قد كره رسول الله -عليه السلام - المسألة التي سألته عنها ، فقال عويمر : : لا أنتهي حتى أسأله عنها ، فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله -عليه السلام - وسط الناس ، فقال : يا رسول الله ، أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه ، أم كيف يفعل ؟ فقال رسول الله -عليه السلام - : فقد أنزل فيك وفي صاحبتك ، فاذهب فائت بها ، قال سهل : : فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله -عليه السلام - ، فلما فرغا قال عويمر : : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله -عليه السلام - بطلاقها . قال ابن شهاب : فكانت سنة المتلاعنين "
                                                .

                                                حدثنا ابن أبي داود ، قال : ثنا الوهبي ، قال : ثنا الماجشون ، عن الزهري ، عن سهل بن سعد ، عن عاصم بن عدي قال : "جاءني عويمر . . . . " ، ثم ذكر مثله .

                                                التالي السابق


                                                ش: هذه ثلاث طرق أخرى صحاح :

                                                الأول : عن يونس بن عبد الأعلى أيضا ، عن سفيان بن عيينة ، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري . . . . إلى آخره .

                                                وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة : عن سفيان ، عن الزهري ، عن سهل نحوه .

                                                الثاني : عن يونس أيضا ، عن عبد الله بن وهب ، عن مالك ، عن محمد بن مسلم الزهري ، عن سهل .

                                                وأخرجه البخاري : عن إسماعيل ، عن مالك ، عن الزهري ، عن سهل بن سعد . . . . إلى آخره نحوه .

                                                ومسلم : عن يحيى بن يحيى ، عن مالك .

                                                [ ص: 498 ] وأبو داود : عن القعنبي ، عن مالك .

                                                والنسائي : عن محمد بن سلمة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن مالك .

                                                وابن ماجه : عن محمد بن عثمان ، عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم ، عن الزهري ، عن ابن شهاب ، عن سهل بن سعد .

                                                الثالث : عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن أحمد بن خالد الوهبي الكندي ، عن عبد العزيز بن عبد الله الماجشون ، عن محمد بن مسلم الزهري ، عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - .

                                                وأخرجه الطبراني : نا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز ، نا علي بن الجعد ، ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون ، عن ابن شهاب ، عن سهل بن سعد قال : "جاء رجل من بني العجلان إلى عاصم بن عدي ، فقال : يا عاصم ، أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا ، أيقتله فتقتلونه ، أم كيف يفعل ؟ سل لي رسول الله -عليه السلام - ، فكره رسول الله -عليه السلام - المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله -عليه السلام - ، فلما جاء عاصم إلى أهله ، جاء عويمر فقال : ماذا قال لك رسول الله -عليه السلام - ؟ فقال : قد كره رسول الله -عليه السلام - المسألة التي سألت عنها ، فأقبل عويمر حتى سأل رسول الله -عليه السلام - في وسط الناس فقال : يا رسول الله ، أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه ، أم كيف يفعل ؟ فقال : قد نزل فيك وفي صاحبتك ، فاذهب فائت بها . قال سهل : فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله -عليه السلام - ، فلما فرغا من تلاعنهما قال : يا رسول الله ، كذبت عليها إن أمسكتها ، قال : فطلقها قبل أن يأمره رسول الله -عليه السلام - بطلاقها ، فكان فراقه إياها سنة بين المتلاعنين " .

                                                [ ص: 499 ] قوله : "أرأيت " أي أخبرني .

                                                قوله : "أيقتله " الهمزة فيه للاستفهام .

                                                وفيه : تحرز في السؤال لئلا يصرح بالقذف ; فيجب عليه الحد في الرجل ، ولا يخلصه منه لزوجته إلا لعانه ; خلافا للشافعي في إسقاطه عنه الحد في الرجل بلعان زوجته ; لأنه عنده كحكم التبع ، ولأنه في ترك تسميته لا حد عليه حتى يصرح باسمه خلافا للشافعي في حده وإن لم يسمه إن لم يلتعن ، أو لعله كان يعتقد أن ذلك كان يجب عليه في زوجته فلذلك لم يصرح ، أو أبهم الأمر حتى يرى كيف يكون الحكم فيه فيعمل بحسب ذلك من كتمه أو إبدائه .

                                                وقال عياض : وقوله : "أيقتله فيقتلونه ؟ " يحتمل أن يكون سؤالا عن الحكم إذا فعله ، ويحتمل أنه علم الحكم ولكنه قال على سبيل التوصل إلى وجه آخر غيره يصل به إلى شفاء غيظه وإزالة عثرته .

                                                قال الإمام : وجعل بعض الناس حجة على الزوج إذا قتل رجلا وزعم أنه وجده مع امرأته أنه يقتل به ولا يصدق إلا ببينة ; لأنه -عليه السلام - لم ينكر عليه ما قال .

                                                قال القاضي : قد يكون سكوته -عليه السلام - لئلا يتسبب بذلك أهل الأذى والشر إلى القتل ويدعون هذا السبب لكل من قتلوه .

                                                وقد اختلف العلماء في هذه المسألة : فجمهور العلماء على أنه يقتل به إن لم يأت بأربعة شهداء ، وهو قول الشافعي وأبي ثور ، قالا : ويسعه قتله فيما بينه وبين الله تعالى . وقال أحمد وإسحاق : يهدر دمه إذا جاء بشاهدين .

                                                قال عياض : اختلف أصحابنا هل يهدر دمه إذا قامت البينة إذا لم يكن المقتول محصنا ؟ فعند ابن القاسم : هما سواء ويهدر دمه واستحق الدية في غير المحصن ، وقال ابن حبيب : إن كان المقتول محصنا فهذا الذي ينجي قاتله البينة من القتل ، وقد اختلف عن عمر - رضي الله عنه - في هدر دم قتل هذا ، وروي عن علي - رضي الله عنه - : يقاد منه .

                                                [ ص: 500 ] وقال أبو عمر : لا خلاف علمته بين العلماء فيمن قتل رجلا ثم ادعى إنه إنما قتله لأنه وجده مع امرأته بين فخذيها أو نحو ذلك من وجوه زناه بها ، ولم يعلم ما ذكر عنه إلا بدعواه أنه لا يقبل منه ما ادعاه ، وأنه يقتل به إلا أن يأتي بأربعة شهداء يشهدون أنهم رأوا وطأه لها وإيلاجه فيها ، ويكون مع ذلك محصنا مسلما بالغا .

                                                قوله : "قد كره رسول الله -عليه السلام - " قيل : يحتمل أنه كره قذف الرجل امرأته ورميها في غير بينة لاعتقاده أن الحد يجب عليه ، وذلك قبل نزول حكم اللعان ، بدليل قوله في الحديث الآخر لهلال بن أمية : "البينة وإلا حد في ظهرك . . . . " الحديث . وفيه نزل : والذين يرمون أزواجهم الآية ، ويحتمل أنه كره السؤال لما فيه من قبح النازلة والفاحشة وهتك ستر المسلم ، أو لما كان فيه من نهيه عن كثرة السؤال إما سدا لباب سؤال أهل الشغب من الجهلة والمنافقين وأهل الكتاب ، أو لما يخشى من كثرة السؤال من التضييق عليهم في الأحكام التي لو سكتوا عنها لم يلزموها وتركوا إلى اجتهادهم كما قال : "اتركوني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم أنبياءهم " .

                                                قلت : المسائل إذا كانت فيما يضطر إليها السائل فلا بأس بها ، وقد كان -عليه السلام - يسأل عن الأحكام فلا يكره ذلك ، وإن كان على جهة التعنيت فهو منهي عنه .

                                                وعاصم بن عدي هذا إنما سأل لغيره ، ولعله لم يكن به ضرورة إلى ذلك .

                                                قوله : "وسط الناس " بسكون السين ; لأن الوسط بالسكون يقال فيما كان متفرق الأجزاء غير متصل ، كالناس والدواب وغير ذلك ، فإذا كان متصل الأجزاء كالدار والرأس فهو بالفتح ، وقيل : كل ما يصلح فيه "بين " فهو بالسكون ، وما لا يصلح فيه "بين " فهو بالفتح ، وقيل : كل منهما يقع موقع الآخر وكأنه الأشبه .

                                                [ ص: 501 ] قوله : "فقد أنزل فيك وفي صاحبتك " يحتمل أنه -عليه السلام - عرف أن عويمرا صاحب المسألة حين كرر السؤال له عليها ; إما بما دل عليه من قوله أو حاله مما لم يذكر في الحديث ، أو بوحي أوحي إليه عند نزول آية اللعان ، وفيه أن القرآن لم ينزل جملة واحدة إلى الأرض وإنما نزل بحسب الوقائع والحوادث ، آية فآية ، سورة فسورة .

                                                قوله : "فتلاعنا " أجمع المسلمون على صحة حكم اللعان بين الزوجين بهذا الحديث إذا ادعى رؤية ، وكذلك قال الجمهور إذا نفى ولدا ، واختلفوا فيما بعد ذلك ، فقالت فرقة : لا لعان في القذف المجرد وهو أحد قولي مالك وقول الليث وأبي الزناد والبتي ويحيى بن سعيد ، وأن في هذا الحد بكل حال .

                                                وقال الكوفيون والشافعي والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث باللعان في القذف المجرد ، وروي عن مالك أيضا .

                                                واختلفوا إذا أقام الزوج البينة على زناها : فعند مالك والشافعي : يلاعن ; إذ لا عمل للشهود في نفي الولد .

                                                وقال أبو حنيفة وداود : إنما اللعان لمن لم يأت بأربعة شهداء ، فمن أتى بهم فلا لعان .

                                                واختلفوا في اللعان ينفي الحمل وفي وقته ، فذهب الكوفيون إلى أنه لا لعان به إلا أنه ينفيه ثانية بعد الولادة .

                                                وهو قول عبد الملك بن ماجشون . كذا حكاه ابن عبد البر .

                                                وذهب الشافعي إلى أن كل من نفى الحمل يلاعن ، وهو قول أحمد وداود وأبي ثور وحكي عنه أنه لا يلاعن حتى تلد ، وهو المعروف عن عبد الملك .

                                                وروي عن مالك وعبد العزيز وأشهب .

                                                وعن مالك وأصحابه في ذلك ثلاثة أقوال أيضا : يلاعن إذا ادعى رؤية واستبراء معا ، ويلاعن بالجملة دون استشهاد ، ويلاعن بدعوى الاستبراء ، ولا يلاعن إن لم يدعه إلا أن تلد لأقل من ستة أشهر من يوم الرؤية .

                                                [ ص: 502 ] ونحوه عن أبي يوسف ومحمد بن الحسن إلا أن يكون مقرونا بحمل ، أو رآه فلم ينكره .

                                                قوله : "وأنا مع الناس " فيه أن سنة التلاعن أن لا يكون مكتوما ويكون مشهودا بحضرة الناس ، وأن سنته أن يكون بحضرة الإمام أو من يستنيبه الإمام لذلك من الحكام ، وهذا إجماع أن لا يكون إلا بالسلطان .

                                                قوله : "كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله -عليه السلام - " قال الخطابي : يشبه أن يكون إنما دعي به -أي إلى هذا القول - لأنه لما قيل له : لا سبيل لك عليها ، وجد من ذلك في نفسه شيئا ، فقال : كذبت عليها إن أمسكتها ، هي طالق ثلاثا يريد بذلك تحقيق ما مضى وتوكيده . وقال عياض : احتج بهذا الشافعي على جواز الطلاق ثلاثا في كلمة واحدة .

                                                وانفصل أصحابنا عن هذا بأنها قد بانت منه باللعان ، فوقعت الثلاث على غير زوجة فلم يكن لها تأثير ، وقال الخطابي : وقد يحتج بذلك من يرى أن الفرقة لا تقع بنفس اللعان حتى يفرق بينهما الحاكم ، وذلك أن الفرقة لو كانت واقعة بينهما لم يكن للتطليقات الثلاث معنى .

                                                قيل : يندفع هذا بما ذكرناه عن عياض آنفا ، وأيضا فإن الفرقة لو لم تكن بنفس اللعان لكانت المرأة في حكم المطلقات ثلاثا ، وقد أجمعوا على أنها ليست في حكم المطلقات ثلاثا فدل أن الفرقة واقعة قبل .

                                                قلت : قال الحنفية : لا تقع الفرقة بينهما بنفس اللعان حتى يحكم القاضي بينهما بالفراق ، لقوله : "ففرق بينهما " وهذه إشارة للحكم ، وأيضا فإن هذا من الفسوخ التي يحتاج فيها إلى حضرة الحاكم فإنها لا تقع إلا بهم .

                                                قوله : "فكانت سنة المتلاعنين " أي الفرقة بينهما .




                                                الخدمات العلمية